الهامش بوصفه مَتْناً مُحتملاً
ثمة من يستنقص الكتابة عن شخصية ليس لها تلك الشهرة المعتبَرة. فربَّ قائل: هل هو تاجر أم وزيرٌ؟ أَكان مفكراً أم كاتباً؟ أم ماذا بالضبط؟ما أعجب هذه الاستهانة بقيمة الإنسان العادي! فهل من الضروري أن يكون الشخص مشهوراً لكي يستحقُّ الكتابة في سيرته؟ وهل من المفترَض أن يحتكر أكابر القوم وحدهم مساحات الكتابة بعد أن استحوذوا على مساحات الثروة والسلطة والمجد؟ إنني أرى العكس تماماً. ينبغي للكتابة أن تُعنى بطبقات الشعب المختلفة، خاصةً تسليط الضوء على البسطاء وحيواتهم. إنَّ للهامش أهمية تضاهي المتن، وربما تفوقه أهميةً. بل إنَّ الهامش يُظهر فجوات المتن وتناقضاته وتعثراته. لمجتمع الهامش جماليات تكشف احتمالات المتن وتراتبياته، بل تشير إلى نزوعه الطاغي نحو الغلبة وشراهة الاستملاك رمزياً ومادياً.. في ظني لو قُدِّر للحاج عليٍّ أن يتلقَّى نصيباً من التعليم الجامعي لم يكن ليكتفيَ بما وصل إليه، ولكان مساهماً بصورة أكبر وأعمق في تحقيق ذاته وتطوير مجتمعه، خاصة في ظل حاجة المجتمعات آنذاك للكفاءات المهنية المتعلمة؛ نظراً لندرتها إلا عند العوائل الارستقراطية والبرجوازية الصاعدة في تلك السنوات العجاف. إنه نموذج متفرد للعصامية وحبّ العمل ونكران الذات، كحال أبناء جيله المتواضعين البسطاء. لم يكن التواضعُ كلماتٍ تلوكها الألسن، إنها طريقة حياة كاملة. كانت الأميّة متفشيّة على نحو واسع، إلا إنَّ قِيَمَ العلم وقيمةَ التعلم كانتا راسختَيْن في العقول والنفوس. أتذكرني في عمر المراهقة، وكنتُ في المرحلة الإعدادية(المتوسطة) إبّان ّالتسعينيّات، كثيرَ الهروب مع أقْراني من حصص المدرسة. نتسلق أسوارها، ثم نتناول إفطاراً صباحيّاً دسماً في مطعم قريب، وبعدها قد نتفيأ نخلةً في إحدى المزارع التي تكاد تكون مشرعةً لأمثالنا من المغامرين المتسكعين. حينما كَثُرت الشكاوى إلى والدي حول هذا التسرّب المتكرر من المدرسة، لم يكن ليستخدم أسلوب الضرب أو الزجر أو التوبيخ، كعادة الآباء الأوائل من ذلك الجيل القديم. وإنما قدّم لي نصيحةً ذهبية لا يزال صداها يتردّد في أذني وذاكرتي: “إنْ تعلَّمْتَ فإنك تنفع نفسكَ ولا تنفعني في شيء، وإنْ لمْ تتعلّمْ فأنتَ وحدكَ المتضرر.. فاخترْ ما تراه مناسباً”. كانَ هذا الأسلوب التربويّ الديمقراطيّ، من رجل أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب، مفاجِئاً حيث أتى خلاف أفق التوقعات من جانب، وكان، من جانب آخر، كافياً لِأَنْ آخذ الأمر بالجديّة اللازمة مُختاراً، ولأعود مواظِباً إلى مقاعد الدراسة باقتناع كامل. كان، في أغلب الظن، من مواليد عشرينيات القرن العشرين. لقد كُتِبَ في جواز السفر أن تاريخ ميلاده 1928م، لكن ليس معروفاً إنْ كان هذا التاريخ حقيقيّاً أم لا؛ فقد كانوا يسجلون-حينذاك- شهادات الميلاد وبيانات الجوازات والوثائق الرسمية المختلفة بشكل تقديري، غير متحرِّين للدقة والضبط. لا أحد كان يسائلُ أحداً على أية حال. كانوا على فطرتهم متوغلين في فطرة الحياة والطبيعة. لم تكن تعنيهم القواعد الدقيقة والإجراءات المعقدة في المعاملات الرسمية، لا هُم ولا الموظفون. 1928إذن لم يكن سوى رقم عشوائي سجله موظفٌ حكوميٌّ في زمنٍ لم تكن فيه الثقافة البيروقراطية مترسخة بعدُ؛ فالناس يومها كانوا يُقاسون بمدى إتقانهم للحرفة وشغفهم بالعمل لا بالأوراق الثبوتية. يزيدون أو يُنْقِصون عشوائياً، بحسب الأمزجة، أو بحسب ما تتطلبه شروط العمل هنا أو هناك. البعض منهم يزيد في عمره من أجل أن يعمل في بعض الشركات الناشئة التي أسسها الاستعمار البريطاني؛ أبرزها بابكو (1929)، وألبا (1969). فيما بعضهم يُنقص في العمر من أجل الدخول إلى المدرسة الابتدائية أو لأسباب أخرى. هكذا يمكننا القول إن عمر الحاج عليّ الحقيقيّ قد يزيد أو ينقص بضع سنوات، إلا أنه في المحصلة تسعينيٌّ أوشك أن يبلغ المائة أو ربما بلغَها. كانت المساحات في هذه القرية الهادئة(العِكْر) تملؤها النخيلُ والبساتين. لا تنتهي الخضرة إلا قريباً من ساحل البحر. الزُّرقة والخُضرة تُغذِّيان حيواتِهم وأبصارَهم. رزقهم اليوميّ ينحصر في هاتين: البحر والبستان. إنهم من يفاعة العُمر يشتغلون في إحداهما أو كلاهما معاً. لقد عمل فيهما بالتأكيد لمدة ليست بالقصيرة، قد تُقدر بعشرات السنين، ولكنه كان يتردد على العاصمة عندما التقى بأحد المدراء الإنكليز في شركة ألبا (ألومنيوم البحرين). ألقى عليه التحية، ثم سأله الإنجليزيُّ: “are you looking for a job?”.أجاب بالإيجاب، وإنْ كانت لغتهم الإنجليزية المكتسَبة مكسّرة؛ بلحاظ أنهم تعلموها بالدُربة والممارسة من غير أن يتعلموها في المدارس. لم تكن المدارس الحكومية قد وصلت إلى نواحي هذه الأرياف التي تبعد عن العاصمة حوالي 30 كيلو متراً، ناهيك عن صعوبة وسائل المواصلات الحديثة. قلائل جدًّا من حالفهم الحظ في هذه المناطق وتحصلوا على التعليم الرسمي في تلك الفترة، ولم يكن الحاج عليّ من بينهم مع الأسف الشديد. هكذا يُعتبر الحاج عليّ من أوائل من عمل في هذه الشركة العتيدة كمشغِّل للمعدّات أبّان السبعينيات ((Equipment Operator إلى سنة 1989؛ حيثُ تعرّض إلى إصابة كادت تقعده عن العمل بشكل نهائيّ. لقد سقطت عليه وهو يسوق عربة المعدات قطعة ألمنيوم كبيرة. نُقل على أثرها إلى المستشفى لتُجبّس أغلب أطرافه. منحه مسؤوله الذي كان إنجليزياً في الغالب تقاعداً مبكراً بامتيازات وراتب مجزيَيْن. لم تفتر همته بعد أن شُفي تمامًا من إصابته القاسية. كان، كأبيه الحاج محسن، رجلاً مكافحاً مُحباً للعمل والكدّ وتحصيل الرزق بشتى السُبُل. يُقال إن أباه (الحاج محسن) كان يعمل في صيد الروبيان والسمك حتى وهو في الثمانين من عمره. وهو الآخر عمّر طويلاً، إذ وافاه الأجل متأخراً في يوم الجمعة الموافق 31 مارس من عام 2000. لقد اقتفى الحاج عليّ خُطى أبيه في حبّه للعمل في جميع الظروف والأحوال ما دام قادراً على أن يقف ويتحرك. ولكنه اشتغل في شراء السمك بالجملة وبيعه بالتجزئة(جزّاف). يستيقظ في الفجر الباكر، يصلي صلاة الصبح، ثم ينطلق مباشرة نحو السوق المركزي بالمنامة العاصمة. يشتري ثلاجة أو ثلاجتَيْن أو ثلاث (قد تزن الثلاجة ثلاثين لتراً/كيلو غراماً) من السمك البحريني يومياً، بأنواعه المختلفة (الصافي، الكنعد، الميد، الشعري…إلخ). ثم يبيعه في دكان (فَرْشَة باللهجة العامية) صغير في سوق سترة للأسماك، أو إذا تطلب الأمر يبيعه متجولاً في الطرقات والأزقة في سترة وما جاورها من مناطق. قد يعود يوماً عند الظهيرة حينما يبيع جميع ما لديه، أو قد يعود عصراً أو في العشية عند غروب الشمس، بحسب ما تفرضه حركية بيع الأسماك. لم تخذله صحتُه الجسديَّةُ إلا مؤخراً قبل بضع سنوات (قبل تسع سنوات تقريباً)؛ ففرضت عليه الجلوس مُقْعَداً في البيت. لربما استيقظت في هذه المرة الإصابةُ الشديدةُ التي اعترضته في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي (وخاصة في مفاصل الرُكب)، وإن كان يبدو أنه قد تعافى منها تماماً بعد حصوله على التقاعد المبكر من شركة ألبا كما سبق ذكره.كانت حياته مرآة عاكسة لتحولات المجتمع البحريني في القرن العشرين: من حياة بسيطة في القرية، إلى الانخراط في مصانع الخامات المواد الأولية(الألومنيوم)، ثم الاتجاه إلى العمل الحرّ. تزوَّج الحاج عليّ مرتَيْن؛ إذ اضطر بعد أن عانت الأولى من فقدان البصر أن يتزوج الثانية. أنجبت الأولى أربعة (3ذكور وبنتاً واحدة). وقد توفيتْ الزوجة الأولى سنة 2010. أما الثانية فلها ثمانية ذكور تتوسطهم بنتٌ واحدة. ولهُ من الأحفاد وأبناء الأحفاد الكثير..وها قد ترجَّل الوالد الحاج عليّ، بعد أن كابد وعمل ولمْ يتوانَ، جدّاً واجتهاداً وتفانياً في ورشة الحياة الهائلة. قد رحل إلى ملكوت الرَّحمة في صباح يوم السَّبت الموافق تاريخ 15مارس2025. ولا أظن هذه المساحة كافيةً لتقول ما يعتلجُ في نفسي بعد رحيله.