كيف نفهم الغرب.. كيف يفهمنا الغرب؟ ( 2 – 2)

0
14

(طه حسين وإدوارد سعيد مثالاً)

حسين آل ربيع

في الجزء الأول من هذا المقال المنشور في العدد السابق تحدثنا عن طريقتين مختلفتين للتعامل مع المجتمع وفهمين مختلفين للواقع، الفهم الأول يبحث في جذور النصوص التاريخية التي تشكل الفهم السائد ومحاولة تفكيكها مستخدماً الشك المنهجي عند ديكارت، وذكرنا مقاربة بسيطة بينه وبين الإمام أبي حامد الغزالي الذي لم يقف عن حدود المادة بل تعمق في الشك حتى وصل إلى الشك في الضروريات، ثم عدل ذلك بيقين وجداني،  وكيف انعكس المنهج الذي تبناه طه حسين على التعاطي مع بيئة مجتمعية تقدس النصوص التاريخية، اصطدمت هذه الدراسة الطموحة بواقعٍ متأزم لعب فيه الاستعمار دور المهيمن والناطق الرسمي لشعوب لها هويتها الخاصة. أما الفهم الثاني فمختلف عن الأول من ناحية الدراسة والمنهج وبالتالي سيكون مختلفاً في التعاطي مع المجتمع، فهو ينطلق من الحالي أي من لحظة دخول المستعمِر بترسانته المتطورة يستعبد الشعوب ويصادر كنوزها ويريد مصادرة تاريخها والنطق باسمها ما ساهم في خلق تشوه عند الشعوب التي رزحت تحت سُلطة هذا المستعمِر، وتكمن دراسة ادوارد سعيد في محاولة فهم المجتمع وكشف الأدوار السلبية التي قام بها الاستعمار للنهوض بمجتمعٍ واعٍ لما يحدث عليه من هيمنة. سنواصل الحديث أكثر في هذا الجزء بين المفهومين ومدى انعكاس كلاهما على الواقع.

طبق “طه حسين” المنهج الديكارتي في المُسلَّمات العقلية والتاريخية والعقائدية في حقبةٍ تاريخيةٍ كانت تضج بالثورات ضد الاستعمار في زمنٍ يحاول فيهِ المجتمع التمسُّك بثقافتِه وهُويّتِهِ من السرقة والاستلاب تارةً بالقوّة العسكريّة وأخرى بالاستشراق الكولنيالي. أصدر طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي”، وقَدّمَ فيهِ نقداً لاذعاً للتراث الشعبي والإسلامي والأدب العربي وشكك في أصل وجود كل ذلك التراث، مما أثار ضجةً كبيرة ضِدّهُ اضطرتهُ أن يُعيدَ مراجعة الكتاب وحذْفِ بعض فصوله ثم أعاد طباعتَهُ بعنوان “في الأدب الجاهلي” معتمداً على المنهج الشكي والدراسات اللغوية المقارنة، وقد أثبتت الدراسات الحديثة عدم كفاية الدراسة البحثية التي قدمها طه حسين في ذلك العصر الذي لم تكتمل فيه الدراسات الأنثروبولوجية (علم دراسة الإنسان) والفيلولوجيا (علم دراسة النصوص اللغوية القديمة) وعلم التاريخ ومختلف علوم اللسانيات المتطورة وغيرها… فكّرطه حسين في أن ينقل مصر إلى الغرب وقال بأن الامتداد التاريخي لمصر يعود للغرب وأطلق على مصر الأمة المصرية في محاولةٍ جريئةٍ لعزلها عن محيطها الثقافي العربي/الإسلامي، الأمر الذي لم يفهمه المثقف المصري والعربي، لأن الإرث الثقافي الإسلامي الشرقي في مصر متأصّلٌ منذُ زمنٍ بعيد وتمظهراته حاضرة بكل تفاصيل حياة المجتمع المصري، بينما لا نجد شيئا يشي بأن مصر غربية  إلا القليل من الظواهر النادرة، انظر الى القاهرة في شهر رمضان وقارن الى أي اتجاه هي. يقول د. عبد الإله بلقزيز: “شأن معظم الليبراليينَ العرب، لم تتحرَّر نظرة طه حسين الى الحداثة من نزعتها التبشيرية، ومن الشعور الإنبهاري بنموذج المدنية الأوروبي: في الاجتماع والسياسة والثقافة” (من الإصلاح الى المهضة /ص182)، إلا أن إحاطته بالتاريخ الثقافي الإسلامي جعل رؤيته للحداثة أكثر أصالة ربما وأقل تقليداً لأفكار الأوروبيين المحدَثين مقارنةً بمن سبقوه أو جايلوه من الليبراليينَ العرب.

