قبل عام وشهرين حقّقت حلقة بودكاست من قسمين بُثّت على منصة أثير خمسة ملايين ونصف مشاهدة، وفازت بجائزة سيغنال العالمية المخصصة للبودكاست كأفضل حلقة تاريخية عالميا، ولم تكن الحلقة في الحقيقة في برنامج “مغارب” لمحمد الرمّاش مع فنان عالمي أو لاعب كرة مشهور، بل كانت مع باحثة إسبانية متخصصة في تراث أجدادها الموريسكيين عن موضوع “التراث الأندلسي في إسبانيا”، وإذا كانت كلمة الأندلس كثيرة الدوران على ألسنة العرب، فابنتها “الموريسكيون” هي من أثارت فضول الشباب، فشدتهم الباحثة أديبة روميرو سانشيز بشغفها وتمكّنها وإيمانها الحار بقضية أهلها الموريسكيين ومأساتهم. ولكن هذا الموضوع كان حاضرا في السردية الروائية العربية على الأقل منذ ثلاثين عاما حين نشرت الروائية رضوى عاشور رحمها الله روايتها “ثلاثية غرناطة”، بعدها كما حدث مع “قواعد العشق الأربعون” وروايات التصوف، تتابعت الروايات التي تناولت هذه الفترة السوداء التي بقية وصمة عار على جبين التاريخ الإسباني بمحاكم تفتيشها وتطهيرها العرقي، ووجد الروائيون في ما جرى بعد سقوط غرناطة منجم ذهب غير مستغل، ففي سنة 2010 صدرت رواية “البيت الأندلسي” للروائي الجزائري وحفيد الموريسكيين أيضا واسيني الأعرج، وقد وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، وبعدها بسنة أصدر الروائي المغربي حسن أوريد روايته “الموريسكي” وفيها روى حكاية المترجم والرحالة الموريسكي شهاب الدين أحمد بن قاسم الحَجْرِي المعروف بـآفوقاي، وفي سنة 2015 دخلت رواية “الموريسكي الأخير” للروائي المصري صبحي موسى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، ثم لحقتها بعد سنتين رواية “حصن التراب حكاية عائلة موريسكية” لمواطنه أحمد عبد اللطيف وبدورها دخلت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، وقد التحق بالقافلة الكاتب العماني محمد العجمي بروايته “سر الموريسكي” الصادرة قبل أربع سنوات.
كان لا بد من هذا المدخل الكرونولوجي لنصل إلى رواية صدرت قبل سنة ووصلت بدورها إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية قبل شهر، فما يميز رواية “المسيح الأندلسي” للروائي السوري- الفلسطيني تيسير خلف الصادرة عن منشورات دار “المتوسط” أمور عديدة منها أن الكاتب باحث في التاريخ أصدر أكثر من ثلاثين كتابا، وهو متخصص في أدب الرحلات لهذا أهدى روايته إلى نوري الجراح المولع مثله بهذا النوع من الأدب، ومنها أن تيسير خلف سبق له أن كتب عدة روايات تاريخية ناجحة أشهرها “مذبحة الفلاسفة” عن مدينة تدمر ومحاكمة الملكة زنوبيا، وقد وصلت هذه الرواية بدورها إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية سنة 2016، إضافة إلى أنه فلسطيني وحين يكتب الفلسطيني عن مأساة الموريسكيين فهو يكتب عن نفسه إذ لم تستطع القرون الخمسة التي تفصل بين النكبتين أن تمحو التشابه الذي يصل إلى حدود التطابق.
أول ما يلفت قارئ رواية “المسيح الأندلسي” الجهد البحثي الكبير وراءها وقد ذكره الروائي في مقدمة كتابه قبل الشروع في أحداث الرواية فكتب “كتبتُ هذه الرواية، بالاعتماد على عدد كبير من المخطوطات المنسوخة بخطوط عربية مختلفة: أندلسية، ومغربية، ومشرقية، وأيضًا بأعجمية ما بعد سقوط غَرْنَاطَة التي يسمّونها “الخميادو” … واستفدتُ أيضًا من رسائل أندلسيّي القرن السابع عشر، المكتوبة بالقَشْتَالِيَّة، … وأَلزَمَنِي ورود أسماء بعض أبطال الرواية الحقيقيّة، بشكل عَرَضيّ، في مصادر مختلفة، بالانهماك في تتبّع مطبوعات القرن السابع عشر”، وهو جهد يظهر حتى في كتابة أسماء المدن والأشخاص فقد اعتمد تيسير خلف”الكثير من المصطلحات العائدة للقرن السابع عشر، وكذلك تهجئة أسماء الأمكنة والأعلام كما وردت في المخطوطات الأصلية”، وحتى يسهّل الأمر على قارئه أثبت في آخر روايته ملحقا بالمصطلحات القديمة ومقابلها الحديث، فأطناش هي أثينا وبرضيوش هي بوردو الفرنسية وبريش ليست سوى باريس ومخيكو هي المكسيك وحتى أسماء الأشخاص مثل قَلْبِن فالمراد به جان كالفن وكذلك لوطري عن مارتن لوثر. يعطينا صاحب “المسيح الأندلسي” مفتاح روايته من صفحتها الأولى بهذه الفقرة الصادمة “كان يمكنني أن أعيش حياتي كلّها كرجل إشباني كاثوليكي صالح، بلسان قشتالي، يُدعى خيسوس غونثالث، لولا بضع كلمات أوصت أمّي، وهي تودِّع الحياة، بأن يخبرني خالي بابلو باييخو بها حين يرى أنني بتُّ أهلًا لذلك. تلك الكلمات هي: أنتَ عربي مسلم، واسمكَ عيسى بن محمّد”. ومن هذه الكلمات يتحوّل الشاب الإسباني إلى شخص مسكون بالبحث عن قاتل أمه، فالقاضي في محاكم التفتيش سيئة السمعة دُون خيرونيمو راميريز هو الذي حكم على ماريا والدة خيسوس أو عيسى بالموت تحت التعذيب في مدينة طليطلة في مشهد موجع يرويه بطل الرواية قائلا: “توقّفتُ أمام العجلة الدوّارة مليًّا وأنا أتخيّل جسد أمّي موثقا بها، وظهرها محنيّا كقوس نشَّاب، والجلّاد يضغط بقوّة. أستطيع أن أسمع بوضوح صوت تكسّر عظامها، وتمزُّق لحم صدرها، وأنينها الضعيف المكتوم بعد أن خارت قواها…” ولم يقتصر أذى هذا القاضي الجلّاد على هذه الجريمة، بل كان المتسبب في الوشاية بوالد عيسى ومقتل والد حبيبته فيما بعد أيضا.
في هذه الرواية المقسمة إلى أسفار ستّة يقودنا الروائي إلى تتبع الشتات الموريسكي من المدن الأندلسية التي أصبحت فردوسا مفقودا إلى إِسْطَنْبُلْ زمن السلطنة العثمانية مرورا بباريس ووصولا إلى حي الغورية بالقاهرة، على امتداد زمني يبدأ بإعدام أم خيسوس سنة 1592 بعد قرن من سقوط غرناطة بالضبط، وينتهي سنة 1638 مرورا بالسنة المشؤومة 1609 التي صدر فيها المرسوم الشهير بإخراج الموريسكيين من الأندلس، وقد تناول تيسير خلف هذا القرار بحيلة فنية كانت عنصرا أساسيا في الرواية من خلال رأيين انقسم إليهما الموريسكيون: رأي الشيخ الأشقر الذي كان يرى وجوب الهجرة إلى بلاد المسلمين ورأي الشيخ الأكيحل بالتقية والبقاء الذي اختصره الروائي في جملة لها دلالات خطيرة وردت في الرواية تقول “علّمني أبي خيرٌ لنا أن نبقى في أرضنا عرباً نصارى، من أن نتحوّل إلى لاجئين مسلمين في بلدان لم تشفع لنا، ولم تراعِ عهود الأخوة”، والحقيقة أنه لا يمكن الكتابة عن تاريخ الموريسكيين دون التعريج على هذا الجدل الفقهي الذي قسم العلماء إلى معسكرين، فارتباط الموريسكيين بالعلماء والمخطوطات ارتباط عضوي يظهر جليا في كل صفحة من الرواية، فقصتهم هي أيضا حكاية المكتبات التي أحرقت والمخطوطات التي نهبت واحتوتها مكتبات الأديرة ومثال مكتبة الأسكوريال لا يزال راهنا. كما هي أيضا حكاية التصوف الذي كان له نصيب في الرواية باستحضار شخصية محيي الدين ابن عربي ونظرته المتسامحة إلى الأديان التي اختصرها في بيته الشهير “أدين بدين الحب أنّى توجّهتْ/ركائبه فالحبّ ديني وإيماني” وتأثرِ عيسى بآرائه. وهذه الأجواء الموريسكية لا نجدها من خلال الكتب فقط فالأزياء حاضرة بقوة بأنواع الأقمشة واتجاهات الموضة التي وصلت باريس من خلال فيروزة حبيبة البطل، وكذلك المطبخ الموريسكي المتنوع من خلال إيزابيلا خالة عيسى ولا يكتفي تيسير خلف بتعداد أسمائها، بل يقدم بعض وصفاتها ومقادير مكوناتها وكأنها محاولة منه لاعتقال الذاكرة على الورق.
كسر مؤلف الرواية رتابة السرد من خلال تعدد الرواة من ناحية، ومن خلال تعدد تقنية السرد من جهة أخرى، فأغلب أحداث الرواية يحكيها بطلها خيسوس ولكن الروائي يفرد فصلا بعنوان “ملف محاكمة أمي” فيه تقرير من خمس عشرة ورقة يرد على لسان القضاة المحققين، ويستعمل هذه التقنية ثانية حين يورد نصوص الرسائل الأربعة التي كتبها محمد بن أبي العاص والد عيسى إلى أبيه، وبالمناسبة ابن أبي العاص شخصية حقيقية تتبعها تيسير خلف في المصادر العربية والوثائق الهولندية كما ورد في إشارته أول الرواية، كما هو حال شخصية أحمد بن القاسم الحجري الواردة في الرواية والتي وظف تيسير خلف كثيرا مما ورد في كتاب الحجري “ناصر الدين على القوم الكافرين” في بنائه الروائي. كما استفاد صاحب “المسيح الأندلسي” من قصة الحب بين بطله وفيروزة التركية ليريح البطل قليلا من الحديث فيروي بعض أحداث الرواية بلسان الحبيبة، وقصة الحب هي الوجه المشرق في الرواية مقابل التهجير والتطهير العرقي والدسائس والقراصنة، أليس الحب هو ذلك “الخدر الذي يحلق بك بعيدا فترى كل شيء صغيرا إلا وجه حبيبتك يملأ الكون”.
بعد رحلة على مساحة 360 صفحة طوّف بنا فيها تيسير خلف في قارات العالم القديم يعيدنا في آخر جمل روايته إلى نقطة البداية نفسها في الجمل الأولى حين كتب “هـي الأقدار تقـود خطانـا حيـث تشـاء. نسـير حيـث تريـد لنا أن نسير، ونقف حيث تريد لنا أن نتوقّف. لا فرق إن كنا عميانا أم مبصرين، حمقى أم حصيفين، شجعانا أم مرتعدين، فما سيحدث سوف يحدث…”. فالتاريخ يعيد نفسه ونحن الآن شهود عليه!.