هذه مقالة تبحث فيما هو صحيح وما هو خاطئ…لعلكم تقولون: رأي. ولكنه أيضًا يلامس الصواب…لأنه يبحث ضمن هذا الواقع التربوي وتحولاته، وعن أسباب هذه التحوّلات.بين أن تكونَ مُهابًا أو تكون محبوبًا يتأرجح ميزان التربية العادلة، مائلًا بثقله لإحدى الكفتين اللتين لا يمارس المعلم فيهما الفعل بقدر ما هو منفعل ضمن سياق كبير يمارِس فعله في التربية النفسية للمعلم والطالب والأسرة قبل دخول كُلٍّ من الطالب والمعلم إلى المساحة الوطنية لصناعة الكائن المنضبط التي نسميها: “المدرسة”.مؤخراً جمعني حديثٌ مع رجلٍ يكبرني بعشرين عامًا تحدثنا فيه عن جيله وجيلي الذي نعتبره آخر جيل تلقى ضربةً قاسية على واحدٍ من مواضع جسده بسبب التقصير في واجباتنا بوصفنا طُلّابًا، ذلك ما جعل هذا الرجل يخرجُ من مدرسته في الصف الثالث ويعود لها بعد ذلك متأخرًا عن أبناء جيله، وجعلني أكره مادة اللغة الإنجليزية لسنوات. هذه مقالة إذن لا تدعو لمثل هذه القسوة السلبية، ولكنها ليست مع فقدان هيبة المعلم، وعدم قدرته على فرض كلمته احترامًا. فبين اللين والقسوة يفقد خيط الحزم الدقيق سِمَته اللازمة. مع نقد القسوة السلبية لم نصل إلى ما يجب، أي إلى ذلك التوازن الذي يخلق بين الطالب والمدرس علاقة ودية تقوم على توقير المعلم اللازم ومراعاة الطالب الذي يحترم أستاذه، بل وصلنا إلى نوع من انتقال الهيبة من المعلم إلى عموم طلبته، لدرجة لا يمكن فيها لكثير من المعلمين – وكما يشير صديقي (ج. ي.) الذي يدرِّسُ مادة التاريخ والجغرافيا – أن يضبط صفًا مكونًا من خمسة وثلاثين طالبًا حتى بصرخةٍ تعيد الحالة الى وضع السيطرة، وذلك ليس مراعاة للطالب بل بدافع الخوف. ولكن من ماذا ولماذا؟من أولوية الأسرة إلى أولوية الذاتأعتقد أن المسألة تتخطى ما هو في يد كلٍّ من المدرّس والمدرسة والطالب، إلى تغيُّر قد طرأ على البنية التربوية عمومًا. لذا لن أتحدث عن مساحة التربية المدرسية بقدر ما يحدث فعليًا ضمن نطاق أوسع: في الأسرة، وقبلها في الإعلام والثقافة.نحن، جيل بداية التسعينات وما يسبقه تمّت تربيتنا ضمن سياق مختلف تقوم بنيته على أولوية الأسرة، أما بُنية التربية الحالية فتقوم على أولوية الذات. كانت أقصى أماني الأب في بيته أن يكون مُهابًا، بينما أصبحت أماني الآباء اليوم تتمحور حول مفهوم المحبوبية: (أن يكونوا محبوبين). ما زلت أذكر حين يُقْبِلُ والدي علينا في البيت، كيف أنه لا يمكن أن نبقى مستلقين على الأريكة؛ كان يقول لنا: “ليس على الشاب في عمركم أن يستلقي هكذا متخذًا وضعية (التنبلة)”. ولازلت أذكر كيف تقوم أمي بتهدأتنا، أو منعنا من اللعب زاجِرةً: “هش، والدكم يأخذ قيلولته بعد تعب يومٍ شاق”. إن الهيبة التي للأب والاحترام الذي يوليه الأبناء للآباء هو ما تشترطه التربية الإسلامية: “فلا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما” لأن المحبة من الله على سعة القلب أما الاحترام فهو اختيار تتربى عليه الذات، وهي تربية ضرورية، بل واجبة.هذه الرغبة من الآباء في أن يحظوا بالمحبة الزائدة من الأبناء جعلت منهم آباءً ذوي صيغة هجينة: لا هم غربيون خُلّص ولا شرقيون خُلص؛ يمسحون على رؤوس أبنائهم في اللحظة التي يحتاجون فيها إلى التقريع، ويدارونهم في اللحظة التي تستوجب شيئًا من الصرامة والحزم.قبل دخول طالب جيل الثمانينات إلى المدرسة كان قد تلقى شيئًا من قسوة أبيه – ولست في صدد التصنيف الإيجابي أو السلبي، فجميعنا يعرف ما هو إيجابي وما هو سلبي بديهيًا –. كما تلقّى طالبُ هذا الجيلِ شيئًا من تدخُّل جاره آخذًا إياه من الشارع نحو أمه لأنه كان حافي القدمين، وكان ربما قد انتصر في نزاع مع أقرانه على لعبة من ألعاب الحي أو هُزِم. كانت هناك تهيئة نفسية على أن يقبل الطفل شيئًا من صرامة التربية المدرسية، أو أن يحل أموره بنفسه قدر الإمكان دون اللجوء إلى والديه لحل نزاعاته البسيطة ومشاكساته بين الأقران. وعلى أي حال لا بد للمرء أن يفهم ويلمس شيئًا من هذه القسوة في حياته ليتوازن، إما في طفولته ومن قِبل أهله أو أهل الحي والأقران، دون ذلك سيحصل عليها من صفعات الحياة في ما بعد.أوّليات ما وراء علم النفسكنت أتابع حلقة للطبيب النفسي (ي.ح.) وقد كان ينصح الأبناء بعدم السماح لآبائهم أن يصرخوا عليهم، وبأنهم يجب أن يقفوا في وجه الأب ليمنعوه من ذلك؛ (لا شيء يجب أن يمسّ هذه الذات، أو يقوم بتعقيدها). تابعت حلقات أخرى له أيضًا، وبالرغم من أن ما يقوله يبدو أنه يساهم في تقوية النفس، إلا أنه يضعفها على المدى الطويل ويجعلها هشّة.يخضع الأطباء النفسيون، إضافة إلى العلم، وفي نهاية الأمر لفلسفة نفسية أيضًا، وهي هنا فلسفة نفسية تقوم على مفهوم: الذات فوق كل شيء. هذه الذّات وهذا الفرد له أهمية تفوق الآخرين في محيط الأسرة والأصدقاء. وفقًا لهذه النصائح نرى هذه الذات وكأنها تبدو فَضَّةً وغير محترمة وتحاول فرض قوتها على كل شيء؛ ثم لستُ أدري هل يخلق هذا النوع من التوجيه النفسي كائنا قويًا حرًا، أم معزولًا منبوذًا؟ إننا نشكو اليوم أكثر ما نشكو من مصطلح “نرجسية” الذي يحدث إما نتيجة التربية المفرطة في القساوة أو التربية المفرطة في الدلال. ويبدو أن رواج المفهوم لا يخلو من واقع، حتى أصبح تصنيف أي علاقة في الحياة يقع ضمن مفهومين “السامة” و”النرجسية” الذي يحل أحداهما بوصفه رديفًا للآخر، ويتحمل جزء منه نمط التربية الحديث الذي يُبقى ذات الطفل دائمًا في حالة انتظار كلمة: نعَم. ورفض كلمة: لا. وهو ما يتعامل به في علاقاته اللاحقة بوصفها علاقات قائمة على تلبية الرغبات إما المفقودة بشكل كلي، أو دائمة الحضور.حول فيلم The Whaleهذا التحول في البنية التربوية ساهمت فيه السينما والأدب اللذان صاغا صورةً مثالية حول الأبوة تتخطى صورة الأبوة التقليدية (الموقّرة) سعيًا إلى أبوّةٍ حضارية منشودة (الأبوة الحانية والمحبوبة).يوجه المخرج “دارين أرنوفسكي” صرخته ضد كل ذلك في فيلم The Whale (2022) وهو عمل سينمائي بديع يمثل بطولته الممثل “بريندان فريزر” عارضًا الأمراض الثلاثة للحداثة: “البدانة، التمحور حول الذات، والنظرة المادية للعلاقات الروحية”. حيث يمثل دور: معلم أدب إنجليزي وأبٌّ لابنةٍ مراهقة، وزوج منفصل عن زوجته.تتجلى الرؤية النقدية في الفيلم عند اللحظة الأخيرة التي تمثل خاتمةً مفتوحة على البياض الذي يغطي الشاشة، هذا البياض الذي يغطي الشاشة يبدأ عند اللحظة التي ينتهي الحضارة الحديثة بماديتها أن تؤثر في العلاقات، وهي اللحظة التي تُبدي فيها الإبنة المراهقة تعاطفًا اتجاه والدها، هذا الوالد الذي لم تعرف من صورة العلاقة بينها وبينه غير الصورة المادية، فهي صورة تتجلى في صغية ابنة لا تحترم والدها، ووالد يقدم كل شيء دون القدرة على فرض نفسه. إن هذا البياض هو الذي يمثل الأمل، وعودة الروح للروح في زمن الجفاف والتصحر الشعوري حتى بين أقرب العلاقات حساسية: البنوة والأبوة.ماذا يعني أن أحبك؟قرأت مقولة قبل أيام تقول: “إن التربية القائمة على المحبة لا تقبل مقارنة الأبناء بغيرهم من الأطفال، لأن المحبة تستوجب القبول”. ونجد آخر يقول: “من يحبك لا يسعى لتغييرك إنما يقبلك مثلما أنت”. ولكن هل كل قبول محمود؟ وهل كل توجيه نحو التغيير مذموم؟صحيح أن مقارنة الأطفال بالآخرين فعلٌ لا يصح، وله تأثيره السلبي على نفس الابن؛ ولكن ذلك لا يعني أن المحبة تعني القبول، بل تعني توجيه الذات بعد معرفة قدراتها من المحب لتكون في أحسن صورة لها، فإذا كنت محبًا: أبًا، صديقًا، زوجًا. فإن واحدًا من علامات محبتك للآخر محاولةُ الانتقال به من حال أسوأ إلى حال أفضل.تقوم التربية النفسية في المفاهيم الشرقية على إكرام النفس بإكراهها: “المكارم لا تُنال إلا بالمكاره”. فأولوية الحق تتقدم على أولوية الذات، أو النفس وهواها الفردي. وقد قسِّمت هذه التربية علاقة الأب بالإبن تراتبيًا، على عتبات سُلَّم يبدأ بالتعليم، فالتأديب، فالصداقة: “علّمه سبعًا، أدبه سبعًا، وصادقه سبعًا”. إن تخطي هذه السلالم مباشرةً نحو علاقة صداقة يبدو أمرًا مثاليًا. لأن المحبة يدخل فيها أيضًا تقريع المحب للحبيب، والتعبيرات الصادقة عن عدم التأقلم حتى يتوافقان ويتصادقان.إن هذا المفهوم للمحبة، هو المفهوم التقليدي للتربية الذي عرفناه قبل خطابات الأطباء النفسانيين في زمن الحداثة وأفلام هوليود: “أنا أحبك، إذن أسعى لتوجيهك عندما تخطئ وتهفو، لا لتكون أنا أو لأقارن ما عندك بما عند الآخرين، إنما لتكون أنت في صورتك الأحلى والأكمل”. هذا النمط من التوجيه قد يكون قاسيًا أحيانًا، يشبه قسوة نيل المكارم، التي لا تُنال إلا بالمكاره على حد تعبير الوشّاء. يمكنني أنا أرى في هذا العمر – أنا الذي نالني حظ من قسوة والدي – تلك المحبة الداخلة في قسوته أحيانًا، أما اليوم فما يجمعني بأبي هي علاقة الصداقة أكثر منها علاقة البنوَّة.هكذا أردت الحديث خارج سياق التعليم ذاته، لأنه يحدث فوق كل هذه العملية ضمن دائرة أوسع. فماذا يفعل المعلم إذا كان الآباء يصطحبون أبناءهم الصغار لبيوت الآخرين، فيشاغبون ويتشقلبون أو يكسرون بعض الحاجيات، فلا يتلقون من آبائهم غير جملة: “انزل يا بابا”…”عيب يا بابا” بلهجة حانية…! ماذا يبقى للمعلم غير الصمت في مواضع يحتاج فيها الطلاب للضبط، خوفًا من شكوى الطالب للأب، فشكوى الأب للوزارة، فشكوى الوزارة للإدارة، فضبط الإدارة للمعلم الذي يجب عليه دائمًا أمام طلابه الخمسة والثلاثين باختلافاتهم أن يسترخي ويستهدي بالله.