محمود درويش والصدمة العربية

0
76

“مرحلة ما بعد بيروت أسميها بمرحلة الصدمة العربية”، هذا ما صرّح به  محمود درويش  لجريدة “اللوموند” الفرنسية بعد خروجه من حصار بيروت مباشرة (1982)  حين سأله الصحفي “ماذا تقصد بالصدمة العربية؟” أجابه درويش:  بأنه حين كان يعيش في فلسطين المحتلة “كان كل ما هو أسود في “إسرائيل”، يقابله أبيض في الجانب العربي (حسب وعيه آنذاك)، ومن هنا كان يأتي الأمل” وفق تعبيره. بعد عام 1971 وبعد أن غادر إلى منفاه الأول القاهرة، وزار عدة دول عربية، شعر بأن هذا “الخارج العربي” كان بعيداً عن الصورة التي رسمها في خياله. تدريجياً أدرك درويش بأن “المعركة الوحيدة التي عاشها وشاهدها كل مواطن عربي، هي المعركة التي شنّتها الأنظمة العربية ضد الفلسطينيين وضد المواطن العربي نفسه، صدمتي العربية هي هذه!” ويختم إجابته بقوله إن “بيروت كانت التتويج والترجمة الدموية لصدمتي العربية..بيروت كانت الفضيحة الكلية”.  

أثرت تلك الصدمة العربية على درويش، وإحتار في تفسير علتها. حين سأله صديقه الشاعر اللبناني شربل داغر عن أسباب سلبية الموقف العربي خلال حصار بيروت آنذاك، أجابه درويش: “إحساسي يقول لي بوجود خلل ما، دون أن أستطيع تعريفه. النظام العربي يبدو  لي واحداً، والحاكم العربي واحداً ومتكاثراً. انتقلنا من فكرة الوحدة العربية إلى الأمن الإقليمي، انتقلنا من الأمن الإقليمي إلى الأمن الطائفي، ومن الطائفي إلى العائلي”. لاحقاً سيسلط درويش سهام سخريته اللاذعة على الحكام العرب في نصّه الشهير “حكم الدكتاتور الموزونة” التي نشرها آنذاك في مجلة “اليوم السابع”، وللأسف قرر لاحقاً إلغائها من كافة أعماله المنشورة  (منشورة حالياً في الانترنت).  أما رأيه حول سلوك الجماهير العربية إبان حصار بيروت، فقال: “هنا تتخذ مسألة مراقبة الوضع العربي شكل الدمعة، لأنه ليس من حقنا أن ندين الضحية بل أن نفسرها”. لا يوجد باعتقادي أبلغ دلالة على ما قصده درويش بقوله، من تلك الصورة الفوتغرافية التي استخدمت كغلاف لكتابه الصادر منتصف الثمانينات بعنوان “في وصف حالتنا”: أم وإبنتها  كلاهما يسيران بعكازة (المصور ماهر العطار حين إلتقى الأم مصادفة بعد ثلاثة وثلاثين عاماً في أحد شوارع بيروت، كانت قد فقدت ساقها الثانية!).

مبرر حياتي الوحيد هو قصيدتي

سأله  شربل داغر: “أجبرت خلال الحصار على أن تكون مع نفسك، فماذا كانت حصيلة التأمل؟”، فأجابه درويش بثقة: “إزددت قناعة – وهي قناعة نهائية – بأنني يجب أن أعمل على شعري … راجعت حياتي على هذا الأساس ووجدت الإجابة عن السؤال الصعب: ما هو مبرر وجودي؟ وجدت أن مبرر حياتي الوحيد هو قصيدتي”. درويش واضح فيما يتعلق بمهمته القادمة في الحياة. وهذا ما فعله مباشرة  بعد خروجه من بيروت عبر مجموعة من القصائد الشعرية الجميلة التي كتبها و نشرها لاحقاً.  فبالاضافة الى ملحمة “مديح الظل العالي” الشهيرة يمكننا الاشارة إلى مجموعة من القصائد الهامة التي  تنتمي لتلك الفترة،  ومنها – على سبيل المثال لا الحصر –  قصيدة ” موسيقى عربية” (نشرت في الكرمل عدد اكتوبر 10/ 1983 ضمن مجموعة من تسعة عشر قصيدة بعنوان “لا تصدق فراشاتنا”)، ويقول مطلعها: “(ليتَ الفتى حَجَرٌ) يا ليتني حَجَرُ… أكُلّما شَرَدَتْ عينانِ شرّدَني هذا السحابُ سحاباً”،  وهي تعكس حالة اليأس التي  انتابت درويش بعد بيروت، كما يبدو أنه استلهم مطلعها من قصيدة شهيرة للشاعر الجاهلي تميم بن مقبل يقول فيها “ما اطيبَ العيشَ لو أن الفتى حجرٌ تنبو (ترتد)الحوادثُ عنهُ وهو ملمومُ (متماسك)”، والمقصود بذلك تمني الشاعر الجاهلي- الذي كان يشعر باليأس في حياته –  بأنه لو كان حجراً صلباً متماسكاً قادر  على صد  نوائب ومصائب الزمن التي تحل عليه. حسب تحليل الراحل إلياس خوري فقد صارت تلك القصيدة  للشاعر تميم “عزاء لليأس بيأس مصنوع من الايقاع”، وهذا ما يفسر استلهام درويش لها في قصائده (قصيدة حوار في باريس – موسيقى عربية). لاحقاً  تعرفنا على قصيدة درويش عبر غناء شجي للفنان البحريني الراحل سلمان زيمان في ألبومه الجميل “من أغاني الأشواق” عام 1988، حيث لن تخفى على المستمع الصلة الوثيقة بين  أغنية “موسيقى عربية”  والتضامن مع نضال الشعب الفلسطيني آنذاك في انتفاضته الأولى “انتفاضة الحجارة” عام 1986. قصيدة “موسيقى عربية” نموذج  فريد بالفعل لجمال النصّ الدرويشي حتى في تأويلاته المتعددة.

