من كوبا التي أحبّها ماركيز

0
81

بث أول حلقتين من مسلسل “مائة عام من العزلة”

كيف يمكن لي أن أكتب مقالاً يجمع دولة كوبا وغابرييل غارثيا ماركيز دون أن أفرط في الحديث عن كل واحد منهما على حِدَة؟ رغم كل المشتركات بينهما، لكن الحديث عنهما معا ينفرط عقده معي دائماً!. كلاهما رمز للواقعية السحرية حول العالم ومعقل الإشتراكية الثورية وصوت دائم صادح بالحرية.

الواقعية السحرية لغابرييل باتت كل الدنيا  تعرفها من خلال رواياته التي ذاع صيتها في الشرق والغرب وشخصياته التي سافرت مع القرّاء إلى جميع أنحاء الأرض، فحوّلته من كاتب كولومبي الى الأب الروحي لأدب الواقعية السحرية في كل الدنيا.

أما الواقعية السحرية لكوبا فتتمثل في كينونة هذه الجزيرة الكاريبية الإستوائية الساحرة، بموقعها الخلاب وتكوينها السكاني الذي جمع كل أعراق الناس في أرض واحدة، وتحمل في عروقها دماء إفريقية وآسيوية وأوروبية وسكان أصليين، تنوع آسر حررها من قيود المحلية وقادها الى الآفاق الكونية الرحبة، فكانت دائماً في مقدمة ركب الحداثة بالنسبة لجيرانها اللاتنيين وبالنسبة للدنيا.

أول دولة في أمريكا اللاتينية يصلها ويرسل منها البث الإذاعي والتلفزيوني، وتنشأ فيها دور السينما والمسارح والنوادي التي تجمع المثقفين من كتّاب وشعراء وفنانين وصنّاع السينما والمسرح من جميع أنحاء القارة اللاتينية وأوروبا … المثقف الذي لا يحجّ الى كوبا على الأقل مرة في العمر فإن ثقافته لم تكتمل. هكذا كان يقال.

والسينما هي إحدى المشتركات الكثيرة التي جمعت و تجمع في مقالي هذا غابرييل غارثيا ماركيز و كوبا، ففي السادس من شهر ديسمبر الماضي (2024)، خلال الدورة ال 45 لمهرجان “السينما الجديدة لأمريكا اللاتينية” تمّ بث العرض الأول لأول حلقتين من السلسلة التلفزيونية “مائة عام من العزلة” التي أنتجتها شركة نيتفليكس على شاشة سينما “يارا” أشهر وأعرق دور السينما في العاصمة الكوبية “هافانا”.

إختيار كوبا كأول بلد  لهذا العرض الأول الخاص وصف بأنه “إسقاط خاص”،  فغابرييل كان صديقاً مقرباً جدا لفيديل كاسترو، وعموداً مؤسساً لمهرجان السينما الجديدة لأمريكا اللاتينية الذي إستضافته كوبا في دورة العام المنتهي، وأحد أعضاء لجنة تحكيمه ومديراً له حتى لحظة وفاة في سنة 2014 عن عمر يناهز ال 87 عاماً، وفي السطور التالية أترجم   ماقاله غابرييل عن هذا المهرجان في مقابلة أجرتها معه صحيفة نيويورك تايمز عام 1989:

“الفكرة من هذا المشروع هي صوغ سينما لاتينية أمريكية موحّدة، تعترف بأن كل بلد في القارة له شخصيته الخاصة وثقافته المميزة، لكن مع الأخذ في الحسبان  جذورنا المشتركة”، واستعمل ماركيز في شرح عبارته أعلاه عبارة موسيقية ملهمة وجميلة جداً  هذه هي ترجمتي لها: “المسافة بين التانغو والسالسا كبيرة جداً، لكن العالم عرفها كلّها بأنها موسيقى لاتينية أمريكية”.

الواقعية السحرية جمعت ماركيز بالجمهور الكوبي في ليلة السادس من ديسمبر هذا العام باللقطات التي بثّها مراسلو الأخبار الفنية و الثقافية حول العالم لتلك الطوابير الطويلة التي أصطف فيها رجال ونساء وأطفال كوبا أمام أبواب دار سينما يارا منذ ساعات النهار في إنتظار هذا العرض الأول الذي أنتظره كل القراء في العالم للرواية الأشهر “مائة عام من العزلة”، رغم الواقع الصعب الذي تمرّ به كوبا في السنوات الأخيرة من أزمة إقتصادية خانقة جعلت من الذهاب إلى السينما رفاهية لا ينالها غالبية الكوبيين، وإنقطاع التيار الكهربائي عن كافة أنحاء البلد الذي تناقلت أخباره وكالات الأنباء قبل أيام قليلة من إنطلاق الدورة ال 45 للمهرجان  بسبب أعطال في المحولات الرئيسية التي هرمت مثلما هرمت وتهدمت كل البنى التحتية في كوبا، والمتسبب الرئيسي فيها هي العزلة المفروضة على كوبا بسبب العقوبات الإقتصادية عليها منذ أكثر من خمسين عام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم عن ذلك مايزال لكوبا سحرها رغم واقعها الأليم.

أن  يبث في كوبا بالذات العرض التجريبي الأول لأول حلقتين من سلسلة “مائة عام من العزلة” لهو بالفعل إسقاط مستحق، كما تمّ وصفه بالفعل. فبعد أكثر من خمسين عام من العزلة، فإن كوبا تخرج للدنيا بأن بُثت من أرضها أول صور ومشاهد حلقات  “مائة عام من العزلة” لعاشق كوبا الأثيرغابرييل غارثيا ماركيز.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا