أخذتني الأستاذة التربوية أمينة سعيد الصالح في رحلة جميلة وممتدة عبر سيرتها “بين أروقة التعليم هكذا رأيت”، الصادرة عن دار فراديس للنشر والتوزيع عام 2022.
وفي السيرة يتبدى بشكل جلي دور المعلم المخلص المتفاني والمدير والطاقم الإداري المدرسي المتمتع بروح الفريق في تنمية وتطوير العملية التعليمية برمتها، وفي إحراز النجاح وتخطي العقبات وتصدر قوائم الشرف، وفي الاستجابة للتغيير والتحولات في عالم التمدرس الخاضع للتجارب واكتساب الخبرات المتجددة.
رحلة أمينة كما روتها تبدأ منذ اليوم الأول الذي انخرطت فيه التلميذة الصغيرة ذات الستة أعوام للتعلم في بيت صغير مستأجر لإدارة المعارف، قبل أن تنتقل بعد عام إلى مدرسة فاطمة الزهراء ثم المدرسة الشمالية الابتدائية. تتلمذت أمينة في ذلك الوقت على يد عدد من معلمات لبنان وسوريا وفلسطين ومصر وبعض المعلمات البحرينيات، نالت أمينة قسطاً كبيراً من الاهتمام والرعاية الأسرية كونها الابنة البكر في عائلة تقدّس العلم وتهيئ كل السبل لتمكين الأبناء والبنات علمياً ومعرفياً.
في هذه الفترة تختزن ذاكرة التلميذة الكثير من الحكايات عن معلماتها اللاتي شغفت بحضورهن الجميل وبمستواهن العلمي الرفيع وطرائق تدريسهن المحببة وأناقتهن اللافتة، ونسجت مع عدد منهن الكثير من العلاقات الطيبة والودية التي استمرت عدة سنوات، تخصّ بالذكر معلمة اللغة الانجليزية الفلسطينية نيللي سعادة المحبوبة ذات الشخصية الجذابة، والتي ستزورها أمينة رفقة والداها لاحقاً في مدينة القدس في العام 1961.
تتوقف أمينة أمام حدث مفصلي وقع لها في العام 1965، إذ كانت تتوق وتسعى للالتحاق بالجامعة أسوة بزميلاتها، ولكن وبسبب الأحداث السياسية التي مرت بها البحرين وتعطل الدراسة في النصف الثاني من العام الدراسي توقفت البعثات التي كانت متاحة وميسرة للجميع في ذلك الوقت، بيد أن أمينة سوف تلتقط خيطاً آخر معوّضاً، إذ تيّسر لها أن تنتسب إلى الدراسة الجامعية في مصر أولاً ثم بالحضور تالياً. ستعتبر أمينة لحظة دخولها إلى جامعة القاهرة لدراسة اللغة العربية أجمل فصل في مسيرتها التعليمية، هي التي أسماها والدها أمينة تيمنا بالكاتبة أمينة السعيد، وكم تمنى أن تكون صحفية على شاكلتها، وها هي تقف في قاعة الامتحان أمام الأديبة الكبيرة سهير القلماوي والتي ستبادرها بالسؤال عن شعراء البحرين قائلة لها “أنت يا أمينة قادمة من بلد الثراء الشعري”.
من رتبة معلمة إلى مديرة مساعدة ثم مديرة مدرسة، ستنتقل أمينة من مدرسة إلى أخرى حاملة معها تجاربها التربوية المستمدة من قراءتها ودراستها وتدريبها ومتابعتها لأحدث الإصدارات في المجال الإداري والتعليمي والتربوي والفني والنفسي.
في ثلاث مدارس كبيرة ومهمّة، الحورة وخولة ومدرسة مدينة عيسى، وفي الفترة من السبعينات إلى التقاعد المبكر في عام 2001، سيتكرس اسم أمينة الصالح كعلامة تربوية بارزة واسماً مشعاً في حقل التعليم البحريني، إلا أن مدرسة خولة التي حظيت بمبنى عصري ونموذجي سيكون لها النصيب الأكبر في حديث أمينة، إذ ارتبطت بهذه المدرسة ارتباطاً وثيقاً، وكلا الاسمين أسند وأضاف إلى الآخر، مدرسة خولة التي اشتهرت في تلك الأعوام بالتفوق الدراسي والأنشطة المتعددة والطاقم الإداري والتدريسي المتميز جعل أولياء الأمور يفضلونها وينقلون بناتهم إليها. تشير الكاتبة إلى عدد من خريجات مدارسها الثلاث المتفوقات أمثال الشيخة مي الخليفة وندى حفاظ والهام حسن ومريم الجلاهمة وغيرهن، ممن صنعن تاريخهن في حقبتها وتحت ادارتها وتبوأن المناصب القيادية لاحقاً.
تتحدث أمينة عن أهم القصص والحكايات التي شهدتها المدرسة مع بعض الطالبات وكيف تمّت معالجتها وفق الاسس التربوية والنفسية بشكل ذكي ودقيق ويحفظ سرية الشخصيات.
تعزو أمينة الفضل في نجاح تجربتها إلى اصرارها الذاتي والى أسرتها والى الأطقم الادارية والمساعدة التي عملت معها والشخصيات الداعمة لها.
نالت أمينة التي نذرت نفسها لهذه المهنة المقدسة التكريم والجوائز العديدة وتفرغت في مرحلة التقاعد لتنمية شغفها القديم، القراءة والزراعة والتطريز والطبخ وتقديم الاستشارات التربوية والتعليمة لطالبيها.
وعن نفسي فلقد تجاهلت في هذه السيرة التطرق إلى طرائق التدريس وبرامج وزارة التربية المختلفة ونظام الساعات المعتمدة والأنشطة وغيرها، تركتها لأهل الاختصاص الأقدر مني على معالجتها.
السيرة تعبر عن مرحلة مهمة في مسيرة التعليم الحكومي في مملكة البحرين، التي تتجه حالياً إلى مدارس المستقبل حيث التكنولوجيا والتعليم عن بعد وغيره، لذا تعدّ هذه السيرة مرجعاً للدارسين والمتخصصين، وقد قدّمته لنا المربية أمينة الصالح على طبق مُشوّق وجذّاب.