بعد إقامة قصيرة في دمشق غادر درويش إلى تونس. آنذاك كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قد أمر بتخصيص فندق “سلوى” في منطقة حمام الشط جنوب العاصمة تونس، كمقر للقيادة الفلسطينية التي غادرت بيروت بحرا بعد الحصار. درويش سيتذكر لقائه بعرفات في تونس على النحو التالي: “غادرت دمشق إلى تونس ورأيت خلالها الرئيس عرفات، والأخوان في مشهد تراجيدي، رأيت الثورة الفلسطينية تقيم في فندق “سلوى”  على شاطئ البحر. كان المشهد مؤلماً جدا ويستدعي كتابة رواية عن هذا المصير”. ملاحظة درويش عن ضرورة كتابة رواية عن هذا المصير، ستتحقق بعد سنين على يد الروائية الفلسطينية رشا عبدالله سلامة (رواية فندق سلوى 2019). في إحدى مواضع الرواية تخاطب إحدى الشخصيات ياسر عرفات: “أريد مغادرة الفندق سيدي الرئيس… ليس بوسعي أن أبقى في سجن يحمل مسمى فندق”.

للأسف ما اعتبره درويش “مشهداً تراجيدياً” سيتحول إلى مأساة فعلية على أرض الواقع، ففي عام 1985 قصفت اسرائيل بوحشية الفندق في محاولة منها لاغتيال كامل القيادة الفلسطينية التي كانت تنوي الاجتماع فيه . (لاحقاً، وبعد سنين طويلة، رفض صاحب فندق “سلوى”،  طلب السلطات التونسية تحويل فندقه إلى مأوى لمصابين محتملين بفيروس كورونا، على اعتبار أن ذلك يسيء للسمعة التاريخية للفندق).

شجع عرفات درويش على إعادة اصدار مجلة “الكرمل”، ووعده بضمان تمويلها. منح ذلك شحنة عالية من الطاقة والحماس لدرويش انتشلته من الإحباط واليأس بعد تجربة حصار بيروت.  “صدرت الكرمل من قبرص، فيما كنت أنا أحررها من باريس” حسب ما ذكره  لاحقاً.

منذ صدور عددها الأول مطلع الثمانينات، كانت “الكرمل” مشروعا ذو أفق ثقافي /سياسي تنويري بإمتياز (يحتفظ أرشيف الشارخ  بأعدادها التسعون كاملة)، وطيلة حياته ارتبط درويش بعلاقة حميمية خاصة بهذا المشروع.  هناك جانب آخر في المجلة جدير بالانتباه أيضا، إذ يمكن النظر أيضا إلى “الكرمل”  بوصفها مرآة لسيرة درويش الفكرية والشعرية. فمن المعروف أن محمود درويش لا يوقع تاريخ نصوصه النثرية وقصائده، مما قد يؤدي إلى الجهل بالسياق التاريخي  للنص، ويسهم في نشؤ جدل لا ينتهي حول تأويله لاحقاً. تساعدنا “الكرمل”  على “توثيق الزمن الكتابي للقصائد وربطها بمجريات الأحداث والظروف المقترنة بالقصائد”، كما أشار الى ذلك الباحث عماد الطراونة.

نشر درويش العدد السابع للكرمل من نيقوسيا في يناير 1983، وتضمن  الافتتاحية المعنونة “حلم مسيج بالمدى مفتوح”  وفيها  كتب درويش عن الوطن “الذي نحلم بابداعه على شاكلة الحلم المسيج بالمدى المفتوح، القادر على استيعاب الاختلاف والآخر”.  كما دعى درويش إلى “إضفاء الديمومة على ما صحّ من وسائلنا في العمل، وفي تصويب الخطى، دون أن نحذر الدخول في جحيم النقد الذاتي، الذي يطمح إلى تحقيق تطابق أرقى بين طهارة الرسالة وبين أيدي حامليها”. وبعد أقل من عام من إعادة اصدار الكرمل من نيقوسيا وتلك الافتتاحية المتفائلة، إندلعت حرب المخيمات الفلسطينية المؤسفة في أعقاب الانشقاق في حركة فتح، بتدخل من سوريا وليبيا آنذاك، وبدأ “الفصل المأساوي الجديد في سيرة الفلسطيني” حسب تعبير درويش. وبدا وكأن “الصدمة العربية” التي كان حصار بيروت تتويجاً لها، ستتعمق هذه المرة عبر صراع الأشقاء الفلسطينين بتدخل عربي سافر. في العدد العاشر من “الكرمل” عام 1983، نشر درويش افتتاحيته الشهيرة “في اللحظة المريضة”  حيث يقول  “من المؤلم أن الخلاف بين أبناء “الخندق الواحد” يكون دائماً أشدّ الخلافات عنفاً.تلك مسألة أخلاقية تحتاج معالجة حلها إلى مستوى أخلاقي آخر. نحن لا نعرف كيف نختلف، ولا نعرف كيف نتفق، ألأن فينا من موروث الطبع العشائري ما يجعل لغة تخاطبنا مع المبادئ والأفكار الكبرى هشّة لا تملك مقومات الصمود أمام امتحانات المسؤولية…أم لافتقار الحياة السياسية إلى إطار مرجعي، حين غادرتنا الضوابط القومية في هجرة قد تطول؟”.

 ثم يضيف: “على الأسئلة أن تبقى بريئة لتوفير ما هو شرط حياتنا معاً: تأسيس العلاقات الفلسطينية – العربية على قاعدة تصون شروط الاتفاق، وتصون حدود الخلاف… نحن في حاجة ماسة إلى مراجعة شاملة للضمير شرط ألا يكون الضمير هو الثمن..فما بعد بيروت لا يمكن أن يكون امتداداً ميكانيكياً لما قبل بيروت. ولكن المناداة بالبداية البيضاء، أي بالصفر، هي ضرب من العدمية، والتخلي عن تجربة، وتراكم، يشكّل التفريط به نوعا من أنواع العراء الانتحاري.”

اختار درويش الوقوف مع الشرعية الفلسطينية ممثلة في ياسر عرفات في ذلك النزاع الفلسطيني – العربي، وكلفه ذلك غاليا على صعيد التشهير به من قبل الفصائل الفلسطينية والعربية المعارضة لعرفات (خاصة اليسار). استنزف ذلك الكثير من أعصابه خلال عقد الثمانينات، على الرغم من مساعيه المستمرة للعب دور الوسيط بين الأطراف المتناحرة، غالباً بدون جدوى. ويبدو أن عقد الثمانينات سيعرض درويش لموجة ثالثة من “التخوين” ممن يفترض أن يكونوا حلفائه ورفاقه. الأولى، كما رأينا سابقا،  كانت بعد مشاركته مع سميح القاسم في مؤتمر الشباب في صوفيا عاصمة بلغاريا عام 1968، والثانية بعد اختياره القاهرة كمنفى له عام 1971، والثالثة بعد وقوفه مع عرفات في أعقاب الانقسام في أوساط منظمة التحرير الفلسطينية بعد الخروج من بيروت.  الموجة الثالثة – باعتفادي – ستكون أشد وطأة، وأكثر تعقيداً من ناحية ملابساتها، حيث أنها ارتبطت بمناورات وتقلبات في تحالفات عرفات مع مختلف الأنظمة العربية (خاصة الأردن والعراق). ربما ساهم كل ذلك في دفعه للابتعاد التدريجي عن الانخراط اليومي في مشاكل الخلافات الفلسطينية الداخلية، وتفضيله للانكفاء والعزلة في منفاه الباريسي حتى مطلع التسعينات، ولكنها عزلة أثمرت أجمل مراحله الإبداعية: خريفه الشعري!

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا