الشيوعية الأوروبية: قيام وسقوط مشروع الأمل (4 – 4)

0
8

بقلم: Andrea Donofrio

ترجمة: غريب عوض

بعض الإنعِكاسات

كما ذُكِرَ في المقدمة، واجهت الشيوعية الأوروبية كثيراً من المصاعب والعقبات التي عقّدت حملها وتطورها. في سبعينيات القرن الماضي، كانت الأحزاب الشيوعية في أسبانيا وفرنسا وإإيطاليا تواجه تغييرات هيكلية عميقة في مُجتمعاتُها. وهذهِ تضمنت ’تفكك القاعدة الإجتماعية والإنتخابية التي كانت ترتكز عليها الأحزاب الشيوعية. يمكنك أن تقول، إنخفاض حجم الطبقة العاملة التقليدية وأزمة بعض القِطاعات العُمالية حَيثُ كان الشيوعيون مُتجذرين بشكل خاص‘.

لقد تآكلت القاعدة التقليدية للشيوعيين مع إضعاف الطبقة العاملة في المجتمعات الرأسمالية: حيثُ أثرت الأزمة الإقتصادية الشديدة بشكل خاص على القِطاعات الصناعية (التعدين والصناعة الثقيلة والصلب) التي كانت تُشكّل القاعدة الإنتخابية للشيوعيين. وكان هذا وضحاً بشكل خاص في حالة فرنسا. وعلى نطاق أوسع، كان على الأحزاب الشيوعية أن تتعامل أيضاً مع ’التغيّر الثقافي في الغرب‘:

… الذي أكّدَ على الفردية على حِساب علاقات إجتماعية مُعيّنة، منها الوعي الطبقي والتضامن. ومثل ذلك، تَغيُرات في البُنية الإجتماعية، مع المصالح التي أصبحت الآن أقلُ تركيزاً على الأولويات الإقتصادية أو المادية، مما أدى إلى إبتعاد المجتمع عن الخِطاب الكلاسيكي للأحزاب الشيوعية … وأخيراً، ساهم التشكيك المُستمر في النموذج السوفييتي أيضاً في تراجع الأحزاب الشيوعية الغربية.

لقد أثرَ تزايد عدم شعبية النموذج السوفييتي على جميع الأحزاب، حتى تلك التي حاولت النأي بنفسها عن الإتحاد السوفييتي (الحزبين الشيوعيين الإيطالي والأسباني). بالإضافة إلى، أن الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الشيوعي الإيطالي والحزب الشيوعي الأسباني كانوا يواجهون أزمة أيديولوجية عميقة، التي يمكن تلخيص جوهرها في حاجتهم ’للأختيار بين النقاء العقائدي والوحِدة العقائدية‘. وبُناءً على ذلك، بدأوا في التفكير في الإستراتيجيات والتكتيكات اللازمة لتحقيق أهدافهم، والتي حددوها بزيادة عضويتهم وقوتهم الإنتخابية؛ وتقديم أنفسهم كبديل موثوقٌ بهِ للحكومة؛ والتشكيك في العقيدة الشيوعية؛ واقتراح عناصرٌ جديدة للتأمل بما يتماشى مع التغييرات التي حدثت في بلدانهم. ونتيجة لهذهِ الحاجة إلى التأمل، تناوب التردد التكتيكي مع التصريحات الحازِمة، والقرارات الغامِضة مع التقدم الملموس. وقد دفع هذا البعض إلى القول بأن:

لم تكُن العقيدة الشيوعية ضعفت فحسب، بل كانت تتفتت على نحوٍ مُتزايد، سوى على المستوى النظري أو العملي. كان العمل الشيوعي يغوص في أعماق الماضي، فاسحاً الطريق لبرجماتية ترتكز على مركزية ذات ظروف وطنية مُتنوعة ومُحددة. وما كان يُعد ذات يوم أمراً عالمياً أصبح هيمنة على الخصوصيات أكثر فأكثر.

إنهُ لأمرٌ صعب أن نُقيس النجاح السياسي على الفشل، نظراً لأن أي تقييم يعتمد على نوع العوامل التي تؤخذ في الإعتبار.ومن الواضح أن الشيوعية الأوروبية فشلت في تحقيق أهدافها ووعودها. ومع ذلك، فمن الناحية الموضوعية، لا بُدَ من الإعتراف أيضاً ببعض الإنجازات المُهِمة، سواء داخل المجال الشيوعي أو فيما يتعلق بالوضع الداخلي في البُلدان التي كانت الأحزاب الشيوعية نَشِطة فيها.

