أفقر رئيس في العالم

0
10

خوسيه موخيكا الثوري الزاهد في السلطة والمال

في الثالث عشر من مايو المنصرم إستيقظت أمريكا اللاتينية على خبر وفاة “خوسيه موخيكا” الشهير ب “بي بي” رئيس الأرغواي السابق، وأهم زعماء اليسار في القارة الجنوبية، وعلى الرغم من أن رحيله كان متوقعاً لمعاناته من مرض بسرطان المرئ في مراحله المتأخرة، وأيضا لتقدّمه في العمر فقد كان يفصله عن بلوغ التسعين عاماً أيام قليلة، إلا أن خبر وفاته شكّل صدمة في جميع أنحاء العالم.بالنسبة لي فإن خبر رحيل “بي بي” كان محزناً للغاية، فعلى الرغم من أن معرفتي بتاريخه السياسي والإنساني لم يتجاوز الأشهر القليلة، إلا أنها كافية لأدرك أن العالم فقد رجلأً فريداً في هذا العصر، فأول ما يلفت الإنتباه لخوسيه موخيكا كسياسي يساري إشتراكي هو شعبيته المثيرة للإهتمام بين صفوف الشباب اللاتيني ومحبتهم الكبيرة له، فالإشتراكية في أمريكا اللاتينية وعلى الرغم من جريان اليسار كالدم في العروق هناك، إلا أنها لا تمرّ بأفضل أيامها، فثمّة شعور بالسخط تجاهها من الأجيال الشابة في مختلف بقاع القارة التي جاءت بعد الثورات ورأت بأم عينها الفرق بين الشعارات الثورية الحالمة و العمل على أرض الواقع، وأن ينال زعيم إشتراكي حالي رضا الشباب ويصبح هو الإستثناء، فلهذا معنى واحد هو أن الرجل كان يسير بالفعل في الطريق الصحيح.أدرك موخيكا أنه، وفي عصر المجتمع الإستهلاكي الحالي، فإن معركة الإشتراكية ليست ضد الرأسمالية لكنها ضد الأنانية، وأن الاقتصاد يجب أن يكون هو الأولوية الأولى للدولة، لضمان توظيف ريعه في تأمين الحياة الكريمة لجميع الأفراد، وتجويد الخدمات الأساسية العامة من تعليم وعلاج ووسائل مواصلات وتطوير وتوفير فرص عمل للشباب، وهذا التوجه اليساري الإشتراكي الحكيم هو ما أكسب موخيكا إحترام ومحبّة الشباب.والحديث عن موخيكا السياسي لا يكتمل دون الحديث عن موخيكا الإنسان، فقد عرف في العالم بأنه الرئيس الفقير، عاش حتى وهو فترة رئاسته في بيت مزرعة بسيط في ضواحي مونتفديو عاصمة الأروغواي برفقة زوجته لوسيا توبولاسكي، وكلبته ذات الثلاث قوائم “مانويلا”، وسيارته الفلوكس واجن تيتيل موديل 87، وكان يتبرع ب 90% من راتبه الرئاسي لصالح التعليم في بلاده.كان فيلسوفاً يرى أن الهدف الرئسي للحياة هو أن يسعد الإنسان، وأن يعطي المعنى لحياته مناضلاً من أجل قضية يجد فيها شغفاً، في أي مجال كان، سياسة أو فناً أو أدباً أورياضة، وأن يكتفي المرء بالأساسيات من معينات الحياة ليجد الوقت الكافي للإستمتاع بها، وكان شديد الإنتقاد للمجتمعات الإستهلاكية والحياة من أجل المزيد من الكسب لأجل المزيد من الشراء في غير الحاجة، وهو القائل: “الحياة هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن شرائه من السوق، لا تستطيع أن تذهب الى البائع و تقول له أعطني ستة أشهر من الحياة؛ إذا إنقضت فإنها لا تعود يجب أن نعيشها بكامل طاقتنا فالحياة معجزة ، ميلادنا معجزة يجب أن نكون ممتنين لها”.عرف أيضاً بأنه نصير للشباب، يرى أن المستقبل هو في تطويرمهاراتهم وإعدادهم للتعامل الذكي والواعي مع عصر الذكاء الاصطناعي وثورة المعلومات، ومثلما دعا إلى توحيد أمريكا اللاتينية والتعايش السلمي بين مختلف المجتمعات العرقية والأحزاب السياسية والمذاهب الدينية، فإنه كان نصيراً للمهاجرين وطالبي اللجوء، حيث فتح أبواب الأوروغواي للاجئين السوريين ودعا لإندماجهم في المجتمع، كما أن الأوروغواي في عهده كانت من أوائل الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.وبالنظر إلى تاريخ الرجل السياسي، نجد أن موخيكا وصل لرئاسة الأروغواي بعد نضال طويل محارباً في صفوف فصيلة “توباماروس” اليسارية المسلحة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وهي حركة سياسية مسلحة تحارب الدكتاتورية والتمييز الطبقي، وتسعى لتغير الحكم كما جرت عادة التغير في أمريكا اللاتينية في ذلك الزمان عن طريق الكفاح المسلح، فهي عاصرت وتأثرت بالثورة الكوبية وبنضال ونهج تشي غيفارا، حيث قاتلت الحكومة واعتقلت العديد من أصحاب النفوذ من السياسين، وشنت حملات مصادرة لأرصدة كبار المسؤولين الخاصة في البنوك لتوزعها على إطعام الفقراء.إعتقل موخيكا ثلاث مرات، واستطاع الهرب مرتين قبل أن يتم سجنه لمدة ثلاث عشرة سنة في حبس إنفرادي حارب فيه الجنون حتى لا يفقد عقله، وبعد مجئ الديموقراطية في الأروغواي في العام 1985 خرج موخيكا من السجن، ليشكّل مع رفاقه من توباماروس جبهة عريضة تضمّ طيفاً واسعاً من الحراك اليساري والديمقراطي المسيحي، وشغل منصب وزير الزراعة ووزير الثروة الحيوانية، وأصبح نائباً في البرلمان، قبل أن ينتخب رئيساً للأروغواي في العام 2010 حتى العام 2015، وفي فترة رئاسته ازدهر إقتصاد الأروغواي وإنخفض معدل الفقر إلى أقل من 5% وأصبحت سبّاقة في مجال القوانين المدنية وحقوق الإنسان والطاقة المتجددة.وعلى الرغم من شعبيته الكبيرة ومطالبة الناس وأعضاء حزبه له بالترشح لدورة رئاسة أخرى إلا أنه رفض وقال يوم إنتهاء ولايته: “أشعر بالراحة كمن كان يرتدي حذاء جديداً ضيقاً وخلعه أخيراً”.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا