لطالما اعتقدنا واهمين أنّ المبالغة في التطور التكنولوجي أمر محمود وأنه في مصلحة رفاه الإنسان وتسهيل شؤون عيشه وصحته، كنا نظن أن الإنسان الصانع الحديث (من يحتكر الصناعة بالقوة) يصنع من أجل الإنسان الآخر، ولكننا اكتشفنا في ذهول بأن صناعاته إنما تأتي لتلبية الرغبات الشيطانية الكامنة في نفسه لتسهيل عملية إخضاع البشر والهيمنة عليهم بنشر الشر في أرجاء العالم. وبالمقارنة بما صُنِعَ من أجل الإنسان وما صُنِع لفنائه وتدميره نجد بوضوح أن الأولى أقلّ بكثير من الثانية، وقد تقلب المفاهيم عندما يروّج هذا الصانع عبر الدعاية -وهي أحد وسائل الخداع الحديثة- أن كل ما يصنعه من منتوجات إنما هي من أجل رفاه بني البشر وعلى الجميع أن يستهلكها دون أي تردد. والإنسان بطبيعة الحال يخفي في داخله الملاك والشيطان/ الخير والشر.
إن تطور التكنلوجيا السريع جداً هو في الأساس نتاج النفس الشيطانية بحيث يهدف الى زيادة فعالية أدوات القتل والإبادة والتدمير والخراب ناهيك عن الاستلاب الذي تمارسه المصانع ضد عمالها عبر تهديدهم المستمر باستبدالهم بالآلة الأوتوماتيكية، والعِلمُ في هذا المنحى قاعدةٌ ما شذَّ منها هو ذلك القليل الذي يصبُّ في مصلحة الإنسان واستفادَت منه البشرية ممّن وصلتهم التكنلوجيا مصحوبةً بالعولمة. أي بمعنى آخر، المصلحة التدميرية وتطوير السلاح الأكثر فتكاً -قنبلة نووية أو ذريّة أو حتى بيولوجية- هو الأولوية القصوى للعلم التجريبي المادي والصناعة النيو ليبرالية الحديثة التي لا تعترف بأي ضوابط أخلاقية مقابل القيمة الربحية وتراكم فائض القيمة، أما ما يصب في مصلحة النمو البشري والتنمية البيئية من رفاه وصحة، فهو أمر ثانوي جداً خاضع للاحتكار والتمييز العنصري بشروط الإمبريالية التي لم تكن متاحة لها لولا استغلال البشر وإعلاء قيَم الشر على الخير.
” كوادكابتر تلاحق الأطفال”
ومن نتائج صناعة الشر التي ينتجها الإنسان الشيطان هو ما شاهدناه في غزّة خِلالَ عامٍ وأكثر على الهواء مباشرة من إبادة هي الأبشع في التاريخ الحديث. أدوات ووسائل حديثة متطورة جداً تقتل الناس بشتى الطرق دون أي ضمير أخلاقي. كوادكابتر (طائرة متوسطة الحجم أو صغيرة تُحرَّك عن بُعد على طريقة الدرون) تلاحق الأطفال في الأزقة وتدخل من نوافذ البيوت وبين خيام النازحين الأبرياء تطلق الرصاص والمواد القاتلة وتصدر أصواتاً غريبة مرعبة. هذه واحدة من أحدث وسائل القتل المطوَّرةِ تكنولوجياً وعلميّاً يجري اختبار كفاءتها على الناس الأبرياء وهناك الآلاف منها بمختلف الأشكال والأحجام. يبقى السؤال المحيّر: الى أي مستوى سيصل الإنسان الشيطان الصانع الحديث/العاقل في صنع أدوات الشر التي قد تقضي على البيئة الطبيعية والحياة البشرية وتنشر الأمراض والدمار؟ هل ثمّةَ من سُلطة للضوابط الأخلاقية، أَم أن العالم كله بحجرهِ وبشرهِ وكائناتِهِ الحيّة خاضعٌ للتجربةِ العلمية!
لا أحد يدري تماماً إلى أي حد سيصل هذا العدو المجرم الآثم في تماديه على الإنسانية وهو الذي سَخَّرَت له قوى الهيمنة العالمية كل الوسائل والأموال والدعم والغطاء حتى يستمر إلى مالانهاية في هذه المقتلةِ العظيمة. الآن بعد أن تعب هذا العدو الجبان من كل أنواع القتل والتدمير، يرضخ أخيراً لشروط أصحاب الحق والأرض ويوقف الآلة التكنولوجية القاتلة ويصرِّحُ قادته بالهزيمة والعار (أخزاكمُ اللهُ من بين الغزاةِ ** فما رأى الورى مثَلكُم ولا سمِعوا).
كلما تعاظمت المنظومة التكنولوجيّة الصناعية وزاد تعقيدها زادت إمكانية حدوث الثغرات من داخلها كما قال إدوارد سعيد، وكلما زادت الثغرات أمكن الإمساك برسَنِ ذلك الشيطان الهائج. الكوادكابتر التي تعيث فساداً تدخل أحد المنازل المهدمة، فتجد مصادفةً أسداً جريحاً يرمقها شزراً، يرتبك من يتحكم بها على بعد كيلومترات، يحدق ذلك البطل في عدسة الكاميرا، يرفع عصاه، يهزها، ثم يلقيها على الطائرة هازئً بها، يجفِلُ البعيد الذي يقودها تهتز الكاميرا يتقهقر بها، واهتزاز الكاميرا يشير إلى اهتزاز يد من يتحكم. ينقطع المشهد على خبر استشهاد فارس عربي مغوار هزَأَ بكل أدواتهم الحديثة التي تحاول رصده دون جدوى وسطّر ملحمةً بطوليةً سيخلدها التاريخ. علَّمنا هذا الفارس كما فعل غيره من السادة والقادة أن الشجاعة هي فيما تمتلكه من حق ومن بأس ومن عزم وهدف لا في الأدوات التكنلوجية الحديثة وحدها، وإنّ أشدّ أنواع الشجاعة طلب الحرية. أستطيع القول الآن أن التكنولوجيا الحديثة لم تكن بخدمة الإنسان بقدر ماهي في خدمة الشيطان.
“تولستوي وبروميثيوس”
يختلف ليو تولستوي الفيلسوف والروائي الروسي مع التصور الغربي للإبداع العلمي المنتِج للتكنولوجيا والصناعة. يرى تولستوي أن الإنسان حتى يصل للنقاء العرفاني عليه أن يعيش حياة بسيطة بالتناغم التام مع الطبيعة واستلهام روحانية الدين فيه، عندها ستتكشف للإنسان مكامن قوته الإبداعية وإذا عمل على تطويرها بجدّ سيصل إلى مرحلة الترقي الروحي وبالتالي الإبداع المنتِج لمعرفةٍ علميةٍ تكون من صميم الجوهر الإنساني والطبيعي (الطبيعة بكل ما فيها من كائنات). وبحسبِ فلسفة تولستوي؛ يتمكن أي إنسان عاقل من استكشاف شعلة الإبداع في نفسه والتي تكون في الغالب خافتةً أو مكبوتة لن يدركها بوضوح إلا إذا ترقى أخلاقياً ثم يحاول الترقي في العلوم المادية، أي أن الإبداع ناتج للترقي الروحي الأخلاقي أولاً. وقد يعيش الإنسانُ حياةً كاملة دون أن يستكشف تلك الشعلة الكامنة فيه أو يستكشفها في وقت مبكر. إن هذه الطاقة المعرفية الأخلاقية التي تتشكل من عوامل عدة أهمها محبة الخالق والتناغم مع الطبيعة والمبدأ الأخلاقي تُنتِج موهبةً إبداعية خيّرةً بالضرورة. وتظهرُ في أشكالٍ إبداعية معرفية إنسانية متنوعة يبرز فيها الجانب الجمالي والطبيعي؛ كنصّ أدبي مثلاً أو فن أو موسيقى أو عِلمٍ يخدم الإنسان لا يضره ويفنيه مثل عجلة تدفعها طاقة النهر لتولد الكهرباء…الخ، أو عمل أخلاقي يساهم فيه البشر في مساعدة بعضهم.
اشتبك مفكرو الغرب مع فكرة تولستوي التي ترى مصلحة الإنسان والطبيعة فوق كل طموح وأن الإبداع لابد أن يكون خيّراً نابعاً من ذات الإنسان الخيّرة وتأتي بالتدريج والترقّي. بينما يؤمن المفكرون في الغرب بعد الثورة الصناعية بتصورٍ يختلف تماماً مع تولستوي، حيث أن إرادة الإنسان نفسها هي ما يجب أن يتسيّد المعرفة ولا إرادة أخرى غيرها حاكمة عليها وهي تسير وفق محددين أساسيين: إرادة القوة النيتشوية وحتمية التطور الداروينية أو ما يعرف بالداروينية الحديثة، وهما محددان لا يعتبران الأخلاق شيءً ضرورياً. في الحالة هذه ليس من المهم أن تدخل في علاقة مع الخالق أو مع النفس لستلهم من ذاتك الطاقة الإبداعية (من الداخل الى الخارج) بل الإنسان وحده فقط من يصنع إرادته وفق ما يشاء وكيفما يشاء (من الخارج الى الداخل)، إذن فالإنسان والحال هذه ليس بحاجة إلى التناغم مع الطبيعة بل الاستحواذ عليها ولا إرادة فوق إرادته، يعني بإمكانه أن يستحوذ على كل شيء بالطريقة التي هو يريد، هنا يتعاظم الطموح والقوة والإرادة فيحلّ الإنسان محلَّ الإله، تتضخم الأنا وتبرز قوة الشرّ الكامنةِ فيه، فلا يُنتِجُ موهبةً خيّرةً بالضرورة، أو كما يقال سالبة بانتفاء الموضوع.
تعدّ أسطورة برومثيوس في الميثولوجيا الإغريقية بمثابة الفكرة الملهِمة للتصور الغربي، تقول الأسطورة: إن بروميثيوس سرق شعلة النار من الآلهة الذين كانوا يحتكرونها وأعطاها الإنسان، وشعلة النار ترمز إلى الحرية والإرادة. عندها استطاع الإنسان أن يكتشف أداة الخلق الإبداعية واستحوذ عليها ثم أخضعها لإرادته، الأمر الذي مكّنه من التطور والصناعة والابتكار اللامحدود وغير المضبوط بأي ضابط، حينها لم يعُد أسيراً خاضعاً تحت رحمة الآلهة المتغطرسين.
ما الذي فعله الإنسان الغربي البروميثيوسي عندما استحوذ على شعلة المعرفة وأخضع الطبيعة لسُلطته وإرادة القوة لديه؟! جعل العلمَ وسيلةً لغاياتِهِ وأطماعِهِ وهوسِهِ في السيطرة على البشر والحجر، اكتشف أشياء مهمة طوّرت حياة الناس وجعلته أكثر رفاهاً من جهة وأكثر استبداداً من جهةٍ أخرى، إلا أنه بإبعاده للجوانب الأخلاقية وللضمير الإنساني وعندما ظن أنه استحوذ على الطبيعة يحاول السيطرةَ بغطرسةٍ على أعظم طاقة في الكون: الطاقة النووية، دون أن يدرك تمام الإدراك مغبّةَ العبث مع طاقةٍ لو فلتَت منه ستؤدي إلى فناء الحضارة البشرية برُمَّتِها، ناهيك عن محاولاته ابتكار أسلحة بيولوجية عن طريق تطوير أصناف جديدة من البكتيريا والفيروسات مما قد يؤدي أيضاً الى اعطاب البشرية لو حدثَ خللٌ ما.
الإنسان هو الشيطان هو الشر إذا لم يترق على المستوى الروحي والأخلاقي، إذا لم يغلِّب المحبة إذا لم يتناغم مع الطبيعة إذا لم يحرر نفسه من غرائز الاستبداد الشيطانية وهوس الهيمنة والتدمير، إذا لم يكبح جِماح غطرسة الفكرة القائمة على الإرادة البشرية المُطلَقة، والعِلم بكل طاقاته ومدياته وآفاقه ليس سوى وسيلة لكل تلك النزعات البشرية خيّرها وشرّها.