وفيما يتعلق بالتغييرات في التفكير الشيوعي، قامت الشيوعية الأوروبية بتأملٌ نظري أصيل، وإن كان سطحياً، أخذ في الإعتبار السياق السياسي والإجتماعي والإقتصادي الذي تعمل فيهِ هذهِ الأحزاب. وأظهرت روح النقد الذاتي في مُحاولتها التغلب على أخطاء عمليات البناء الإشتراكي الذي تم تنفيذه حتى ذلك الزمن. وفي الوقت نفسهِ، كان التفكير الشيوعي الأوروبي يتأمل ويُقدم مُساهمة في التفكير في مفاهيم مُهمة مثل الديمقراطية والحرية. لقد فهم أن مفهوم ’دكتاتورية البروليتاريا‘ لم يعُد جذاباً في سبعينيات القرن الماضي. وفي مواجهة المجتمعات التي إعتادت على الأنظمة الديمقراطية، كانت السُلطة المُغرية للنظام الدكتاتوري مَعدومة عملياً.

لقد تخلى الحزب الشيوعي الإيطالي والأحزاب الشيوعية الأوروبية الأخرى عن وجهة نظر دكتاتورية البروليتاريا، لقد وضعوا مفهوماً للهيمنة الذي يفصل ما كان مُتحداً في اللينينية وغرامشي، بعبارة أخرى، الهيمنة والدكتاتورية؛ لقد وضعوا في المركز مُشكلة ديمقراطية الدولة البرلمانية، حيثُ يجب تفكيك الديناميكية البيروقراطية الأستبدادية.

وأدرك الشيوعيون الأوروبيون أيضاً أن المجتمع السوفييتي لايمكن أن يكون القدوة الذي يُحتذى به:

… لقد قدم في كثير من النواحي ميزات لا يستطيع أي حزب شيوعي أوروبي تقديمها في بلدهِ الأم في حالة الإطاحة بالنظام الرأسمالي. واليوم، بدلاً من مجموعة من العقائد الثابِتة، هناك المزيد من التساؤلات النقدية وطلبٌ مبدئي للنقاش المفتوح.

وهم أيضاً يفكرون في ’العودة‘ إلى غرامشي وفكرهِ – بالنسبة للبعض حتى ’غرامشي الشيوعي الأوروبي‘ لأن هذا جعل من المُمكن فهم أن “النظام السوفييتي الحالي يُشكلُ نفياً ليس فقط للمبادئ التي تدعو إليها الأحزاب الشيوعية الأوروبية اليوم، ولكن أيضاً لِمبادئ وأهداف البلشفية في أُصولها”.

من حيثُ السياقات الوطنية الخاصة بكل منها، كان موقف الأحزاب الشيوعية الأوروبية مُفيداً جداً. ففي حالة إيطاليا، على سبيل المِثال، ساهم موقف الحزب الشيوعي الإيطالي في مُكافحة الإرهاب، من خلال مُعارضته للعُنف الذي تُمارسهُ التشكيلات اليسارية غير البرلمانية؛ كما ساعد في عزلها من خلال التأكيد على قيمة الديمقراطية: ’إن الديمقراطية الإيطالية مَدِينةٌ بالكثير – ومن الواجب أن نقول هذا – للعمل الذي قام بِهِ الحزب الشيوعي الإيطالي في هذا المجال، حتى أنهُ ضحى بِتطلُعات الحزب المشروعة في إطار سياسة التضامن الديمقراطي‘.

مما لا يمكن نِكرانه أن الحزب الشيوعي الإيطالي إلتزم بموقف مسؤول للغاية خلال ما يُعرف بـ ’سنوات الرصاص‘ الإيطالية. وهذا هو الحال بشكل خاص نظراً لأن الإرهاب اليساري كان في كثير من الأحيان مُتخفياً تحت راية ’تحقيق الإشتراكية‘، وهو ما يعني أن نشاط هذهِ الجماعات المُسلحة كان مُرتبطاً في كثير من الأحيان بأيديولوجية الحزب. ورداً على ذلك، ’رد الحزب الشيوعي الإيطالي بأنهُ أصبح حزب القانون والنظام والمُدافع الرئيس عن الدولة الإيطالية‘. ونأى الحزب بِنفسهِ عن هذهِ الجماعات، ورفض دعمها، وأحبط نشاطها، وأنكر الفائدة المزعومة للعمل العنيف في الطريق إلى الإشتراكية.

ومن جانبهِ، ساهم الحزب الشيوعي الأسباني الأوروبي في إرساء وتعزيز الديمقراطية، وأظهر موقفاً مسؤولاً في بعض اللحظات الحَرِجة خلال الفترة الإنتقالية التي أعقبت وفاة الجنرال فرنكو. وهذهِ تضمنت ردفعل الحزب على مذبحة اليمين المُتطرف في منطقة أتوتشا Atocha في العاصمة مدريد، التي كانت تهدف إلى إثارة رد فعل عنيف، وصمودهِ لفترة طويلة قبل تشريعها في نهاية المطاف. وفي العموم، كما قال المؤرخ جوف إيلي Geoff Eley، ’ تحت راية الشيوعية الأوروبية، حققت هذهِ الأحزاب إصلاحات حَسَنت حياة المواطنين‘: وفي حالة إسبانيا هذا يعني تحقيق الدستور، إصلاح جهاز الشرطة والأمن، وإلغاء عقوبة الإعدام، وإدانة التمييز على أساس الجنس. والحصول على وسائل منع الحمل، وإلغاء تجريمها أخلاقياً. وفي إيطاليا، كان يعني تقوية الأقاليم وتحسين المناطق الحضرية إيجارات عادِلة وإسكان إجتماعي وصحة عقلية وصرف صحي وتشريع الإجهاض وتوسيع الخَدَمات – حتى وإن تم إبطال بعض هذِ الإجراءات بسبب الفساد المُستشري في الحزب الحاكم .

وعلق المؤرح إيلي Eley أيضاً قائلا، بِأن إعتدال سانتياغو كاريلو Santiago Carrillo، والإعتراف بالنظام الملكي، وقبول الإستمرارية في القضاء والإدارة المدنية، يعني أن الإستراتيجية الشيوعية الأوروبية لم يكُن من المُمكن تنفيذها في حزب ستاليني. كانت الشيوعية الأوروبية بِمثابة مُحاولة ’للهروب من البديل الأبدي الذي أسستهُ الستالينية: أي ’المُراجعة‘ أو الحفاظ على ’إستقامة الرأي‘. كان هناك رغبة في التغلُب على المُعضِلة – التي كانت موضع إنتقادات الفيلسوف والمؤرخ السياسي الإيطالي نوربيرتو بوبيو Norberto Bobbio – بين “الرأسمالية مع الديمقراطية أو الأشتراكية بدون الديمقراطية”. ولكن هذهِ الرغبة فشلت في تحقيق أهدافها ووعودها. وكما زعم الصَحَفي الأسباني لودولفو باراميو Ludolfo Paramio في عام 1988:

إن مفتاح أزمة الشيوعية الأوروبية موجود في طبيعة المشروع نفسه، في الحاجة إلى جمع بين استراتيجية إصلاحية وهوية ثورية. وأي تحول على طول هذين الخطين يتطلب توازناً رفيعاً للإيقاعات. فمن ناحية، لا بد من موازنة كل خطوة جديدة نحو الإصلاح بِعناية حتى لا نُخيّب آمال النُشطاء في الحزب.

وهذا التوازن لم يتحقق، وإنتهى المطاف بالشيوعية الأوروبية إلى أن تُصبِح أكثر دعائية وسطحية من كونها حقيقية ونظرية، وغير قادرة على استكشاف مسارٌ جديد. وخلال وجودها القصير فضلت التخلي عن ما كان يُعتبر في السابق أمراً ضرورياً، والتشكيك في ما كان أساسياً لبقاء الحركة، وتشويه الركائز الأساسية للشيوعية: ’في نوع من التعري التاريخي، كانوا يتخلصون من – يُجردون، إذا جاز التعبير – من طبقة فوق طبقة من ماضيهم العقائدي، لِصالح ’الإنسحاب من المرحلة التاريخية‘ للشيوعية.

في سبعينيات القرن الماضي قيلَ أن شبح الشيوعية الأوروبية يُطارد أوروبا الغربية. وعلى السؤال حول ما هية الشيوعية الأوروبية – هل هي ’تقليدية‘ أم ’جاهزة الصنع‘ – كانت الإجابات تتضمن: أملاً جديداً لليسار، ’وفخاً للشيوعية القديمة‘، و’الماركسية الحقيقية للمجتمع الأوروبي اليوم‘. من الواضح، أن الظاهرة الآن في حاجة إلى الدراسة من حيثُ ما كانت عليه، وليس من حيث ما كان يمكن أن تكون عليه.ولكن على الرغم من مرور الزمن، لا يزال من الصعب التوصل إلى إجابة مقبولة عُموماً على هذا السؤال. وحتى التعريف المُرضي والكامل للشيوعية الأوروبية يَظَلُ مُثيراً للجدل. إن عدم تحديد هذهِ الظاهِرة يعني أن العديد من التعريفات قد صِغت، كلٌ منها يُضيف شيئاً أو يُوضح نقطة؛ ولكن في النهاية، أثبتت جميعها أنها غير قادرة على إحتواء ظاهِرة مُعقّدة للغاية. لقد كانت عبارة عن القليل من كلُ شيء ولاشيء ، كانت عِبارة عن إحساس وجدل، كانت عِبارة عن أمل وخيبة أمل.

وكما زعم عالِم الإجتماع الأرجنتيني جوليو جوديو Julio Godio، فقد تذبذب الناس بين النظر إلى الشيوعية الأوروبية بأعتبارها ’إستجابة لأزمة الماركسية‘ وتكتيك مكيافيلي لإرباك الخصم‘. وكان رده أنها ’ليست هذهِ ولا تِلك، أو رُبما، وفقاً لمنطق التاريخ، كلتيهما في نفس الوقت‘.لقد تبين في نظر ماسيمو إل سالفادوري Massimo L. Salvadori المؤرخ البريطاني الإيطالي أن هذهِ الأسطورة كانت ’أسطورة أيديولوجية جديدة لايمكن ترجمتها إلى استراتيجية ملموسة‘. ونتيجة لهذا فإن ’ربيع الشيوعية الأوروبية سرعان ما أفسح المجال لخريف سابق لأوانه … وأنتهى الأمر بالإستنزاف والطريق المسدود‘.

وفي الخِتام، أودُ أن أزعم أن الأهتمام المُتجدد الحالي بالشيوعية بأشكالها المُختلِفة يرجع إلى حقيقة مفادها أن القرن العشرين، على عكس العديد من التوقعات، لم يكن قرن الشيوعية، بل كان اختباراً مُستمراً وقاسياً هَدّدَ بقاءها ذاتهِ. في بداية القرن، إقترحت وجهة نظر مُتفائلة إنها سترى النصر المحتوم لأيديولوجيات اليسار – في عددٌ من المُتغيّرات في جميع أنحاء العالم. ولكن مُنذُ عام 1989 أصبح من الواضح أن ’هذا الهدف أصبح في وقت لاحق من الزمن. والحقيقة أننا قللنا من شأن قدرة الرأسمالية على التكيّف مع الظروف الجديدة … وبالغنا في تقدير السرعة التي قد تنتشر بِها الإشتراكية‘.

وبِحسب زبيجنيو بريجنيسكي دبلوماسي أمريكي، فقد أظهرت التجربة أن ’كلما كان المجتمع أكثر تقدماً، كُلما قلت أهمية حزبهُ الشيوعي. وهذهِ هي المُفاجأة المركزية في مواجهة الشيوعية للتاريخ. فبينما فشلت الشيوعية حيثُ توقعت النجاح، فإنها نجحت – ولكن فقط في مُمارسة السُلطة السياسية – حيثُ كانت الظروف المؤاتية لنجاحها سابقة لأوانها تاريخياً وفقاً للعقيدة‘.

وفي هذا السيناريو، إنتهى الأمر بالشيوعية الأوروبية إلى أن تُصبِح أملاً آخر في نجاح مُحتمل لنموذج بديل للرأسمالية، وهو مشروعٌ وهمي قصير إنتهى بهِ الأمر إلى تحقيق النبوءة القائلة: ’على الرغم من الضجيج الكبير الذي يصحبها، فإنهُ مُقدراً لها أن تعيش حياة قصيرة مثل حياة الفَرَاشة‘.