كبرت وكبرنا معها، هي مثل نخيل بلادي ضاربة جذورها في تراب أوال، لم يستطيعوا اقتلاعها من الأرض بالرغم من كل الضربات الموجعة. بقيت على الثبات والصمود شامخة وعصية لمن أراد لها الفناء والتلاشي عنواناً للتحدي والبقاء فمضت بأشرعتها الحمراء في عباب بحر البحرين تغني أغاني الفرح والأمل من أجل إشراقة الحرية والاستقلال الوطني والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والسلم
فعندما كنَّا أطفالاً قرأنا تلك الشعارات على الجدران (يسقط الاستعمار)، (إخرجوا من بلادنا إيها المستعمرون)، (إطلقوا سراح المعتقلين والسجناء السياسيين) في حيِّنا في المنامة (فريق الحمام)، وتُكتبُ أيضاً مثل هذه الشعارات في العديد من مناطق البحرين، كذلك تُكتبُ في نشرة (الجماهير)، النشرة المركزية لجبهة التحرير الوطني البحرانية التي كانت تصدر بشكل سري في داخل البحرين.
طالما ذكرنا اسم الحزب الذي نحن بصدد الاحتفال بذكراه السبعين، فهو من أقدم الأحزاب السياسية الماركسية في البحرين والخليج العربي، منذ تأسيسه في الخامس عشر من فبراير عام 1955، خاض معاركَ نضاليةً وثوريةً عديدةً، وقدَّم مناضلوه تضحياتٍ كبيرةً من استشهاد واعتقال ونفي ومطاردة وفصل من العمل والحرمان من العديد من الحقوق الدستورية. نشط هؤلاء المناضلون مناضلوه في صفوف الجماهير، ونظموا العمال في الشركات ومواقع العمل المختلفة وقادوا الاحتجاجات والمسيرات والإضرابات العمالية منذ تأسيس حزبهم، حزب العمال والكادحين والمثقفين الثوريين، وجاء تفجير سيارتَي بوب وأحمد محسن مسؤولَي جهاز المخابرات آنذاك، في مارس من عام 1966 من قبل مناضلِي الحزب وفي مقدمتهم المناضل الراحل الفنان مجيد مرهون، بمناسبة مرور عامٍ على انتفاضة مارس المجيدة عام 1965، رداً على التعذيب الوحشي لمناضلي الجبهة والحركة الوطنية في السجون والمعتقلات في تلك الفترة، بعد قمع انتفاضة مارس المجيدة عام 1965.
وأنا أذكر هذا الحدث، دار حديثٌ مع الرفيق الراحل عبدعلي الخباز أحد قادة “جتوب”، قال فيه بأن العديد من المواطنين تقدموا إلينا بطلب الانضمام إلى الجبهة، فاسم الجبهة انتشر بشكل واسع في صفوف الجماهير واعتقد البعض بأنها تؤمن بالعنف والكفاح المسلح، وواصل رفيقنا الراحل عبدعلي حديثه: كان علينا توضيح الأمر لهم بأننا حزبٌ سياسيٌّ وطنيٌّ من حقه أن يمارس كل أشكال النضال الوطني في ظل وجود الاستعمار البريطاني وهذا يقرُّه ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ولكننا حزبٌ سياسيٌّ نؤمن بالنضال السلمي الذي يقود نحو تحولات ديمقراطية، من أجل قيام مجتمع ديمقراطي توجد فيه سلطة تشريعية منتخبة .
يتذكر أحد المشاركين في انتفاضة مارس 1965 المجيدة المناضل الرفيق موسى جعفر خميس (أبو فلاح )، حادثة افتعال “هوشة” في سوق المنامة بين عناصر من مناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية في 12 مارس 1965، انتهت بترديد هذه الشعارات (يسقط يسقط الاستعمار، عاشت ذكرى البلدية، عاشت ثورة الأحرار) عندما تجمع الناس وبدأت المسيرة في شوارع وأزقة المنامة. وما هذه إلا صفحات من تاريخ جبهة التحرير الوطني التي كانت الجبهة تنشط في وسط الجماهير، ففي ذكرى عاشوراء ( ذكرى استشهاد الحسين وأصحابه في كربلاء) تصدر البيانات ونشرة “الجماهير” لتشعل الحماس والنضال ضد الاستعمار البريطاني والرجعية، في نشرة “الجماهير “الصادرة في مايو 1965 كُتِبَ هذا الشعار (اللي يريد حقوق لازم تضحية ….باسمك يا شهيد انصر الأحرار …والقوم ظلام مافيهم رحم ….ثورة الأحرار لازم تنتصر). كان هذا الشعار أيضاً يتردد في موكب العزاء (يا داحي الباب عجل بالنصر … جبهة التحرير لازم تنتصر) .
كانت الجبهة تناضل في صفوف الجماهير وتتشارك معهم في المناسبات التي تخصهم، فهي من هذه الجماهير الفقيرة والكادحة، لهذا كان صوت الجبهة مسموعاً، تتلهف الجماهير وبشوق كبير لصدور نشرة “الجماهير” وبيانات الجبهة ، ففي برنامج الجبهة السياسي (برنامج الحرية والاستقلال الوطني والديمقراطية والسلم) الصادر في عام 1962، حددت الأهداف، ومن ضمن البنود الخمسة عشر التي تضمنها هذا البرنامج السياسي، يقول البند الثالث: “تناضل الجبهة لأجل إيجاد حكومة وطنية ديمقراطية تعمل لمصلحة الشعب البحريني وتطهر جهاز الإدارة الاستعمارية من الإداريين الإنجليز وأعوانهم وتقيم نظام إدارة وطني ديمقراطي وبإقامة مؤسسات ديمقراطية تكفل الحريات الديمقراطية لمجموع الشعب البحريني، برلمان ومجالس إدارة وبلدية ينتخبها الشعب وتمثله حقاً وتضع دستوراً يقوم على أساس ديمقراطي يأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية لوطننا”.
شاركت الجبهة منذ تأسيسها في الانتفاضات والاحتجاجات والتظاهرات الجماهيرية ونظمت وقادت العديد من الإضرابات العمالية، نذكر هنا إضراب عمال وموظفي الكهرباء الذي بدأ من 9 أبريل 1968 إلى 15 أبريل 1968 وبالأخص في محطة التوليد، وننشر هنا مطالب الإضراب كما أوردتها افتتاحية عدد “الجماهير” الصادرفي شهر أبريل عام 1968: “تركزت مطالب العمال، زيادة الأجور، تشكيل نقابة، وتثبيت العمال اليوميين إلى عمال شهرين، وإقالة رؤساء الأقسام ووضع حد للتعسف وإيقاف الفصل الكيفي، واستمرار دفع الزيادة السنوية للعمال”، ويومهان وتعليقاً على الإضراب قال المرحوم السيد شرف العلوي رئيس دائرة الكهرباء: (ويش عاطيني دائرة فيها كلّ شيوعيين).
من المحطات الهامة في تاريخ جبهة التحرير الوطني البحرانية قرارها السياسي بالمشاركة في انتخابات المجلس الوطني في السابع من ديسمبر 1973 حيث شكَّل ” كتلة الشعب” اليسارية التي حققت انتصاراً كبيراً بإيصال ثمانية مرشحين من أصل اثني عشر مرشحاً للكتلة إلى قبة المجلس الوطني، شاركوا وفق برنامج انتخابي واضح المعالم كان للقائد المناضل الراحل الرفيق علي دويغر أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني، دورٌ بارزٌ في كتابته مع بعض الرفاق في الكتلة .
محطة هامة في تاريخ الجبهة والحركة الوطنية البحرينية كانت تأسيس لجنة التنسيق خارج البحرين مع الرفاق في الجبهة الشعبية في البحرين في بداية تسعينيات القرن الماضي، وأصدرتا نشرة مشتركة باسم (الأمل) كان لرفيقنا القائد الكبير الراحل أحمد الذوادي، أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني البحرانية والأمين العام لها ، بالتعاون مع الرفيق القائد الكبير الراحل عبدالرحمن النعيمي الأمين العام للجبهة الشعبية في البحرين، دور في تأسيسها واستمرارها لسنوات قبل أن تتوقف.
هذا جزء بسيط من التاريخ النضالي لجبهة التحرير الوطني البحرانية، مطلوب من الرفاق الأحياء وبالأخص الذين تحملوا مسؤوليات حزبية في الأطر التنظيمية للجبهة تدوين المعلومات التي لديهم على شكل مذكرات أو ذكريات، لتتعرف الأجيال الحالية والقادمة على التاريخ السياسي والتضحيات الكبيرة التي قدمها مناضلو الجبهة في الظروف الصعبة، هناك من واصل المضي في الطريق الصعب ولم يتزحزح قيد أنملة عن مبادئ وأفكار الجبهة .
في الذكرى السبعين لتأسيس جتوب نتوجه بالتحية والتقدير إلى الرواد الأوائل الرفاق وإلى سائر مناضليها، والمجد والخلود لشهدائها الأبرار.