آكلو البطاطا: الغواية في متاهة فان جوخ

0
10

يجنح الكاتب والمخرج البحريني حمد الشهابي إلى الخيال في غالب أعماله المكتوبة والمرئية؛ هذا الخيال المكتوب يستثمر كما ينبغي لديه، وهو يدرك أين موقع الشرارة، ليحيك حولها أحداثاً مناسبة لتصوغ عملاً فنياً يثير الجدل ويلفت الانتباه. وعلى الرغم من كونه يكتب قصصاً قصيرة وروايات، لكنه لا يتوانى عن شراء حقوق قصة ما أشعلت خياله، ويبدأ في الهدم وإعادة البناء، حتى تخرج بهيئة جديدة وجنس أدبي آخر، دون أن يعني هذا أنه مشروع مستعجل، بل قد يبقى في الأدراج لسنوات، كما حصل مع مسلسل التسعينات الشهير: حسن ونور السنا؛ حيث كُتب في الثمانينات، وظهر للنور بعدها بعشر سنوات وأكثر، والذي كان طفرة على مستوى القصة والتقنيات التي أبدعها المخرج بسام الذوادي، وكيف أن الشهابي التقط فكرته من قصة قصيرة عن “حسن البصري” مجهولة المؤلف، والمنسوبة افتراضاً لقصص ألف ليلة وليلة.ويبدو أن التسعينات كانت الفترة الذهبية للشهابي، الذي خرج بأعمال غير المسلسل -الذي استقطب الصغار والكبار حينها- مثل السهرة التلفزيونية “عيون تحت الجمجمة”، وفيلم “بيت الجن”، ومسرحيتي “بيت خاص جداً” و”نجمة على الأرض”، وأعمال عديدة ومغايرة لما كان موجوداً وقتها في الساحة قبل طفرة الألفينات وتبعاتها. والميزة التي تعلو موهبة الشهابي، هي قدرته على الخيال، وهو محرك الإبداع لأي كاتب وفنان، فكيف إن كان يجمع بينهما؟ وأحدث الكتابات للشهابي هي الصادرة عن دائرة الثقافة بحكومة الشارقة في العام 2025م: (آكلو البطاطا)، وهي مسرحية مستوحاة من اللوحة الشهيرة لـ”فان جوخ”؛ مع وجوب الإشارة إلى أنه قد كتب قبلها نصوصاً مسرحية أخرى مستوحاة من مصادر أخرى، مثل “الحب الأول في حياة نابليون بونابرت” الذي يستعين بأحداث وشخوص حقيقية، ولكن حواراتها متخيلة ومبنية على الافتراضات؛ وكذلك نص الفرنسي جي دو موباسان “الموتى لا يكذبون” والتي ظهرت بنفس العنوان؛ وهذه المرة ذهب للهولندي الذي عُرف بكثرة نوباته العقلية التي أدت إلى قطع جزء من أذنه اليسرى، وهلاوس سمعية وبصرية أدخلته مشفى الطب النفسي لاحقاً، ثم قادته إلى الانتحار برصاصة في الصدر، وهي نهاية طبيعية لشخص يملّ تكرار رؤية وجهه في المرآة يومياً! لكنه ترك إرثاً فنياً للعالم، ما زال يُدرس ويُستعان به في إنتاج أعمال فنية أيضاً، كما فعل الفنان البحريني محمد حداد في ألبوم موسيقي عنونه بـ”فنسيت”، ضمّت مقطوعات مستوحاة من حياة ولوحات فان جوخ.ولوحة (آكلي البطاطا) للفنان فينست فان جوخ، التي أنجزها في نوينين بهولندا، واحدة من أهم لوحاته الفنية، قام المؤلف الشهابي باستنطاقها، والتي مزج فيها الشخصيات الخمس للوحة، بالإضافة إلى عشرين شخصية أخرى، تحرك أحداث المسرحية ذات الفصول الثلاثة. يظهر فان جوخ بشخصه عبر اسمه الأول “فنسنت” وسط المتظاهرين المتجمهرين الناقمين على البرجوازيين، بلوحته الخالية على حامل اللوحات الخشبية وأدوات الرسم، ومعبراً عن رفضه للعنف المادي، لكنه على استعداد لرسم العنف العاطفي أو النفسي المرتبط بإيمانه وقناعاته التي يحصل عكسها في شوارع نوينين الهولندية. وكان ظهوره ضمن جمع المتظاهرين لرغبة منه في رسم لوحة يمتزج فيها الفقر والشقاء والتعب واليأس، لشعوره أنها ستكون “أروع وأجمل وأعظم لوحة تخطها ريشته على الإطلاق”، وهدفه النبيل كان واضحاً منذ البداية.وفيما ينال ما ينال من سخرية المشرديْن: كيفن وألبرت؛ عن رسم ما لم يستشعره إلا ظاهرياً، وعبر وسيط وليس عن معاناة شخصية، لكنه يدافع عن إيمانه بحقوق الأفراد. ويغلب على الحوار بين المشردَيْن وجوخ الفصل في اللغة المخاطبة؛ حيث عنى المؤلف إظهار صوتين مختلفين: بين الجهل والسطحية، والفن والعمق (1)، رغم بعض الجمل التي تنمّ عن فهم المشرد كيفن للفرق بين الفقراء الذين لا يلقون قوت يومهم، بينما يتفنن الأغنياء بإلقاء الفائض في القمامة، مما يسبب “غلياناً في النفوس”! وهذا يعني إدراك الأخير معنى الفروق الطبقية التي تسبب الحقد بين أفراد المجتمع الواحد، بين إفراط وتقتير، حياة أو لا حياة.ولنفس القناعة بإيجاد موضوع يصلح للوحة، كان البحث عن معنى تصوير الحرمان متقدا عند فان جوخ؛ فيأخذ عدته الفنية المتصورة، وينتقل إلى ميدان إعدام، حيث سيعدم أحد اللصوص بتهمة سرقة بصلتين ودجاجة من حقل أحد التجار، وآخر لديْن بقيمة تفاحة، بينما “المجرم” الثالث محكوم عليه بسبب تقبيل ابنة رئيس البلدية له! وهذا يدين السلطة التي تنفذ الأمر عبر أضلعها المتمثلة في العسكر.ويمكن قبول المشاهد باللوحات السابقة على أساس تصوير الحياة الكادحة للعموم، لكن حين التقى لاحقاً في الحقل بالفلاحين الخمسة أبطال اللوحة الشهيرة مع جوخ، ورغم نية الأخير رسم ما يشعر به، إلا أن الطلب يأتي من الخمسة الذين يطلبون رسمهم؛ حيث يتعارض هذا واستعجالهم الحديث من أجل الانطلاق للعمل كل النهار حتى آخره، بل الأكثر من هذا خيال المؤلف حمد الشهابي الذي ترك تصميم اللوحة للفلاحين أنفسهم!هل رسمت فلاحين قط؟/ إذاً لا تتردد. لنكن بوصلتك في اللوحة القادمة.. ألا يعجبك الأمر؟ ولا نريد منك مالاً. فقط ارسمنا! (2). وعلى عكس المحادثة السابقة بين جوخ والمشردين، يبدو أن مستوى الثقافة من خلال هذا الحوار أعلى من كونهم كادحين لا يريدون في الحياة إلا اللقمة التي يقتاتون بها آخر اليوم؛ إذ يُصغِّر الرجل فكرة الفنان عن رسمهم في الحقل؛ لأنه -حسب النقاش السابق- اتضح أن جوخ يريد تصوير المعاناة، وليس جمال الصورة! لذا تقترح عليه المرأة أن يجمعهم على مائدة واحدة وهم يأكلون البطاطا! بل إن المؤلف اتجه إلى منحى مباشر أكثر، حين وضع على لسان المرأة الأخرى مقترح أن يسمي اللوحة (آكلي البطاطا)؛ لأنه فنان يبحث عن الموضوع “النادر”، وهذا الحوار لا يتناسب والمنطق، نظراً لبساطة حياة الفلاحين المحدودة والبعيدة عن استشعار الجمال بهذه الصورة، بالإضافة إلى عدم معرفتهم المسبقة به وبفنه وبتوجهه. ثم لاحقاً، في مونولوج فان جوخ، أنه وجد ضالته بالفعل في هذه العائلة، شارحاً فكرة اللوحة المعروفة كأنَّه يراها قبل أن يرسمها بالفعل. (3)اختار المؤلف أيضاً أن يأتي بمكان مألوف لمحبي لوحات فان جوخ، وهو مكان نومه، حسب الوصف في اللوحة المعروفة “غرفة نوم في آرل” ذات الأرضية الخشبية والأبواب الزرق، التي امتزجت باللون الأصفر والبرتقالي المفضليْن في لوحاته، ويضع المؤلف على لسان جوخ أيضاً، الذي يرى مستقبلاً باهراً يتكلم العالم عنه، وعن فكره وفنه، في حين أن لوحاته بالكاد تُباع بمبالغ زهيدة عبر وساطة أخيه، وهذا الحوار يتم مع عامل النظافة في غرفته بالفندق الذي يقطنه! ويبدو أيضاً حواراً ثرياً بين اثنين من الفنانين، وليس مع عامل بسيط يطالبه بأجرة السكن حسب طلب صاحب الفندق منه، ونفس هذا العامل “مارسيل”، يطلب منه الصبر لأنه في بداية عهده، وهذا هو الفارق الوحيد بينه وبين الآخرين الذين سبقوه، كذلك لغة الشخصية تعكس شخصاً مثقفاً وله رؤية، وهذا ليس استنقاصاً بالضعفاء أو ذوي المهن المساعدة، لكن هل يمكن أن يقول عامل تنظيف لفنان مثل فان جوخ عن لوحاته التي لم تكن معروفة حينها: “إنها إشعاع رائع خرج من عقلك، وتوهج على سطحها بعبقرية فريدة يا سيد فنست..”! (4) وكان الأولى أن يمتدحه ببساطة المتذوق الشاك في ذوقه -لأن الفن ليس مجاله-، وبعبارات متآلفة مع شخصيته.كذلك الجملة المرتبكة عند فان جوخ وهو يخاطب مارسيل: “بعد قليل، إما أنتحر، أو أذهب إلى أحد الحقول لكي أرسم لوحة..”، فهل هناك وجه تشابه بين الجملتين؟؟ ولأنها لا تبدو جملة مازحة على النص، وأيضاً لأنه ليس بها توصيف مهيأ. وعلى الرغم من الحديث المطول بينهما، وتنويه فان جوخ إلى عقلية مارسيل التي تجيد النقاش، إلا أن هذا لا يمنع ارتفاع اللغة المخاطب بها عن الشخصية.ويظهر تأثّر الشهابي بلوحات فان جوخ، عبر تصور حياته في لوحاته. فها هو يظهر في النص، جالساً على كرسيه، يفكر، وواضعاً يديه على جوانب رأسه، وهذه الاستعانة أيضاً تكبر رقعة الخيال عن أحداث لشخصية تاريخية غير موثقة التوثيق الذي نعرف، لكن الباحث يعرف عن حياة الفنان أنه عانى الأمرَّين في حياته، وما كان يؤرقه حقاً هو عدم تقدير فنه، ويتجلى هذا في محاولته بيع لوحاته على مدير الفندق لتسديد جزء من الإيجار، ويرفض الأخير هذه الصفقة التي يرى فيها اللوحات خردة لا قيمة لها!كان جوخ مصاباً في جسده وذهنه، ومن الواضح أن الشهابي قد درس هذا الجانب جيداً؛ فاستدعى لوحاته التي رسمها في سنوات مختلفة، مثل الدكتور غاشيت/ صاحب الحذاء/ صاحب المقهى/ صاحب زهرة الخشخاش، وجسَّدها في شكل عناصر مادية وشخوص تحاور صاحبها كأنَّها الإلهام الذي يلحّ على المبدع حتى يظهر في صورته الحية المبعوثة من مخيلته، وكما طلب منه الفلاحون رسمهم في لوحة سابقة، كذلك فعل هؤلاء! وبناء عليه، حين نرجع إلى الحكم الأولي باستحالة أن يكون منطوق الفلاحين في الحوار المشار إليه سابقاً، وعليه؛ فهو ينطبق على مارسيل أيضاً وبقية الشخصيات الأخرى، إلا شقيقه ثيو؛ لارتباط وجوده بوجود المال الذي يعطيه لفان جوخ مقابل بيع لوحاته، وهو الذي يوجه النصيحة له بترك الفن والبحث عن وظيفة مستقرة تعطيه دخلاً ثابتاً، وهو حوار مألوف في حياة كل فنان قرر احتراف ما يحبه، في مقابل أن يخسر أساسيات آدمية للعيش. ويتبين للقارئ، الذي يشك مع تطور الأحداث، امتزاج الحوارات، وتداخل الشخصيات رغم وضوحها، مثل الكشف عن حديث مختلق بين طفلة تهديه وردة، وبين طفل يعمل في مسح الأحذية عرض عليه خدمته، تبين أنها من خياله الذي يرى ويسمع ما لا يكون عند الآخرين، وهذا ما يمهد للوحة الأخيرة التي جاءت لتصف لوحة (آكلي البطاطا) كما عرفها العالم، الأزواج الأربعة والطفلة التي تعطي ظهرها للرائي، منح المؤلف اليشا -اسم متخيل- حرية اختيار المكان وترتيب الأشخاص، بل وحتى التفاصيل المتعلقة بمائدة البطاطا، وكذلك أظهر التفاصيل التي نعرفها، ولكن من زاوية أخرى، حتى اختلطت الرؤية للقارئ الذي يرى: هل هذا سرد، أم أضغاث مما يدور في ذهن الفنان؟ الواقع أن الشهابي هادن قارئه حتى النهاية؛ مؤرجحاً إياه بين ما هو حقيقي ومتخيل، والخيال كما أسلفنا لعبته المفضلة التي يجيدها ويعرف قواعدها، لذلك نجح في اللعبة، وكسبها؛ لأنه استخدم المادة الخام لذهنية فان جوخ، لا تصف أحداثاً حقيقة فتُحاكم، ولا يأخذها الخيال الخام، حيث الإفراط، فتتوه، وتظهر للمتلقي إبداعاً مستخلصاً من إبداع.الهوامش(1) الشهابي، حمد، آكلو البطاطا، نصوص مسرحية، دائرة الشارقة، الطبعة1، 2025م، ص22-28.(2) المصدر السابق، ص 42.(3) نفس المصدر، ص 45.(4) نفس المصدر، ص 67

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا