هي واحدة من الروايات الثلاث المترابطة التي أصدرها الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله وأطلق عليها إسم “ثلاثية الأجراس”: (ظلال المفاتيح)، (سيرةُ عين)، (دبابة تحت شجرة عيد الميلاد)، وهي من أبرز الأعمال الأدبية التي وثّقت محطات مختلفة من تاريخ ومعاناة الشعب الفلسطيني بأسلوب أدبي رفيع، ومن يقرأ هذه الثلاثية يقرأ ملحمة فلسطين منذ سيطرة العثمانيين والاحتلال الإنجليزي ومن ثم تسهيل الهجرة لليهود لفلسطين من قبل إنجلترا حتى نهاية الانتفاضة الفلسطينية الأولى وما قام به الصهاينة من مجازر، فقد فرض الاحتلال قيودًا على كل مناحي الحياة، من اعتقالات تعسفية إلى تدمير الممتلكات ومصادرة كل ما يخطر ببال الجندي الصهيوني من أثاث وحتى حلق الإذن لدى النساء ولم تسلم الأسنان إن كانت ملبسة بالذهب، ومن خلال تلك الروايات الثلاث استطاع نصر الله أن يوظف الشخصيات المتنوعة من الشعب لتكون معبرة عن النسيج الفلسطيني من مسيحيين ومسلمين، مما يُضيف للعمل عمقاً وثراءً.فلسطين كانت دائماً أرضاً متعددة الثقافات والأديان (إسلامية، مسيحية، يهودية) على مرّ العصور، فتركيز الرواية على مدينة بيت ساحور وبيت لحم والقدس كمدن مختلطة مسيحية إسلامية عبر عصيانها المدني كمدن حمل رسالة قوية بأن جميع الفلسطينين متوحدون في النضال ضد الغزاة الصهاينة، وبالخصوص إبراز الدور المسيحي في النضال: “في بيت ساحور، تعلمنا أن المقاومة ليست فقط حجارة في يد طفل، بل هي فكرة تنبض في قلوب الجميع، من المزارع إلى المعلم، ومن الطفل إلى الشيخ”، فتجربة العصيان المدني كانت ناجحة، حيث قاطع السكان منتجات الاحتلال وبدأوا في الاعتماد على أنفسهم، جلبوا الماشية، واشتروا الأبقار بديلاً عن شراء الحليب المنتج من إسرائيل وصنعوا الخبز بأنفسهم حتى لا يشتروه من الاسرائيليين، فكانت حياتهم اليومية معركة ضد الاحتلال، وبالتالي فإن “بيت ساحور ليست مجرد مدينة، إنها رسالة تقول للعالم إن الاحتلال يمكن أن يكسر الحجر، لكنه لن يكسر القلب” .استطاع الكاتب أيضاً أن يبرز التناقض بين قسوة الاحتلال وأجواء الفرح التي استطاع الفلسطينيون خلقها رغم ذلك كالإحتفالات بالأعياد والأعراس والمناسبات المختلفة: “في كل بيت هناك دمعة مخفية، وقصة لا تُروى، لكن رغم ذلك تظل القلوب تنبض بالأمل”، فالهجرة إلي فلسطين قامت على العلاقة بين الصهيونية والنازية واستندت إلى ما يعرف باتفاقية الهافارا التي وقعت بتاريخ7 أغسطس 1933، بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين مقابل كسر الحصار الاقتصادي الدولي على ألمانيا بعد وصول هتلر إلى الحكم، وبذلك استطاع الكاتب تتبع ما عاشه الفلسطينيون وقاسوه من الاحتلال منذ الحرب العالمية الأولى ماراً بتلك الأجيال حتى لحظة انتفاضة الحجارة في العام 1987 والتي بدأت في 8 ديسمبر بعد حادثة دهس أربعة فلسطينيين على يد مستوطن صهيوني قرب حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة وانتشرت الإنتفاضة لتصل الضفة الغربية.إنه ما يحدث لفلسطين الآن تماماً، بل أن ما يحدث الآن هو تكملة لما حدث سابقاً بل يفوق بكثير ما سبق من حيث الصورة التي تصل إلى العالم والذي مازال يتفرج بلا ضمير أخلاقي أو ضمير إنساني برفع صوته ليقول للصهاينه كفّوا عن هذه الجرائمرواية مزدحمة بالعناوين، وما قام به كاتبها عملاً مذهلاً فوق التصور، في إبرازه لقضية فلسطين وتاريخ وصول اليهود إليها بعد الاحتلال البريطاني ومقاومتهم لكلا الإحتلالين: “لقد أغلق الإنجليز كل صحفنا وطاردوا صحفييّها، وتركوا لليهود الحرية الكاملة في إصدار صحفهم”، بل إن الإنجليز كانوا يقومون بمناورات مشتركة مع الصهاينة بهدف التدريب على اقتحام القرى الفلسطينية وإخلائها من سكّانها، بعد السيطرة عليها ونسف بيوت المُطارٓدين، ويضاف إلى ذلك ما اختلقه اليهود من اساطير وخرافات بمساعدة الإنجليز تمهيداً للاستيطان واحتلال الأراضي وطرد أهلها منها: “لقد بنى هذا العدوّ أسطورة احتلاله لفلسطين بأنها كانت صحراء، وسيحوّلها إلى جنة! ولكن فلسطين كانت دائماً جنة، وكل ما يفعله الاحتلال هو تحويلها إلى صحراء. لم أرٓ أحداً في هذا العالم يعادي الأشجار، مثل هولاء الإسرائيليين وجيشهم.” كما بنى الصهاينة روايتهم من أجل أحتلال فلسطين على كذبة “إن فلسطين أرض خالية من السكان” كما قال زعيم عصابتهم ثيودور هرتزل في كتابه (الدولة اليهودية) وبأنها أرض جرداء، وخالية من البشر، وبأنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض كما يدعون، وبذلك تجاهلوا الوجود الفلسطيني التاريخي الذي يمتد لآلاف السنين قبل المشروع الصهيوني، فالشعب الفلسطيني متجذر في الأرض، يمارس حياته بشكل طبيعي كالزراعة والتجارة والحياة الاجتماعية قبل أن يطأ الصهاينة أرضهم ويدنسونها بجرائمهم التي لا تُعد ولا تُحصى، فقد كانوا يديرون مجتمعاً مزدهراً، وكانوا متصلين بالعالم الخارجي من خلال موانئهم وأسواقهم: “لقد حلّت اللعنة على هذه الأرض منذ أن صلبنا المسيح، ولذلك لم يسكنها أحد !” وعلى الرغم من طرد اليهود للفلسطينيين ظلوا متشبثين بأرضهم رغم التنكيل والقتل فكانت مفاتيح بيوتهم يحتفظون بها معلقة في رقابهم كالتمائم كرمز للعودة: “المفتاح ليس مجرد قطعة من الحديد، إنه دليل على أننا لم ننس، ولن ننسى ما تركناه خلفنا”.الحبكة السردية لتلك الروايات الثلاث جميلة وسلسة ومشوقة، واستخدام الرموز كان موفقًا، كالمفاتيح الذي يمثل الأمل باستعادة البيوت المستولى عليها، والدبابة كرمز للقهر والتي تعكس القمع العسكري والتجسيد الدائم للاحتلال، وكأداة للترهيب والقوة والبطش وشجرة عيد الميلاد التي تمثل الفرح والسلام لدى الفلسطينين المسيحيين: “كيف يمكن أن تُضاء شجرة الميلاد في وطن تغرق أرضه بالظلام ؟ إنه التحدي الأكبر: أن تصنع نوراً رغم كل شيء.” وُفق إبراهيم نصر الله الكاتب والشاعر جداً في اختيار تلك الرموز ليصور مقدار الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينين المسالمين العزل وتعكير صفو حياتهم من خلال ابرازه لحياتهم في ظل الاحتلال، فكانت شهادة على معاناتهم واحتفاء بإنسانيتهم وصمودهم أمام الآلة الهمجية الصهيونية. أن تقرأ رواية “دبابة تحت شجرة عيد الميلاد” يعني بأنك قد قرأت أكثر من خمسمائة صفحة من المأساة الفلسطينية منذ الاحتلال العثماني وبعده الإنجليزي ومن ثم وصول العصابات الصهيونية إلي أرض فلسطين لتعيث فيها فساداً وإجراماً، وكما يقول الناشر: “ما يمكن أن نصفه بأنه رواية روايات، متصلة، منفصلة في آن، بحيث تستطيع القارئة/ القارئ، قراءة أي واحدة منها، باعتبارها عملاً مستقلاً، أو قراءة الثلاثية كلها كعمل متعدد الوجوه، متكامل، لحكاية واحدة هي حكاية فلسطين خلال القرن العشرين.