إزاء ميل طه حسين لأن يأخذ المجتمع الشرقي بالنموذج الغربي، عمل إدوارد سعيد من الغرب على تفكيك السردية الغربية الأوروأمريكية ودراسة الخطط الكولونيالية وتفكيك خطاب الاستشراق (مع اختلاف الزمن بين الإثنين لكن الواقع لم يتغير كثيراً). عمِلَ سعيد أولاً على فهم طبيعة المجتمع وطريقة تفكيره وتطلعاته والأثر الجسيم الذي أحدثتهُ الهجمة الأوروبية الشرسة من ناحية التشوه المعرفي والنهوض والتحرر. عاش إدوارد سعيد جل حياته في أحضان الحضارة الغربية إلا أنه لم يفقد حسه الشرقي وقضايا التحرر والوطنية، هو المثقف الفلسطيني المشتبك صاحِبُ القضية العادلة. درسَ سعيدُ الغربَ الكولونيالي والاجتماع العربي الإسلامي دراسةً معمّقةً، ومن جُملة استنتاجاتِهِ أننا لا يمكن أن نحكم على الفِكر والمجتمع العربي بالتخلّف وهو يرزح تحت الهيمنة والاحتلال الإحلالي المتمثل في المشروع الصهيوني، أدركَ سعيد أن مجتمعاتنا يمكن أن تنهض إذا ملكَتْ زِمام أمورها وهي رغم كل شيء تُنتج مثقفينَ ومبدعين قادرين على أن يشتبكوا مع الاحتلال بل والهيمنة الأوروأمريكية من ورائه والانتباه الجيد للقضايا المصيرية.

“لا يتجاهل إدوارد سعيد، المشغول بمسألة السيطرة على الشرق، ما قدمه الألمان والروس والإيطاليون وغيرهم، في ميدان الاستشراق، ولا ما كان من تأثير بالغٍ لدراسات العهد القديم في الدراسات الشرقية في القرن الثامن عشر، غير أنه يشير في مواضع عديدة من الكتاب (الاستشراق) الى أنه لن يتناول الاستشراق الألماني بالدرس على ما قدمه ذلك الاستشراق من مساهمات علمية عميقة في مجال الدراسات الإسلامية بعد حقبة دوساسي (أنطوان دي ساسي: فرنسي من أوائل المستشرقين الأوروبيين).”  (نقد الثقافة الغربية/ بلقزيز ص93)، لم يُرد سعيد كتابة تاريخٍ سردي للاستشراق لأن الموضوع الذي اختاره هو الفكرة الأوروبية المركزية عن الشرق وبقية العالم، محدداتها ومنطلقاتها وأهدافها من أجل انتشال مجتمعه من براثن الغرب الأوروأمريكي واسترجاع السرديات المسروقة، وكانت النتائج التي توصل  إليها سعيد كما نعلم مفزعة، لكنها ساهمَت في نشرِ الوعي بالذات والمجتمع والآخر.

عملَ طه حسين على ترسيخ المنهج وفتح الأفق للبحث ولكن هل هذا المنهج ينسجم مع الطبيعة العقلية العربية، هل المنهج منتَجٌ محلي أو هل أنه متراكِمٌ عابر جاء عن طريق التدافع الثقافي المعرفي الكوني أم أنه جُلِبَ جَلباً من الغرب ليُطبّقَ كقالبٍ في مكان وزمان مختلفين؟ ولماذا غابَ الغزّالي وحضرَ ديكارت؟ هذه وغيرُها تساؤلاتٌ قد يجيبُكَ عليها التأثير العملي التطبيقيُّ للمنهج. في المجمل يقتصر منهج طه حسين على الأوساط والدراسات الأكاديمية البحتة، بينما نرى تأثير إدوارد سعيد الذي عاش في الغرب ينعكسُ على المثقف العربي والأكاديمي، ونجِدُ مشروعهُ حاضراً على مستوى فهم المجتمع وتطلعاته وآماله وسعيَه للتحرّر ومواجهة المحتل.  قامتان كبيرتان إلا أن مستوى التأثير والتأثّر تصنعه المجتمعات والطبقات المثقفةُ الواعيةِ للوقائعِ والتحديات.   

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا