سياقات العنصرية بين كتاب ومسلسل
تلمع كلمة “العنصرية” على سطح كتاب تتوسط غلافه مجاميع لأشخاص يبدو انتماؤهم إلى العرق الأسود. اختارت الباحثة القطرية الدكتورة نورة محمد فرج، دخول متاهة سبقها إليها آخرون، ولكن بنهج مختلف، ورؤية تميل إلى دراسة نفس الفئة عبر السرديات التاريخية، أو الوثائق التي تصف وتبرر وتحلل هذا الوجود، ثم يأتي كتابها (العنصرية في الخليج.. إشكالية السواد: التاريخ-الثقافة الشعبية-الرواية)، ليستفيض بالمقاربة، وينبّه قارئه -بعد الانتهاء منه- للسؤال الوجودي: لِمَ الطين غير الطين؟
اختارت فرج مصطلح “السود” وأشارت على فراغه من غير دلالة إيجابية أو سلبية؛ أي درجة صفر دلاليّاً، وأهميته تكمن في فحصه تاريخ العبودية في الخليج، في صورته الفاقعة خليجيّاً، والنبش بوضوح من خلال ممارسة الاستعباد عبر ما ذكرته المؤلفة؛ وبذلك ربما يتسنّى فهم العنصرية التي تعانيها المجتمعات الخليجية في قضايا أخرى، إن توصّلنا إلى أن هذه “العنصرية ليست حالة طارئة”، وهذه إشارة مهمة لدراسة الامتداد المتصور لوضع السود. ومن أجل هذا، حرص الكتاب على استعراض منجزات تخص هذه الفئة حصلت في القرن العشرين؛ مثل فوز “توني موريسون” بجائزة نوبل في العام 1994، وشكلت موضوعات اللون، والعبودية، والعنصرية محاور أساسية في رواياتها المتّسمة بالبطولة الحزينة والسوداوية، خاصةً كتابها الموسوم بـ”اللهو في العتمة” التي تتبّع فيه حضور السود، وكيف وضع في معظم الأوقات لإعلاء شخصية الأبيض، أو زخرفته، دون أن يكون له وجود فاعل، وهذا موضوع حي لا بد من مقاطعته مع موضوعات الدراما، التي حتى لو تجرأت على استعراض مشكلة فعلية موجودة، فإن التعرّض يكون دون عمق كافٍ لمسألة اللون، بل قد تكون إشارة تلميحية لا تُقال صريحة، وفي أكثر الأحيان تكون مصدر سخرية. ويغلب على معظم الدراما تصديها للمواقف الوقتية، واستعراض المعاناة في بعض الأحيان، دون لمس الجذور الحقيقية للمشكلة.
وطرح الكتاب الجرئ والمهم، أسئلة مهمة وجوهرية في وضع السود بالمجتمعات الخليجية؛ من أين جاء حرج تناول هذه الموضوعات في الخليج؟ هل هو حرج ينبع من ذات الشعوب الخليجية في تناول هذا الموضوع علانية، والقلق من وصم ذاتها بالعار؟ أم هو سياسة غير معلنة من جانب الدولة؛ وجزء من العمل ضد صعود أي إشارة على فتنة داخلية؟ أم أن غياب مثل هذا الموضوع هو امتداد لعنصرية مثقفة تجاه هذه الفئة؟ أم هي غير مرئية بالنسبة للمثقفين؟ أم أن الأمر يتعلق برغبة العقل الجمعي الباطني في نسيان هذا التاريخ؟ أم لأنه هامشي غير مكترث به؟ وهذا ما يجب مناقشته في الكتابات السردية أو الدراما، والتي تلقى الإقبال من قبل مختلف الفئات المتلقية، دوناً عن الكتب العلمية أو الأبحاث المتعلقة بذات الموضوع.
واتجهت المؤلفة الجادة للتعريف بالعنصرية وبجذورها، ضد السود في الثقافة العربية، وصولاً إلى واقع الثقافة اليوم، عن كونها: “الإيمان أن قيمة الآخر قيمة متدنية”، وهكذا تنبني على مستويين: داخلي عبر الإيمان والشعور، وفعلي من خلال الممارسة. ويمكن حصر الممارسات العنصرية بالآتي: الرمز والترميز، الإيماءة، اللفظ، الفعل- العنف/ غير المباشرة، والمقصود بـ(غير المباشرة) مثالها اعتماد قوانين (المعلنة أو غير المعلنة) ضد فئة السود تحديداً، عبر سلب الحقوق، وهذه ممارسة قائمة في الدول الحديثة لا يمكن إغفالها أو إغفال دورها في تهميش فئات محددة كالسود أو غيرهم، فيما يشكل ما يشبه قانوناً طبقياً اجتماعياً؛ ولذا كانت هذه الممارسات الطبقية خفية، بينما تتخذ الممارسات الأخرى سمة ظاهرة. وإن كل محدد من محددات الهوية تقابله عنصرية، سواء كان هذا المحدد العرق، الجنسية، الدين المذهب أم اللون.([1])
وبرغم كل هذا، تعترف فرج بأن تناول الرواية لهذا الموضوع لا يعني بالضرورة مناقشته على نحو رسمي أو معلن؛ إذ هو موضوع يسبب حرجاً اجتماعيّاً! ثم تتساءل: كيف يمكن لما اعتبر جزءاً من الحياة الممارسة طوال ما يزيد على 1400 سنة، أن يغدو موضوعاً محرجاً؟ وفي ما يخص الموضوعات في العصر الحديث (المعاصر)؛ فالموضوعات العنصرية ضد السود شبه غائبة، وإن وجدت ستكون في حدود ضيقة.
وفي محيط الخليج وعلى صعيد الدراما؛ لم تلامس هذه القضية بشكل رئيسي ومباشر كما فعل مسلسل “ملح وسمرة” في إبريل 2023، الذي تعرض لمسألة اللون وتبعاته عبر أسرة “هند” الشخصية المحورية مع زوجها وابناءها والأحفاد، كما تناول قضايا أخرى متفرعة مثل الاستقرار الأسري، والتحرش الجنسي بالأطفال، والتعامل مع الاحتياجات الخاصة وغيرها، لكن يظل اللون هو المتسيّد حتى في عنوان المسلسل الذي يوصف به الشخص الجذاب “المملوح” كما تقال بالدارجة في الخليج.
تمتهن البطلة مهنة التمريض، وزوجها مدير المدرسة الحكومية، وحتى العمة والأبناء في وظائف متفرقة عادية، حيث لا ثراء فاحش غير منطقي، ولا شركات يتم التنازع عليها تؤدي إلى أحداث ميلودرامية من خيانة وسرقة وتآمر. ونتيجة لهذا البناء القريب من الواقع، نسج المؤلف حمد الرومي الفعل وردود الفعل بشكل قريب أيضاً؛ كالغضب والتهور والانهزام والتردد أو حتى الاستسلام، ولا توجد شخصيات مطلقة في الخير أو في الشر، وهذه جمالية كبيرة، لو علم بها الكتاب والمؤلفون الذين لا يقيسون مدى تأثير أعمالهم على مجتمعاتهم وتقولب سلوك المشاهدين بحسب ما يرون حتى في عقلهم اللا وعي، وهي فرصة أدعى لاختيار حبكات مناسبة تساهم في رتق ما تفعله كيانات ومنصات أخرى.
واللون هو بطل القصة التي تبنى على تقييم شخصياته في تعاملاتهم مع الآخرين، لذلك كان التوضيح منذ الحلقات الأولى ذات الإيقاع السلس الممتع في موقف انفعل فيه الابن الذي دعا عائلته لحضور عرض مسرحي، واجتمعوا على مقاعد المتفرجين ممنّين أنفسهم بفرجة لطيفة معاً، لكن مع بدء العرض ظهر التنمر الأول -والذي صار معتاداً في عروض خليجية كثيرة-، بشكل فج وقبيح، أدى هذا إلى صعود الابن لخشبة المسرح للتهجم على الممثل المتنمر، الأمر الذي يبدو غير مألوف، لكنه يجب أن يكون ويواجه بحزم، لعل القائمين عليه يعون أن سيل التنمر هذا يجب ألا يقنن فقط، بل يتوقف؛ لأن هناك أنواعاً كثيرة من الكوميديا التي تستقطب جمهوراً للمسرح، دون المساس بذات مستضعفة بلا ذنب.
ومع التقدير الكبير للفنانة هدى حسين، التي بلغت من النضج الفني في مسيرتها ما يخولها لانتقاء مواضيع هامة ومنوعة، تتناسب وخبرتها في المسرح والدراما التلفزيونية، لكن الأمر قد يحدث بعض الخلل قليلاً -بين الصورة والقضية-. فملامحها لا تقارب الملامح الإفريقية المعنية باللون، حتى مع تكثيف المكياج أو تجعيد الشعر، حتى مع من اختلطت ألوانهم بالتزاوج؛ في ذات الوقت الذي يمكن أن يطرح سؤال حول من بإمكانه أن يأخذ دورها من الفنانات اللاتي يعانين بالفعل؟ وهل يملكن الجرأة على التصدي لهذا الدور الذي يحتاج رصيدا من القبول وتاريخا يكفي لتصديق هذا التجسيد؟
ولكي يتم فهم مصدر التنمر، كان لا بد من العودة في كتابة الدراما لمزيد من البحث، لتوضيحها في الحدث من خلال الممثلين، من أجل المكاشفة التي لا تتطلب إلا تصديراً لأحداث تاريخية حصلت دون أن يتحمل أحد من أصحاب اللون جريرة لا تخصه، كما الجزء الخاص في الكتاب بـ”الذين أصبحوا منا” الذي يشرح عن مرور السود بمستويات مختلفة من حيث التصور والممارسة؛ فقبل ممارسة العبودية، كان الأسود آخر ما دام موجوداً في أفريقيا، وخلال سنوات العبودية التي تمثل الطور الأطول، وصار الأسود وسط شعوب الخليج باعتباره عبداً؛ أي في مرتبة أقل، وإن أصبح حراً؛ فإنه ما زال عبداً سابقاً؛ أي يحمل تاريخه الشخصي، ولا يرقى لمرتبة الأحرار الذين ولدوا أحراراً. وبعد إلغاء الرق، صار مواطناً خليجيّاً يحمل هوية البلد الذي يعيش فيه وينتمي له، وهذا يشكل انتقالاً من كونه من فئة دنيا اجتماعيّاً، إلى كونه مواطناً له حقوقه وعليه واجبات. لكن وبرغم هذا التغيير الإيجابي الجيد الذي حصل، تبرز مسألة “الآخر” في سياق اجتماعي، وهو الزواج، الذي تشهد النماذج الموجودة صعوبة تقارب الاستحالة، من زواج الأبيض والأسود بشكل اعتيادي، وهذه لا تعد محاسبة للون البشرة المختلف وحسب، بل إنه حساب لتاريخ يرى في الأصالة وجود الأجداد في الأرض نفسها، التي يأتي الأحفاد فيحاكمون غيرهم على أنهم المستجدون أو المختلفون.([2])
على مستوى الطرح أيضاً في “ملح وسمرة”، وبرغم براعة الكتابة التي أفردت لكل شخصية عمقاً وطريقة تفكير أضافت مخزوناً جيداً على مستوى الاختلاف حتى بين أبناء البيت الأسرة، حول نظرتهم لأنفسهم، ونظرة الآخرين لهم، لكن تبقى بعض المبالغات في الاستسلام للظلم البين، وأيضاً بعض الصبغة الحادة على مستوى شبكة العلاقات. ويحسب لـهذه الدراما جمعها لممثلين لهم حضورهم الدرامي، لمناقشة قضية هامة جداً غير مفتعلة ومتناولة في الحياة اليومية، وهذه إحدى غايات الدراما، لولا الحسابات الإنتاجية التي تفرض وجود ثلاثين حلقة تحمل -بطبيعة الحال- تمطيطاً لا مبرر له في الأحداث.
وبين المسلسل الذي نال اعجاب كثيرين، وهذا الكتاب الذي سبقه كتب أخرى -وبعض الروايات- حول ذات القضية، التي أشارت بشكل معمق إلى تاريخ ومعاناة السود في الأوقات المختلفة، والتي استغرقت أعمار الكثير منهم، وذاكرة الأجيال التي أتت بعدهم، حتى وإن لم تدرك كل التفاصيل التي تعرّض لها الأجداد، لكنهم يحملون الشاهد الثابت الوحيد على استمرار وضعهم، وسواء كان معاناة ظلم أم هوية، أو وجوده في دواخلهم نتيجة أن الأجيال تسرِّب لبعضها تاريخها الشفوي، أم أنه لا وجود لكل ما ذكر، وكل هذا محض تصورات يبنيها -من بعد الوثائق والدراسات- الفنانون والكتاب ليصيغوا مادة فنية قوامها معاناة فترة زمنية؛ فإنها تمثل إضافة للمكتبة العربية والتلفزيونية أولاً في إضاءة موضوع يقع تحت طائلة المحاذير عالية الخطورة، تمت معالجة المشكلة سطحياً، لكن لا زال الأذى المبطن في المفهوم الشعبي والمجتمعي المتمثل في عدم إتمام الزيجات، أو الحكم المسبق، أو انخفاض التقدير وغيرها، وهذا لا يشمل الأسود/ العبد؛ بل يشمل كل من يمكن أن يطاله التهميش في مجتمعه، ويُنظر له على أساس أنه الآخر، بينما الطين هو الطين لا يختلف أبدا.
[1] فرج، نورة محمد، العنصرية في الخليج: إشكالية السواد، التاريخ، الثقافة الشعبية، الرواية، دار التنوير، الطبعة الأولى، 2024م، ص19.
[2] المرجع السابق نفسه، ص22.