عن معلماتنا الفلسطينيات

0
179

تروي الأستاذة التربوية أمينة الصالح في كتابها “بين اروقة التعليم.. هكذا رأيت” الصادر عن دار فراديس للنشر والتوزيع 2022 عن ذكرياتها مع المعلمات اللاتي كان لهن تأثير حقيقي على مسيرتها في التمدرس في سنوات المرحلة الإبتدائية، واستطعن بالكاريزما اللاتي تمتعن بها، وبأسلوبهن  الممتع والمشوق أن يتربعن على شغاف عقلها ووجدانها، تذكر منهن معلمة مادة اللغة العربية فهيمة محمد دويغر، معلمة الرياضيات بدرية كاظم زمان، ثم الفلسطينية الأستاذة نيللي إبراهيم سعادة القادمة من بيرزيت، وتصفها الكاتبة بأنها “مبتسمة على الدوام، محبوبة بين المعلمات والتلميذات، وذات أساليب تدريسية وتشويقية تجبر على الإنصات طوال الحصة دون ملل، وقد نسجت معها أمينة علاقة طيبة تواصلت إلى المرحلة الثانوية، بل إن امينة طلبت من والدها زيارة نيللي في منزلها بفلسطين، وبالفعل حقق الوالد مطلب أمينة وقامت العائلة بزيارة نيللي حيث استقبلتهم في فندق خالها في مدينة القدس عام 1961.

وأكتب هذا المقال من وحي ندوة المنتدى الفكري الحادي عشر للمنبر التقدمي التي أقيمت في 21 من الشهر الماضي حول “شعوب الخليج العربي والقضية الفلسطينية”، مستذكرة تلك الأيام من بواكير عمرنا المدرسي عندما التقينا أول مرة بفلسطين عبر كراساتنا ومناهجنا وتوجه بلدنا السياسي، عن معلماتنا الفلسطينيات، اللاتي زرعن في وجداننا حبّ فلسطين والانتصار لها، بل والتعصب لكل ما يمتّ إليها بصلة، كنّا صغاراً وكانت فلسطين كبيرة، وستكبرالقضية معنا وستشكّل وعينا السياسي وضميرنا الإنساني وبوصلتنا نحو التحرر والنضال من أجل الحق، وستكون بلدنا على شاكلة كلّ المنطقة العربية وقادتها وشعوبها ومؤسساتها مناصرة لها وداعمة لحقّ العودة ومناهضة لكلّ أشكال التطبيع منذ النكبة وإلى ما قبل ما سمي بالاتفاق الإبراهيمي في العام 2021. 

في المرحلة الابتدائية في مدرسة السلمانية دخلت إلى الفصل معلمة اللغة العربية، شقراء، نحيفة وطويلة وجميلة، عرفت نفسها بالقول: اسمي بشرى إبراهيم عمارة.. أنا من حيفا وأمي من غزّة، هاجر أهلي إلى غزّة وهناك ولدت وترعرت”. 

درس فلسطين الأول الحي تلقيناه على يد بشرى، منذ ذلك الوقت صارت فلسطين وقضيتها تحتل جزءاً كبيراً من الحصة المدرسية، بل إننا كنّا نستحثها لمواصلة الحديث على حساب الدرس الأساسي. هذه الفسحة رسخت في أذهاننا الطرية كالنقش في الحجر. تركت بشرى البحرين لاحقاً وذهبت إلى مصر لاستكمال تعليمها الجامعي، انتهت معلمة في الكويت، تزوجت وأنجبت 5 أبناء تخرجوا من أعرق الجامعات ونالوا أعلى الشهادات العلمية كشأن أغلب الفلسطينيين، وظلّت بشرى على تواصل مع بعض المعلمات والطالبات ولا تزال. كانت بشرى معبودة الطالبات، ننتظر العام الدراسي الجديد لملاقاتها، بل أن بعضنا يطلب تغيير الفصل من أجل أن نكون من تلميذاتها.

شريفة محي الدين مدرسة الجغرافيا في المرحلة الإعدادية  في مدرسة عائشة أم المؤمنين، كانت شابة صغيرة ومخطوبة وتستعد للزواج في الصيف المقبل، وفي أحد  الأيام تلقت استدعاء من إدارة المدرسة، برقية عاجلة لشريفة تفيد باستشهاد خطيبها في فلسطين. الصرخة التي أطلقتها في تلك اللحظة سُمعت في أرجاء المدرسة. غادرت في اليوم التالي ولم تعد.

وهل ننسى ليلى خالد معلمة اللغة العربية في الإعدادية إلتى لم ترتد طول العام سوى اللون الاسود؟، الصامتة الحزينة التي من النادر أن نجد ابتسامة على محيّاها، وكيف شرحت لنا قصيدة “حلم الذكرى” للشاعرة الفلسطينية المشهورة فدوى طوقان، والتي كتبتها بعد النكبة الفلسطينية عام 1948.

“خلال دخان علا واستدار رأيت الحمى خربة ماحلة 

على العتبات تدبّ هوام، وتعبر قافلة قافلة 

وشاهدت أشلاء قومي هنا وهناك على طرق السابلة

عيون مفقأة ووجوه غزى الترب ألوانها القاحلة

وكان هناك وراء الدخان قطيع تشتت في كل بيد 

قطيع وديع بقية قومي، فهذا شريد وهذا طريد

 تضللهم بالعراء الخيام وقد أخلدوا في هدوء بليد. 

 في ذكرى وعد بلفور الثاني من نوفمبر، هذا اليوم المشؤوم كما تشير وتذكر مقرراتنا ومناهجنا الدراسية، كنا نستفتح صباحاتنا بسماع الخطب والأشعار عبر الإذاعة المدرسية، وكنّا نرى الدموع والحزن والأسى على وجوه معلماتنا، نتفاعل مع مصابهن ونلتمس العذر لغيابهن وسفرهن المفاجئ. 

هؤلاء المعلمات اللاتي أحببناهن وتلقين التعليم والتربية والتهذيب وحبّ فلسطين على أيديهن، لا زلن يستوطنّ ذاكرتنا الحية،  إذ من خلالهن أدركنا نحن الصغيرات  وفي هذا العمر المبكر أن فلسطين كأي وطن عزيز وغالٍ جدير بالتضحية والنضال من أجله، وطن يستحق الحياة كما يقول محمود درويش:

أرض البدايات…

أم النهايات…

 كانت تسمى فلسطين…

 صارت تسمى فلسطين.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا