في الجزء الأول من ثلاثية ” أولاد الغيتُّو” لإلياس خوري

0
125

فلسطينيون يسرقون حياتهم من فم الموت

وأنا أقرأ الجزء الأول من رواية “أولاد الغيتو” للأديب اللبناني الياس خوري، بعنوان “اسمي آدم”، وهي الرواية التي صدرت في العام 2016 في ثلاثة أجزاء: “اسمي آدم”، “نجمة البحر”، “رجل يشبهني”، والتي تسلط الضوء على القضية الفلسطينية وفي ذهني ما يحدث الآن في غزة وما يرتكبه الصهاينة من جرائم قتل وتدمير وتشريد وفصل عنصري وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني الصامد.

تدور أحداث الرواية حول شخصية آدم دنون وهو أحد اللاجئين من مدينة اللدّ الفلسطينية، وفيها يركز الكاتب على المآسي التي حدثت في تلك المدينة التي سقطت في أيدي الصهاينة يومي الأحد والاثنين 11 و12 تموز 1948. وفي اليوم الثالث بدأ الطرد الشامل لسكّان المدينة واللاجئين إليها من القرى المجاورة، وكما يقول الكاتب “هوت وتخلّعت واندثرت”، حيث جرت المذبحة الكبرى هناك، ومن خلال آدم دنون وهو بطل الرواية الذي يعيش في عزلة في نيويورك تبدأ الحكاية بتسجيل تلك الأحداث، فيبدأ برواية حكايته عبر دفتر مذكراته، موثقاً تلك المآسي التي عاشها وأسرته في الغيتو مستنداً إلى روايات شهود عيان، متنقلاً في سرد حكايته بين الماضي والحاضر، متتبعا النكبة الفلسطينية وآثارها على الشعب الفلسطيني.

يقول الكاتب “لم يبدأ يوم الحشر اللدّاوي حين اجتاحت الفرقة 89 التي يقودها موشيه دايان المدينة بسيّاراتها المدرّعة القادمة من ناحية بن شيمين، بل بدأ بأفواج اللاجئين الذين اجتاحوا المدينة حاملين حكايات الهول التي عاشوها، وكيف أجبرهم الجيش الإسرائيلي على مغادرة قراهم من دون أن يسمح لهم بدفن موتاهم”، فحوّلوا احتلال اللدّ من معركة إلى مذبحة رهيبة.

أكثر من خمسين ألف إنسان أُجبروا على مغادرة اللّد بالقوة والعنف، ارتكبوا مذبحة بهدف الطرد “وصولاً إلى وضع من تبقّى في قفص”. حدث لهم ما لم يكن ممكناً تصديقه، شعب كامل سيق إلى الذبح، “وجدوا أنفسهم يتدافعون في مسيرة الموت، التي أمرتهم بها قوّات البالماح التي اجتاحت المدينة”، جثث ممزّقة على حيطان جامع دهمش، أشلاء آدمية في الطرقات وحيوانات سائبة، وذباب يفترس الأموات والأحياء على حد سواء. ولم يكن يعرفوا بأن اسم حيّهم هو الغيتو، كل ما يعرفونه أنّهم أحياء، علماً بأن “الغيتو هو اسم أحياء اليهود في أوروبا”.

“هؤلاء الحمقى لا يعرفون أنّه لا توجد في بلادنا غيتوات، وأنّنا نطلق على أحياء اليهود اسم حارة اليهود، كغيرها من حارات المدن”.

عاش مٓن تبقى من أهل اللدّ مأساة رهيبة في غيتو سيّجه الإسرائيليون بالأسلاك الشائكة “في مناخ يشبه يوم الحشر”، وقد حوّلوا اللدّ إلى معسكر اعتقال تُحيط به المقابر من كلّ الجهات ليعيش منٓ فيه أذلاء، لاقوا صنوف العذاب والتيه والموت كالخراف، “أمهات يهدهدن أطفالهنّ، ورجال أنهكهم التعب والخوف، ورائحة موت”. الهاغاناه والبالماح عند دخولهم القرى العربية، كانوا يختارون مجموعة من الشباب، يأخذونهم جانباً، ثم يقومون بإعدامهم رمياً بالرصاص.

ما أشبه اليوم بالبارحة، هذا هو حال الكيان الصهيوني منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا يقوم بنفس المجازر بل أشنع وأبشع منها وأفظع. فإسرائيل كما يروي لنا الياس خوري “حوّلت حيوات ثلاثة أجيال من الفلسطينين إلى نكبة مستمرّة. الإسرائيليون الذين راهنوا على نسيان الفلسطينين لحكايات نكبتهم، قاموا بحماقة من يمتلك القوّة بفرض نكبة مستمرّة على الفلسطينين”.

مات مفيد شحادة معلقاً على الأسلاك الشائكة “مثل عصفور انطعجت رقبته وتناثر ريشه، وهوى فاتحاً ذراعيه” وكان موته بدايةً العلاقة بين أولاد الغيتو والموت، وعليه سيبقى مفيد شحادة في الذاكرة الشهيد الأول في الغيتو. أما خارج الغيتو فقد كان الأموات لا يحصى لهم عدد، وكان على من في الغيتو التقاط الجثث من الشوارع والبيوت لدفنها أو إحراقها، فكان مشهد الموت الذي صار أكفاناً يحملها شبّان اللدّ إلى المقابر الجماعية طقساً يومياً مما تولدت الأمراض لديهم وظل شبح الخوف من الموت الذي استوطن الغيتو يلاحقهم، فالناس هناك يسرقون حياتهم من فم الموت، “فأهل الغيتو الذين حاولوا التأقلم مع القفص الذي وُضعوا فيه، كانوا يفاجئون دائماً بأن كارثتهم كانت بلا قعر، وبأنّ عليهم في كلّ يوم أن يقتنصوا حيواتهم”.

وهكذا تم تعميم ما جرى في اللدّ على جميع المدن الفلسطينية، فأقام من بٓقى من سكّان الرملة ويافا وحيفا وعكا في غيتوات مغلقة مسيّجة بالأسلاك الشائكة، فانحفر الخوف عميقاً في الوعي الفلسطيني “بحيث صار الغيتو علامة شعب كامل”.

كما أن القرى في الجليل والمثلث تحولت إلى أماكن مقفلة بالحكم العسكريّ، وكان الهدف من ذلك الإذلال والإفقار، وشلّ حركة الناس ومنعهم من التنقُّل بحثاً عن عمل وبالتالي يستسلمون لمصيرهم ويسهل على الاحتلال مصادرة أراضيهم.  ولم يترك الصهاينة سكاّن اللدّ إلى حالهم بل سلطوا عليهم اليهود القادمين من أوربا الشرقية واستوطنوا المدينة فأصبحت مدينتين: “مدينة الغيتو في مواجهة مدينة اليهود المهاجرين”.

كل ما تيسر للصهاينة من إجرام مارسوه على الشعب الفلسطيني إلى درجة أنهم طلبوا من رجال القرية حفر قبورهم بأيديهم، حتى الأطفال لم يسلموا من هذه الوحشية التي لا سابق لها في تاريخ البشرية جمعاء، الجثث تحللت في الشوارع والبيوت التي فرّ منها أهلها.     

عن تلك الطفلة يقول الكاتب: “اقترب من الفتاة الصغيرة كي يرفعها، فسقط ذراعها، وضعوها على السرير فصارت مثل دمية تفكّكت. تقدّمت من السرير، لفّيتها بالشرشف وحملتها، ضميّتها إلى صدري فشعرت كيف صار الموت ينبض في قلبي. سقطت دموعي على جثة الطفلة الصغيرة كأنني كنت أسقيها. كانت دموعي هي هديتّي للطفلة الصغيرة التي ماتت من العطش، سقيتها دموعي كي تستطيع أن تلتحف التراب، وتنام بهدوء ويمتصّها العشب”.

كيف لهذا التوحش أن يستمر، وأي عالم هذا وأي بشر هؤلاء؟ “باللدّ يلّي طلعوا شربوا كأس الذل ويلّي بقيوا شربوا كأس السمّ”. ومع ذلك يقول الراوي “عاجز عن فهم كيف استطاع الناس أن يستخرجوا من هذا الموت واليأس القدرة على اختراع الحياة من العفن الذي عاشوا في وسطه؟”

ويختتم الكاتب روايته الرائعة البالغ عدد صفحاتها الاربعمائة وواحد وعشرون صفحة بالقول: “إنها حكاية الخروف الذي سيق إلى الذبح ولم يفتح فمه، هذه حكاية أولاد الغيتو”.

من خلال ما قام به الصهاينة من مجازر منذ تأسيس دولتهم، برهن أحد مؤرخيهم آنذاك وهو ايلان بابيه: “أن ّ ما جرى في فلسطين كان تطهيراً عرقياً”، وكذلك ما أدلى به الآن موشيه يعلون وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بأن “الجيش ينفد حرب إبادة في شمال غزة”، فشهد شاهد من أهلها. هل هي صحوة الضمير؟ أم أن لا ضمير للصهاينة.

قدم إلياس خوري روايته بأسلوب أدبي فائق الجمال، مزج بين السرد الواقعي والتأملات الفلسفيه واستطاع أن يبين كيف بإمكان الكلمة أن تصبح شكلاً من أشكال النضال.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا