وصف الرئيس الأمريكي، القديم الجديد دونالد ترامب إطلاق النار في غزّة بأنه “ملحمي” دون ان يجعل الكيان المعتدى موضوعاً للتوبيخ والمؤاخذة. اتفاق أكد في نهاية الأمر أن نتنياهو أبعد ما يكون عن النصر، والفلسطينيون في غزة أبعد ما يكونون عن الهزيمة، ولذلك وجدنا بعض المحللين وهم يذهبون إلى ما يفيد بأن قراءة الواقع تؤكد أن الهيبة الإسرائيلية انكسرت، ولكن غزة لم تنكسر بسبب الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، وإذا كان هناك من يرى أنه ليس هناك اجابات حاسمة قاطعة خاصة تلك التي تتصل بالنيات والتقديرات والحسابات ولا سيما إذا كانت هذه الإجابات ممن لا يرون في الكيان الصهيوني بأنه كيان غاصب وعنصري وفاشي ولكن بالمقابل اتضح للعالم أن كل الحجج الخاصة بتصفية القضية الفلسطينية قد دحرت، وفي الوقت ذاته مست في الصميم كل تلك الادعاءات التي يزعم أصحابها من زعماء ورؤساء دول بأنهم أحرص ما يكونون على السلم والأمن والاستقرار في المنطقة، ولكنهم في الوقت ذاته يتجاهلون أن ذلك هدف لن يتسنى بلوغه إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره.
هذا أمر جددت منظمات حقوقية عربية ودولية التأكيد عليه باعتباره من الثوابت الجوهرية وهو ان إنهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية استحقاق يفرضه القانون الدولي وليس كما تحاول بعض الدول الغربية التي لاتزال تسعي للالتفاف على هذا الحق حين تحصر دعواتها وجهودها على معالجة الأزمة الإنسانية، هذه الدول لم تدافع عن الديمقراطية ولاعن حقوق الإنسان، او حقوق المرأة والطفل، وتعامت عن ما يقتضيه الواجب والضمير ..!
الضمير الذى تحتفل به تلك الدول والمجتمع الدولي بوجه عام بيوم عالمي في 5 أبريل من كل عام ، وهو اليوم الذى نصت ديباجة الإعلان عنه في عام 2019 من قبل الجمعية العمومية للأمم المتحدة على انه يأتي من منطلق “أن تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الانساني”، هل يمكن تجاهل أن هذه الحرب هزّت الضمائر الحية في العالم بشكل فاق حدود التصور والخيال، وفي الوقت ذاته كشفت أن هناك من ضرب بعرض الحائط كل ما خالف الضمير الإنساني وعبّر عن قمة ازدواج المفاهيم والمعايير والمبادئ والقيم الحقوقية والإنسانية. كلها سقطت على أعتاب غزة والمأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني، ألم يحدث ذلك حدث وسط صمت و تواطؤ دولي وتخاذل عربي وانقسام فلسطيني، وجامعة للدول العربية، المحيّر في أمرها أن لا دور لها .. كأنها في غيبوبة.
نأتي إلى “الصفقة”، أو اتفاق “الهدنة “، أو الاتفاق “الملحمي”، أو الاتفاق “الملغم” الذى لا يعرف أحد ما بعده وجدنا من هلل ورحّب وطبّل وتفاءل وأشاد بهذه النتيجة في ردود فعل عربية واقليمية ودولية، ولكن لم يتحدث عما إذا كان هذا الاتفاق “الملحمي” سينهي بشكل دائم الحرب الوحشية على غزة، ولا عن ما يمكن أن يبنى على هذا الاتفاق، كما لم يتحدث عن قضايا جوهرية وفي مقدمتها الأفق السياسي اللازم والمطلوب للقضية الفلسطينية، وسيكون على من تساءلوا عن من المهزوم ومن المنتصر مراجعة حساباتهم لأن القضية الفلسطينية ستبقى حية ومستمرة لأنها قضية شعب يقاوم الغزو والاحتلال، شعب ضرب أروع صور التحدي والصمود برغم كل التحديات والأوجاع وبرغم كل ما حدث له من تمزيق وترويع وقتل وابادة جماعية ومحاولات تهجير ظل شعب صامد ومتمسك بالبقاء والأرض، وأثبت أن القضاء عليه ضرب من ضروب المستحيلات .
علينا أن نلاحظ أن الاحساس العام لدى الكثيرين في الكيان الصهيوني بالهزيمة أقوى من زهوهم بالنصر وذلك يعود لأسباب عديدة لعل من أهمها انهيار نظرية الردع والقبة الحديدية، وسقوط أوهام كثيرة كانت تروّج لها الدولة العبرية ومنها أنها الدولة التي تمتلك أكثر الجيوش “أخلاقية” في العالم. لقد ثبت عكس ذلك بعد المجازر والوحشية والتدمير العشوائي وحرب الإبادة وكل الفظائع التي جرت على مرأى ومسمع من العالم، ويضاف إلى ذلك فشل استعادة الرهائن لولا الصفقة، وحدوث انشقاقات وتصدعات داخل المجتمع الاسرائيلي، إلى جانب الخسائر الاقتصادية الفادحة أن ما جرى في غزة لا يحتاج إلى اي شروحات يكفي القول إن القادم منها اخباراً، تقارير، ومشاهد دم، وقتل، وابادة لأكثر من 470 يوماً كلها تفتح أبواباً للوجع وحفرت مكانها في الذاكرة، مشاهد عكست صبر آباء وأمهات وجدات وأجداد ونساء ثكلى، ورجال ودعوا فلذات أكبادهم، وشعب ضاقت بهم الأرض وحاصرهم ليس العدو فقط بل حتى الشقيق والصديق ..!
لقد وجدنا من يحذر ويقول إنه من الخطأ الإغراق في التفاؤل ووجوب الاستعداد لكل الاحتمالات، لذا يمكن القول ‘نه لم يكن مستغرباً حتى في ظل الحديث عن قرب انجاز المراحل النهائية من “الصفقة ” لم تتوقف شلال الدماء الفلسطينية إذ ظلت حتى لحظة الإعلان عن التوصل إلى الصفقة باستمرار القصف وتسجيل استشهاد العشرات وهم يحتفلون بإعلان وقف العدوان، إضافة إلى ذلك وجدنا أطرافاً اسرائيلية متطرفة وهى ترفض الصفقة المزعومة وتصفها بالكارثة على الأمن القومي لإسرائيل، وهناك من الجانب الصهيوني من اعتبرها أسوأ الصفقات الكارثية التي عقدتها إسرائيل في تاريخها على الإطلاق، وهناك من نفس الجانب من قال إن الصفقة لا تشعرنا بالنصر وأن معايير النصر مختلفة عن مفهومها المعتاد، وأحد وزراء هذا الكيان أعلن صراحة وبوقاحة: “إن الحرب لن تنتهي بأي شكل من الأشكال دون تحقيق أهدافها كاملة، وفي مقدمتها التدمير الكامل لحماس في غزة ” ..!!، ولذلك يكفي القول إن الاتفاق سيظل يترنح بين مراوغات نتنياهو وألغام التفسير والمسكوت عنه وعلى الجميع الاقتناع بأن الحلول المؤقتة ليست كافية لإنهاء معاناة الفلسطينيين، كما أنها ليست لعودة الأمور لنصابها الصحيح والمطلوب ..!
سؤال فرض نفسه؛ هل يمكن أن تختلف جهنم وبوابات جحيم ترامب التي وعد بها الفلسطينيين قبل أن يطلق ولايته الرئاسية الجديدة إذا لم يطلق سراح الأسرى الاسرائيليين عن جهنم التي عايشها ويعايشها أهل غزة طيلة الخمسة عشر شهراً الماضية وحتى الآن ..؟!، وهل ستظل ردود الفعل، والمعادلات السياسية الجديدة التي تثير وابلاً من التساؤلات والمخاوف تدور حول قاسم مشترك ميزته إغفال التصدي لجوهر المشكلة، وشطب فلسطين كقضية عادلة، وحقوق مشروعة، ويتجاهل الجميع أن جوهر المشكلة هي القضية الفلسطينية، والدولة الفلسطينية المستقلة كاملة الأركان والمقومات، الأمر المؤكد والثابت أن القضية الفلسطينية لا زالت قضية الشعوب العربية الأولى والكبرى رغم كل العراقيل، وكل المؤامرات، وكل التخاذلات، وكل الشعارات المزيفة ، وكل محاولات وضعها في دائرة المراوحة التي يُجتر فيها الكلام للتملص من الالتزامات وازدراء الحق الفلسطيني.
بالنسبة لنا في البحرين كان معبراً ذلك الموقف الذى عبرت عنه جمعياتنا السياسية في بيانها المشترك على خلفية اتفاق وقف العدوان على غزة والذى أكدت فيه على أن وقف اطلاق النار ليس نهاية المطاف بل يجب أن يكون بداية لتحقيق العدالة وإنهاء الاحتلال بشكل كامل، وإحالة مرتكبي جرائم الحرب إلى المحاكمة بتهم تتعلق بجرائم حرب، وفي الوقت ذاته جددت رفضها لكل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني وعدم منح الشرعية لكيان اغتصب الأرض وارتكب جرائم حرب، وأبدت الجمعيات تقديرها الكامل لشعب البحرين لوقفته المخلصة وتضامنه مع الشعب الفلسطيني ونصرته في نضاله العادلين اجل الحرية والكرامة، ويشهد له وقفاته التضامنية المستمرة ولا زلت اذكر تلك اللافتة المعبرة التي رفعها احدهم في احدى الوقفات “قضيتنا فلسطين .. ما لكم لا تناصرون” وهي رسالة احسب انها موجهة للجميع.
ذلك هو موقف شعب البحرين الثابت والداعم لنصرة القضية الفلسطينية، والمؤمن بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي لم يضع الصهاينة نصب أعينهم أبداً، ولا يضعون نصب أعينهم اليوم ولا غداً قيامها، وهى بالنهاية ستقوم مهما “ألقوا القيود على القيود”، كما قال الشاعر توفيق زياد في قصيدته “من وراء القضبان”، وربما في محله استدعاء ما قاله في قصيدته “الجوع إلى الحرية ” التي ألقاها في الناصرة أواسط مارس 1971، وكأنه يتحدث عن كل بشاعات الاحتلال وعنصريته وفاشيته وارتكابه في غزة اكثر العمليات الحربية انفلاتاً و قذارة مارسها دون هوادة طيلة سنة وثلاثة أشهر ، يقول الشاعر زياد :
في التاريخ حروب لا تحصى ولا تعد
أنهكت الأرض، وأهل الأرض
لكن .. هنالك حرباً واحدة مشروعة
هى حرب المظلومين على الظلام
حرب النور على العتمة
حرب الإنسان على الإنسان – الحيوان
والجوع إلى الحرية كان .. والجوع إلى الحرية ما زال
الأجمل والأقسى في تاريخ الإنسان .. في كل زمان ومكان
بعد “الصفقة” الهشة التي هي خطوة على طريق طويل وبعد ان وضع الجحيم أوزاره وصمود أسطوري للشعب الفلسطيني في غزة فد يكون مهماً التأكيد بأن حرب الإبادة وكل الجرائم التي ارتكبت في غزة لا تنسى ولا تسقط بالتقادم، وهنا من المناسب ان نستحضر تلك الكلمات الرائعة لنجيب سرور “لا حق لحي أن ضاعت في الأرض حقوق الأموات “.