قلنا في مقالٍ سابق، إن أهم مسألة احتدم النقاش حولها، ولايزال، هي تلك المرتبطة بمستقبل الديمقراطية في الدول التي شهدت ثورات اقتطف ثمارها الإسلام السياسي، كما جرى في ليبيا، وكذلك الحال في تونس (حركة النهضة) ومصر (الأخوان) بعد أن فازت الأحزاب الدينية بالأغلبية في الانتخابات النيابية. أما كيف فازت؟ وهل لعب المال السياسي في شراء الذمم؟ وهل رسم هذا الفوز خارطة الديمقراطية التي تحترم التعددية؟ أسئلة جوهرية كانت مصدر اهتمام الكثير من المفكرين والسياسيين والمهتمين بشؤون الديمقراطية وعلاقة الإسلام السياسي بالديمقراطية.
للباحث عزمي بشارة بحث بعنوان “مدخل إلى معالجة الديمقراطية وأنماط التدين” أشار في مقدمته إلى أنه لا يمكن أن تقوم بين الديمقراطية والدين علاقة تشتق بموجبها الديمقراطية من الدين أو الدين من الديمقراطية، فالمفهومان ينتميان إلى مستويين مختلفين من التجربة وجوهر مصطلح الدين، أي دينٍ هو “المقدّس” ولكن التعامل مع المقدّس هي مهمة اجتماعية تتم في ظروف تاريخية محددة. وجوهر الديمقراطية، أي ديمقراطية، هو تنظيم عملية والسيطرة بشكل محدد في الحياة الدنيوية.
السؤال حول علاقة حول الدين بالديمقراطية هو سؤال، كما يقول، حول علاقة مفهومين ينتميان إلى عالمين مختلفين، ولا فائدة نظرية ترجى من وراء هذا السؤال. كذلك لا فائدة من سؤال حول التلاؤم أو التخارج بين الإسلام والديمقراطية، والحقيقة أن من يطرح مثل هذا السؤال يجد نفسه في سياق البحث مرغمًا على التعامل مع سؤال آخر أكثر تحديدًا يدور حول الإسلام العيني في مكان وزمان محددين، ومن خلال ممارسات اجتماعية التدين في الزمان والمكان نفسهما من أجل التمكن من البدء بالتعامل مع هذه السؤال. وإذا أصر الباحث على إثارة السؤال حول التلاؤم أو التخارج بين الإسلام والديمقراطية أو بين المسيحية والديمقراطية فإنه يجد إجابة واحدة ثابتة ولا فائدة نظري ترجى من ورائها وهي: لا تلاؤم قطعًا.
ومن الشواهد والأدلة على ذلك، شهد العالم العربي محاولات متعددة للإسلام السياسي الأصولي للتعامل مع الديمقراطية وأرْقَاها محاولة راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، فهو إلى جانب قبوله الديمقراطية سياسيًا وتكتيكيًا من أجل الوصول إلى السلطة وتبديد المخاوف من سيطرة الحركة الإسلامية الأصولية على السلطة حاول تأكيد هذا القبول فلسفيًا بمحاولة لملاءمة الإسلام مع الديمقراطية أو العكس، لتعني “الشورى” ديمقراطية بالمعنى الحديث. ولكن الغنوشي يتجاوز هذا الادعاء بأن الإصلاح الديمقراطي في أوروبا لم يكن ممكنًا دون إصلاح ديني سبقه مغيّرًا العقليات والنفوس، بكلمات أخرى يدعي الغنوشي أن الحركة الإسلامية لا تستطيع التعايش مع الديمقراطية فحسب بل هي الطريق الوحيد الممكن إلى الديمقراطية؛ لأن تنفيذ هذه مهمة الإصلاح منوط به ولزملائه، ويعتقد الغنوشي – وهنا مربط الفرس – أن سلطة أو سيادة القانون تابعة نظريًا مفهوميًا من سيادة الله، أي من وجود سلطة عليا لا تتغير مهما تغير الأفراد وتعاقبوا على السلطة.
ويتوقف “بشارة” عند تجربة تفيد بعدم وجود توافق بين “الإسلام” والديمقراطية، وهنا يشير إلى سيد قطب في رفضه أي فكرة لسيادة الشعب واعتبارها تعديًا على سيادة الله، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأفغاني حفيظ الله نوري الذي يعتبر فكرة المساواة وهي أساس الديمقراطية مرفوضة في “الإسلام” فلا أساس برأيه في “الإسلام” لمساواة الزوج والزوجة والغني والفقير والمؤمن وغير المؤمن والعالم والجاهل والمريض والصحيح .. إلخ. كما أن الإسلام ليس بحاجة إلى مجالس تشريعية !! وفي هذا السياق، يتطرق أيضًا إلى المرجعية الواحدة التي تقر بالتعددية ضمن الشريعة وليس الشريعة ضمن التعددية.
وإذا كان، كما يقول بشارة، أن التيار الغالب في الإسلام السياسي يقصر التعامل مع الديمقراطية على الجانب السياسي، معتبرًا هذا الجانب مقبولًا بدرجات متفاوتة، إلا أنه يعود إلى تقييده في حالة وصوله إلى السلطة، وندلل على ذلك بنص ليوسف القرضاوي ورد في كتابه “الحلول المستوردة وكيف قضت على أمتنا”، يقول القرضاوي: “إن أفضل جوانب الليبرالية الديمقراطية – في نظري – هو جانبها السياسي الذي يتمثل في إقامة حياة نيابية يتمكن فيها الشعب من اختيار ممثليه، الذين تتكون منهم السلطة التشريعية في البرلمان، في هذه الحالة تصبح الأمة مصدر السلطات وتراقب السلطة المنتخبة السلطة التنفيذية. إن هذه الصورة طيبة ومقبولة من الوجهة الإسلامية – في جملتها – وإنما قلت في جملتها لأن هناك بعض التحفظات على أجزاء معينة من الصورة، فالسلطة المنتخبة لا تملك التشريع فيما لم يأذن به الله .. ولهذا يجب أن يقال: إن الأمة مصدر السلطات في حدود شريعة الإسلام. كما يجب أن يكون في المجالس التشريعية هيئة من الفقهاء القادرين على الاستنباط والاجتهاد، تعرض عليها القوانين لترى مدى شرعيتها أو مخالفتها “.
أما فيما يتعلق بسوريا التي أصبحت في قبضة الإسلام السياسي “هيئة تحرير الشام”، يكفي أن نشير إلى قول ينسب إلى الكاتب حاتم علي: الأمر قد يبدو صعبًا، خاصة أن الجولاني لم يتلفظ بكلمة “ديمقراطية” حتى الآن، بل تكلم – هو وحكومته – بنقيضها، إذ أجاب على الأسئلة التي تخص الدستور الجديد بأنه سيتركها لما أسماه “لجان من المختصين في هذا الشأن”، هذا ما يُشعل نار الشك والتساؤلات: من هي هذه اللجان؟ من يعينها؟ هل تُعين على شاكلة التعيينات التي نراها الآن؟ لنبرّرها تحت عنوان “ضرورة الانسجام مع هذه المرحلة”؟ فلو كان الجولاني يسعى لدولة ديمقراطية كان يفترض أن يكون الجواب: “مؤتمر وطني جامع لجميع القوى والتيارات السورية”، أما كلمة “لجان ومختصين” فلا تذكرنا سوى بدوامات ومتاهات النظام البائد”.
الخلاصة، لا توجد هناك علاقة بين تيار الإسلام السياسي والديمقراطية، وإن وجدت فإنها ليست إلا تكتيكًا للوصول إلى السلطة.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي