من وحي حروبنا الأهلية العربية

0
19

“قطار السعادة” الذي أعاد لإيطاليا وحدتهافائزة مصطفى”حرب أهلية” ما أن تقال هذه التسمية حتى يتخيل السامع أنها شيء يشبه خلافات الأخوة في البيت الواحد، فيدير وجهه للجانب الآخر: “إنه شأن داخلي”. والواقع أن الحروب الأهلية في وقتنا الحالي هي أبعد ما تكون عن الأهلية، ففي أرض المعركة ألف وألف يد خارجية، التخطيط وإدارة العمليات كلها من الخارج، والقرارات قبل وأثناء وبعد الحرب رسمتها تلك الأيادي لتحقيق أهدافها ومراميها.السودان، سوريا، ليبيا، العراق، اليمن، لكل بلدٍ منها منها قصته مع الحرب “الأهلية”. كل منها بات داخل أرضه جيشان على الأقل وعاصمتان وحكومتان.. الإنفصالات الجغرافية قادمة لا محالة، فالنفوس تم تأليبها على بعضها البعض والهويات الفرعية تمّ نفخها والحكومات الموازية أقامت تحالفاتها ورسمت سياساتها، مالم يخرج من القوم فرد رشيد، “فرد رشيد”…إسمحوا لي بالقفز بالحديث وأخذكم معي إلى إيطاليا. إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، للعام 1944 حيث خرجت من الحرب بالغة الفقر والتشتت، كبريات مدنها الصناعية ميلانو، تورانتو، نابولي، روما؛ مدّمرة تماما فهي كانت هدفاً مباشر لقنابل الحلفاء، تدمير البلد والبنى التحتية حتى لا تقوم له قائمة بعدها. جنوب ووسط إيطاليا حاق بهما دمار شامل أحدث فقراً مدقعاً لدى السكّان، بينما الشمال الزراعي الرعوي كان تأثره بالحرب أقل نسبيا.. العائلات تملك على الأقل وجبة طعام واحدة في اليوم وهذا كافٍ لأن يجعل شمال البلد بعافية مقارنة بجنوبها ووسطها المعدم تماما من كل مقومات الحياة. وضع من اللا مساواة خطر حلّ بالمجتمع الإيطالي يومها. حالة من السخط كانت كافية جداً لتقود بلد حديث الميلاد والوحدة كإيطاليا إلى الإنقسام والتجزؤ ، والذي كان يتكون في ذاك الوقت من خليط من إمبراطوريات وممالك ودويلات كُلٍ منها له تاريخه الخاص وعاداته و تقاليده وشخصيته جمعتها راية واحدة مائة و خمسين عاماً فقط غير كافية لضمان لحمة النسيج الإجتماعي بعد حرب مدمرة مثل هذه، حتى أنها كي تتوحد تحت هذه الراية الواحدة إستلزمتها ثلاث حروب تحريرية ومعاهدات لا تحصى ولا تعدّ، إلى أن أتى من القوم فرد رشيد…لا بل نساء رشيدات.إتحاد نساء إيطاليا المعروف إختصارا بـ”أودي UDI”، والذي هو في الأصل حركة مقاومة نسائية ضد الحكم الفاشي ويتكون من سيّدات حملن على عاتقهن مهمة الدفاع عن حقوق المرأة والطفل والنسوة العاملات، من أشهر عضواته “تيريزا نوشي”، “جوليتا فيبي” و”تريريزا بيروني”. فكرت هؤلاء السيدات في أطفال الجنوب والوسط المدمرين وأحوالهم في هذه الفترة الصعبة من تاريخ الحرب والبلاد وبمعاناتهم مع عائلات تحاول أن تعيد بناء نفسها من الصفر، وفي كل الإنتهاكات التي ستتعرض لها طفولتهم من حرمان من الغذاء والدواء والتعليم وربما حرمانهم حتى من الطفولة بإنخراطهم في العمل من أجل أن تسدّ عائلاتهم حاجتها من الطعام والمسكن.أتت هؤلاء السيدات بفكرة رشيدة اتنقذن بها مستقبل أطفال الجنوب والوسط على المدى القريب ومستقبل إيطاليا بأكملها على مدى الزمان، بأن تستضيف عائلات الشمال أطفال الجنوب والوسط لفترة من الزمن ريثما تعيد المدن والمقاطعات المدمرة إعمار نفسها وتعيد العائلات ترتيب حياتها. لم تكن الفكرة سهلة التنفيذ على الإطلاق، فلكي تصبح واقعاً تطلّب الأمر حملة من الرحلات والسفر في جميع أنحاء إيطاليا لإقناع عائلات الشمال بإستضافة أطفال الجنوب والوسط وإقناع العائلات في الوسط والجنوب بإرسال أطفالها إلى الشمال في وقت لم يكن فيه هناك إنترنيت يختصر المسافات بمنشور وبضغطة زر.لتنفيذ الفكرة في الواقع كان لابد من أيادي للعون، كان أولّ من قدّمها الحزب الشيوعي الإيطالي المعروف ب “بي شي PCI” و الذي كانت يجمعه وحركة إتحاد نساء إيطاليا تقارب في الرؤى والأفكار، كون نسبة هؤلاء السيدات في الأصل حركة مقاومة ومطالبة بالحقوق، وامتدت أيادي العون أيضاّ من بعض الأحزاب الديموقراطية والمنظمات المدنية واليسار المسيحي، فسافر ممثلوهم مع اتحاد السيدات شمالا وجنوبا عاقدين لقاءات تنويرية حتى أصبحت الفكرة حقيقة حيّة. انطلق أول قطار يحمل أطفال الوسط الى الشمال من ميلانو في العام 1945وعلى متننه 1800طفلاً، ثم آعقبه قطار من تورانتو إلى الشمال على متنه 1000 طفلاً، يزيدون أو ينقصون قليلا. أعقبه قطارات من نابولي..في نابولي واجهت هذه القطارات معارضة شديدة من المجتمع الكنسي الذي حاربها بكل طاقاته من تحريم و تشويه فنشر الدعايات والمزاعم بأن: “هؤلاء السيدات برفقة الحزب الشيوعي يأتون لأخذ الأطفال وبيعهم في الاتحاد السوفيتي”، “الشيوعيون يأخذون الأطفال ليبدلون عقيدتهم”، وكانت أكثر دعاياتهم تطرفا والتي كانت موجهة إلى الأطفال أنفسهم: “الشيوعيون يأخذون الأطفال ليطهوهم ويأكلوهم في الشمال”.أحد هؤلاء الأطفال، والذي أصبح الآن في التسعين من عمره روى في مقابلة لقناة Ria الإيطالية التلفزيونية في حلقة تمّ بثها بمناسبة مرور أكثر من خمسين عاماً على أولى رحلات قطارات الأطفال من الجنوب إلى الشمال أنه عندما وصل إلى الشمال قادما من نابولي، وفي أول ليلة له مع العائلة المستضيفة لم يستطع النوم كلما أخرجت السيدة “ربة المنزل” سكينا في المطبخ بكى خوفا من أن يلتهموه!في نابولي أيضا ولأول مرة و بالرغم من كل ما واجهته هذه القطارات من معاداة كنسية وحرب إعلامية أُطلِق على هذه القطارات إسم “قطارات السعادة Il terni della felicità”، وذلك لأن سيّدات إتحاد نساء إيطاليا، ونظراً للفرق في طبيعة المناخ بين شمالي وجنوب إيطاليا، حيث الشمال شديد البرودة والجنوب دافئ، كُن يقدمن للأطفال قبل صعود القطارات ملابس جديدة دافئة و أحذية متينة لامعة ووجبات طعام صحية وعلب عصير وحلوى تنقلهم من حالة الجوع المدقع والعري القبيح إلى نعيم الشبع وجمال المظهر فأطلق الآطفال أنفسهم على هذه القطارات إسم “قطارات السعادة”.لم تكن العائلات الشمالية التي استقبلت أطفال الجنوب والوسط عائلات ثريّة. كانت بسيطة الحال تعتمد في حياتها على الزراعة والرعي، لها سقف يحميها من البرد ويأكل أفرادها ثلاث وجبات في اليوم. هذا كل ما كانت تمتلكه من الرفاهية، لكنها كانت في نعيم مقارنة بحال هؤلاء الأطفال مع عائلاتهم التي لم تكن تملك أي شيء. روى أحد أطفال العائلات المستضيفة في ذات المقابلة التلفزيونية المذكورة أعلاه والذي أصبح الآن عجوزاً هرماً أنه وفي عشية اليوم الذي ستستضيف فيه عائلة أحد أطفال الجنوب أن والده جمعهم و قال لهم جملة جميلة جدا أصبحت مقولة مأثورة “الطبق الذي يطعم فرد واحد يستطيع أن يطعم إثنين”.كانت قطارات السعادة مثالاً مدهشاً للتكافل والتعاضد بين أفراد المجتمع الواحد وقصة رائعة ستظلّ محفورة في التأريخ عن عمق بصيرة هؤلاء السيدات ونظرتهم للمدى البعيد، بسببها تمّ إنقاذ الملايين من أطفال الوسط والجنوب من مستقبل مجهول بعد حرب دمرت كل شيء وسمحت لعائلاتهم أن تعيد بناء حياتها وقد تخففت من هم لقمة أطفالها ريثما تعثر على مصدر رزق يكفي ليعود ويجتمع بها الشمل مع صغارها من جديد، بعد أن تعمّر مدن الجنوب والوسط نفسها وتستعيد المرافق والخدمات العامة عافيتها. والحقيقة أن هذه القطارات كانت لها أهداف بعيدة لا تقل أهمية من إنقاذ مستقبل الأطفال؛ ومن أعمق هذه الأهداف إعادة لحمة المجتمع الإيطالي والربط بين جميع أجزائء البلاد برابط أخوي حقيقي آكثر قوة ومتانة من الراية الواحدة والحدود الحغرافية، يزيل اللامساواة والاختلال الكبير الذي خلّفته الحرب في مستويات المعيشة في أنحاء البلاد.و من خلال هذا التعاون الشبيه برابط الأخوة بالرضاعة تمّ قتل شيطان السخط والغبن الذي كاد أن يثير النعرات والإنتماءات الفرعية فيهدد وحدة المجتمع والبلد بأكمله. كان الشعار الذي حملته سيدات إتحاد نساء إيطاليا في تظاهراتهن من خلال حملاتهن للدعوى لقطارات السعادة: “لا وجود لشمال ولا لجنوب هناك فقط إيطاليا”.إستمرت قطارات السعادة من الجنوب والوسط نحو الشمال فترة 10 أعوام استعاد فيها الجزء المدمّر من البلد عافيته، وعادت إلى أنحائه الحياة، فدارت محركات المصانع وإستعادت العائلات مصادر رزقها و أصبح فوق طاولات طعامها وجبات ثلاث، فعاد أطفالها من الشمال وهم أكثر صحّة وقد أصبحوا يملكون بدل الأم الواحدة أماً ثانية في الشمال وأباً ثانياً و أخوة آخرين بالإضافة إلى أخوتهم.لولا أن خرج من إيطاليا من قام بدور “الفرد الرشيد” ممثلاً في “جمعية إتحاد نساء إيطاليا” بفكرة قطارات السعادة ما كانت لتكون هناك إيطاليا التي نعرفها اليوم، فهل يخرج منّا نحن في: السودان، سوريا، ليبيا، اليمن، العراق أفراد رشيدون ينهوا الحرب وينقذوا الطفولة ويعيدوا لحمة البلاد، هل.. ياترى؟

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا