بعد رحلة قطعت فيها مئات الكيلومترات في لهيب الصحراء، حطت قوافل الجمال رحالها في ساحة الصفاة بالكويت، وعلى الرغم من شدّة هبوب الغبار على الطريق الترابي المؤدي الى متجر “جاشنمال” بوسط الساحة، إلا أن ذلك لم يمنع الزبائن على إختلاف هوياتهم، من إرتياد المحل لشراء المأكولات المعلبة، والأدوية، والأدوات المكتبية، والجرامافونات وإسطواناتها. ركن الاسطوانات بالتحديد هو ما جذب آنذاك المدرس الشاب غسان كنفاني لزيارة المتجر بانتظام.
كان في مطلع العشرينات من عمره حين إلتحق بسلك التدريس بالكويت في سبتمبر 1955 (سبقته للعمل هناك شقيقته الكبرى فايزة في بداية الخمسينات). في ” جاشنمال” تعرف غسان على بائع هندي كان يتولى بيع الاسطوانات، ويرشد الزبائن إلى أحدث الإصدارات. مع الأيام انعقدت أواصر صداقة بين الإثنين. دعاه غسان لزيارته في سكن المدرسين للحوار في شؤون الثقافة والموسيقى، وبدأ هذا البائع الهندي الشاب يحضر لغسان مجلات أدبية هندية، وكانا يقرآن معا بعضه. في إحدى الزيارات أحضر له مجلة وعلى غلافها صورة كبيرة لبومة. قصّ غسان صورة البومة الهندية وعلقها في غرفته، وبعد فترة كتب من وحيها قصته القصيرة “البومة في غرفة بعيدة”، وهي باعتقادي إحدى أجمل قصص “الحقبة الكويتية” في أدب كنفاني (كتبها في عام 1958). تكثف القصة، وبصورة مبكرة، تلازم ثلاث خصال مهمة في شخصية كنفاني: الفنان الرسام، و كاتب القصة، والثائر.المدخل الذي سيختاره غسان لقصته مثير: “صورة ملونة لبومة مبتلة بماء المطر..وتكمن كل روعتها في لحظة اللقطة الموفقة، وفي براعة الزاوية…وأهم من هذا كله: في اصطياد النظرة الحقيقية للبومة المختبئة في ظلمة ليل بلا قمر.” غسان مولع بفن الرسم، ولكنه استعان هنا بدقة اللقطة الفوتغرافية للبومة ليقول لنا إن رأسها يشبه “شكلاً رمزياً لقلب مفلطح بعض الشئ”، و”في العينين غضب وحشي، وكانت النظرة – رغم ذلك – تحتوي خوفاً يائساً مشوباً بتحفز بطولي وتشبه إالى حد بعيد نظرة إنسان خضع فجأة للحظةٍ ما، عليه أن يختار فيها بين أن يموت، أو أن يهرب”.
نظرة البومة ستفتح جرح الذاكرة على حدث جرى قبل عشر سنوات ( أي في عام 1948). في القصة استحضر غسان ذاكرة النكبة بعيون طفل. “كنتُ طفلاً آنذاك، وكنا نشهد، دون أن نقدر على الإختيار، كيف كانت تتساقط فلسطين شبراً شبراً، وكيف كنا نتراجع شبراً شبراً.” سيطلب أحد العجائز من الطفل أن يخبئ صندوق به قنابل تحت شجرة تين كبيرة في الحديقة، وهناك وسط الظلام سيسمع صوت صيحة حادة في أعلى الشجرة: ” شاهدتها، على ضوء اللهب المتصاعد في سماء قريتنا، تقف هناك وتحدق إلي بعينيين واسعتين غاضبتين ….كان منقارها معقوفاً كمنجل أسود …ورأسها الكبير كصورة قلب رمزي …كان ريشها مبتلاً بماء المطر ..وكان يومض في عيونها ذلك الغضب المشوب بخوفٍ غريب.. كانت لا تزال تحرك رأسها المفلطح بتحذير إنساني عميق، وعلى إيماضة قنبلة بعيدة، شاهدت في عينها ذلك التحدي الباسل”.
وهكذا من لقاءٍ يؤدي إلى صداقة، إلى إعجاب بصورة في مجلة، إلى قصة قصيرة تكثف ذاكرة طفل لنكبة 1948، يمكن لقارئ كنفاني أن يستشف بعض من سياقات كتابته لقصصه القصيرة خلال الحقبة الكويتية /الدمشقية، والتي بلغت حوالي ستة وعشرين قصة كتبها خلال الفترة من 1956 إلى 1960، وربما سيكون العدد أكبر، إذا أخذنا باعتبارنا أن هناك قصصا نشرها منتصف الستينات في بيروت ولكنها مستوحاة من واقع حياته بالكويت ودمشق.
على الرغم من أن المعلومات عن الظروف التي كتب فيها كنفاني قصصه بالكويت شحيحة، إلا ما ذكره صديقه المقرب بلال الحسن (في مقال نشره في جريدة السفير عام 1997 ) تشير إلى أن كتابة غسان للقصص كانت تعكس تفاعله مع محيطه الاجتماعي، سواء بالكويت، أو في دمشق حين كان يقضي إجازاته السنوية الصيفية مع الأهل. لنأخذ مثلا ما يذكره بلال عن علاقة غسان بحارس سكن المدرسين. كان هذا الحارس البدوي كبيراً بالعمر، ويقضي جل وقته جالساً على دكة خشبية يراقب الخارجين والقادمين من البناية. أثار هذا الرجل فضول غسان، الذي بذل محاولات لكسب صداقته، وكان الوحيد الذي يجلس معه ويتحدث إليه. ما أثار إهتمام كنفاني على وجه الخصوص كانت الحكايات التي سردها ذلك الرجل، والتي استلهم منها مواضيع بعض قصصه القصيرة، مثل قصة “الصقر” التي ختمها بتلك الجملة الشهيرة: “الغزلان تحبّ أن تموت عند أهلها…الصقور لا يهمها أين تموت!”. هناك قصة أخرى بعنوان “الخراف المصلوبة” تحكي عن راعي أغنام بدوي في طريق صحراوي يرجو العابرين أن يمنحوه ماءاً ليسقي خرافه التسعة التي ستهلك من العطش. تمّ رفض طلبه من قبل سائق السيارة التي تقل الركاب، معللاً سبب الرفض بحاجة السيارة إلى الماء في الطريق الصحراوي الحار. غسان يقابل بين عطش “الخراف التسعة الهزيلة، مع أولوية إحتياج السيارة للماء ، بين مشاعر الراعي الخائف على موت خرافه، وعقلانية السائق (الذي يعرض الماء للراعي فقط ولكن ليس للخراف) . هناك معضلة أخلاقية كامنة في ثنايا هذه القصة: نعطي الماء للخراف كي لا تهلك؟ أم نحتفظ بها للسيارة حتى لانهلك نحن؟. القصة تشير إلى صراع التقاليد مع الحداثة، وهي مسألة إكتسبت أهمية بالغة خاصة في كويت الخمسينات. كنفاني لا يعطي إجابات بقدر ما يدفع القارئ للتفكير في الإشكالية.
على الرغم من أن غسان أمضى خمس سنوات في الكويت إلا أنه لم يكتب عن الكويتيين في أي من قصصه، بل كان مهتما بالتركيز على مواضيع ذات صلة بحياة الفلسطينيين هناك، منها على سبيل المثال لا الحصر، تحدي كسب الرزق، ومخاطر اللهث وراء تكديس الثروة. في قصة “اللؤلؤ في الطريق” التي كتبها في الكويت 1958، تطرّق كنفاني إلى حالة الهوس المرضي في السعي لإكتناز المال. ثيمة المخاطر المتصلة بالبحث عن الثروة عبر الهجرة ، ستجد تجلياتها القصوى لاحقاً في رواية كنفاني “رجال تحت الشمس” التي ترجع جذور كتابتها الى نشر الصحف آنذاك عن خبر العثور على جثث عدد من العمال عند مكب نفايات المدينة، وقيل أنهم ماتوا داخل خزان سيارة نقلتهم ليعبروا الحدود تهريباً. أثرت تلك الحادثة عميقا في كنفاني، ودفعته للتفكير في كتابة روايته المذكورة التي أنجزها في شهر واحد في بيروت لاحقا.
أواخر الخمسينات أصيب غسان بمرض السكري، وانتابته نوبة هبوط حادة بالسكر أدت الى اقامته لمدة اسبوع في المستشفى الأميري بالكويت، حيث استوحي قصته الشهيرة “موت سرير رقم 12” من حالة أحد المرضى المقيمين معه في الجناح. أما قصة “في جنازتي” فقد عكست حالة الصدمة النفسية التي ألمت بكنفاني في بداية مرحلة إصابته بالسكر آنذاك، والتي سرعان ما تجاوزها ليعتاد التعايش مع المرض إلى درجة نسيانه.
في دمشق، كانت غالبية القصص التي كتبها ذات مواضيع تتصل بذاكرة النكبة ومعاناة اللاجئين، وبدايات العمل الفدائي آنذاك. يمكن اعتبار قصة “قرار موجز” أحد أجمل ما كتبه يومها، حيث نرى كنفاني يصيغ مقولات فلسفية على لسان الفدائي عبدالجبار، الذي اعتاد رفاق المتراس أن يلقبوه بالفيلسوف، ووجدوا “في فلسفته منطقاً صالحاً لتبرير الأمور التي تحدث”، حسب تعبير كنفاني. ستتبلور في سياق القصة ثمان إطروحات فلسفية موجزة توصل إليها تفكير عبدالجبار: “طالما أن الإنسان دفع ليعيش دون أن يؤخذ رأيه بذلك. فلماذا لا يختار هو نهايته (الإطروحة الأولى). أما الإطروحة الثانية فستكون “اختيار طريقة مشرفة للموت”. كل موقف، أو حادث يتعرض له عبدالجبار سيدفعه إلى إستخلاص فكرة فلسفية موجزة منه: “ليس المهم أن يموت الإنسان حتى يحقق فكرته النبيلة… بل المهم أن يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل أن يموت…”، هكذا نقرأ في إطروحته الثالثة. عبدالجبار دائم التطوير لفلسفته “بعد كل قتيل، كانت الفلسفة تتطور وتتغير…ففي ليلة مظلمة مات فلاح أميّ… فكر عبدالجبار بكلمة تصلح لتأبين الشهيد. فإذا بالكلمة تصبح قراره الموجز الجديد (الاطروحة الرابعة): “إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبا للفهم… بل تحتاج للإحساس!”. أما أطروحته الخامسة فقد استخلصها بعد استشهاد أحد رفاقه في معركة بقوله: “إن الشجاعة هي مقياس الإخلاص”، أما حين تعرض عبدالجبار نفسه للسجن والتعذيب، فقد طوّر أطروحته السادسة وهو تحت الضرب: “إن ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف”. وحين حاول سجانوه إجباره على خيانة رفاقه فإن ذلك كان مدعاة لبلورة إطروحته السابعة “إن الخيانة في حدّ ذاتها ميتة حقيرة”. ستدور معركة بين رفاقه وسجانيه في ختام القصة، وبصعوبة جمّة سمع أحدهم صوت عبدالجبار يملي قراره الموجز الأخير (الأطروحة الثامنة): “ليس المهم أن يموت أحدنا. المهم أن تستمروا !”، ثم مات!
يمكن اعتبار قصة “الأرجوحة” كخاتمة لمرحلة الكويت/ دمشق، إذ نميل إلى قراءتها كدلالة رمزية لحالة التنازع بين الإلتزام السياسي (المعبر عنه في القصة بالرغبة من الزواج بغيداء) مقابل الشغف بالأدب (والمعبر عنه كحالة عشق سابقة مع ندى). القصة على وزن مقولة شهيرة لتشيخوف (الطب زوجتي، والأدب عشيقتي). زوجة المستقبل غيداء (الإلتزام السياسي) صارمة وحازمة وذات مشاعر حادة وتبدي جفافاً في مشاعرها تجاه سارد القصة الذي يسعى لمصارحتها بعشقه السابق لندى (الأدب). تغضب غيداء بحدّة وتقابل صراحته بالتهكم والسخرية اللاذعة وتغادر المكان بعصبية. في المقابل عندما حاول مصارحة عشيقته ندى عن نيته بالزواج من غيداء ورغبته في قطع العلاقة معها، يفاجأ بأنها قابلت صراحته تلك على أساس أنها دعابة وكذبة طريفة، وتعاملت معه بغنج ودلال. لخصّ غسان كنفاني معضلته بذكاء وأسلوب لا يخلو من الطرافة. لا عجب أنه كتب تلك القصة الطريفة في عام 1960، وهو نفس العام الذي غادر فيه الكويت نهائيا وتفرّغ للعمل السياسي في بيروت.