منذ الحملة الانتخابية الرئاسية الأولى لدونالد ترامب سرت بين أوساط مؤيديه أحاديث عن تنبؤات أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ذكر فيها متنبؤون ما يشير إلى شخص بمواصفات ترامب، أو حتى ذكره بالإسم، على أنه أقوى وآخر رئيس للولايات المتحدة. ربما ترامب نفسه آمن بذلك بقوة. فأثناء حملته للانتخابات الرئاسية الأخيرة قال أمام جماعة من المتقاعدين وقدامى المحاربين: “انتخبوني هذه المرة، ولن تُضطروا إلى انتخاب أحد بعد ذلك”. كما أنه وبعض أنصاره، تحدثوا عن إمكانية ولاية ثالثة لترامب (سنعود إلى هذا في ختام المقال).وبعد الانتخابات قال ترامب أن “هذا التفويض لم يأت من الشعب الأمريكي فحسب”. … “لقد أخبرني كثيرون أن الله أنقذ حياتي لسبب ما، وهو إنقاذ بلادنا”.طيب، ماذا يعني أن يكون ترامب آخر رئيس لأميركا؟ لعل أحد التفسيرات هو فكرة دخول الولايات المتحدة المرحلة النهائية من تاريخها، وهو ما تردد كثيرا في روسيا منذ عام 2020. ومن أبرز من تحدث عن ذلك نيكولاي باتروشيف، المدير السابق لجهاز الأمن الفيدرالي، والقريب من الرئيس بوتبن. أوضح باتروشيف أن الولايات المتحدة ستنقسم إلى شمال وجنوب، مع تحرك الجنوب “نحو المكسيك، التي استولى الأمريكيون على أراضيها عام 1848”. وفي مقابلة صحفية عام 2023 رأى أن مثل هذا الصراع ستشعله الحرب الثقافية: “إن مشاريع مثل حركة “حياة السود مهمة” والترويج الجامح لنظريات التحول الجنسي الهادفة إلى الإذلال الروحي لسكان يعيشون بالفعل في حالة من اللامبالاة … والسلطات الأميركية، دون أن تفهم العواقب، تُدمِّر نفسها خطوة بخطوة”.من وجهة نظرنا، أن رؤية باتروشيف، وإن كانت محقة، إلا أنها تشير إلى مظاهر الأزمة، وليس الأزمة نفسها، وتُقدِم أحد النتائج على أنه السبب. والآن إلى الجد. كل ما سبق ذكره بعيد تماما عن ما يسميه الماركسيون التحليل المادي التاريخي، حيث يتوجب البحث عن الأنماط التاريخية وتتبع تطورها ومآلاتها. الحقيقة، أن ما نشهده هو نهاية العولمة (عندما يجري الحديث عن النظام الدولي الحالي يَدرُج في التداول، خصوصا لدى اليسار، وصفان له: سياسة تُسمى “الليبرالية الجديدة” وعملية تُسمى “العولمة”. وكلما ازداد استخدام المصطلحين، كلما إزدادا غموضا وتشابه علينا البقر). مرَّ تاريخ الرأسمالية العالمية بعمليتين للعولمة. في أواخر القرن 19 أُطلق على عملية توسع الأسواق والتجارة العالمية ما عُرف بالعولمة الأولى (1870 -1914)، ومن ثم، العولمة الثانية التي نعيشها منذ ثمانينات القرن الماضي.يُبدي برانكو ميلانوفيتش، الخبير البارز في مجال التفاوت الاقتصادي المُقارن، ملاحظةً مهمةً بشأن عدم التكافؤ بين العولمتين الأولى والثانية. فبينما تتشابهان في جوانب عديدة، إلا أنهما تختلفان في جانبٍ واحدٍ مهمٍّ وذو دلالة: فبينما أفادت العولمة الأولى القوى العظمى على حساب العالم المُستعمَر، استفاد عمال المستعمرات السابقة من العولمة الثانية. غير أن الاستفادة كانت بيِّنة في ظروف انخراط البلدان المستعمَرة في التصنيع وليس الاستخراج. ومع ذلك، كانت مقرونة أيضا بمستويات عالية من الاستغلال وتعظيم الأرباح. النيوليبرالية مبادرة سياسية اكتسبت زخمًا من إخفاقات سياسة الصفقة الجديدة الكينزية، وانتشرت في جميع أنحاء العالم كعقيدة منذ ثمانينات القرن الماضي؛ أما العولمة فهي عملية توسعية تسارعت مع التقنيات الجديدة وهجرة رأس المال إلى أسواق عمل جديدة ومتوسعة. ورغم تداخلهما في جوانب عديدة، إلا أنهما ظاهرتان مختلفتان.يرى بيري أندرسون أن الليبرالية الجديدة لا تزال صامدة وعالقة في صراع سياسي مع الشعبوية – “المأزق السياسي بين الاثنين لم ينتهِ بعد: ولا أحد يعلم إلى متى سيستمر” . بينما يرى ميلانوفيتش بوضوح زوال العولمة الثانية وانتهاء حقبة التجارة الحرة لصالح الحمائية التجارية مجددا.وحتى وإن جاء ترامب شاهرا سيف الحروب التجارية، إلا أنه منذ أكثر من عقدين من الزمان شهدنا زيادة في الممارسات الأميركية والأوروبية للرسوم الجمركية وتشكيل تكتلات تجارية؛ وقيودٍ صارمة على نقل التكنولوجيا إلى الصين وروسيا وإيران ودول أخرى “غير صديقة”؛ واستخدام الإكراه الاقتصادي، بما في ذلك حظر الاستيراد والعقوبات والغرامات المالية؛ وقيودًا صارمة على الهجرة؛ وأخيرًا، سياسات صناعية تتضمن دعم المنتجين المحليين.ذلك بالطبع يتوافق وميول ترامب المعتز بالمذهب التجاري، والمستعد لتوظيف السياسة الخارجية لانتزاع التنازلات من جميع دول العالم، صديقة وغير صديقة، وتدفيعها ثمن “استمرار” الريادة الأميركية للعالم. أي أنه يجب فهم نهج ترامب، بما في ذلك الرسوم الجمركية، على أنه تفسير، وليس سببا للأزمة ولإعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي. يدَّعي ترامب أن الرسوم الجمركية هي أداته الرئيسية لإعادة التصنيع ونشغبل عمال بلاده. وسنرى أن هذا ليس الطريق الصحيح. لم تكن الرسوم الجمركية حلاً للطبقة العاملة وسائر الكادحين في بلدان العالم، ولا حتى لقسم كبير من الرأسمالية، لأنها وصفة للركود التضخمي والفوضى. كما لم تكن التجارة الحرة والعولمة حلاً. وحسب الفترة وأزمة الرأسمالية، تُعدّ التجارة الحرة أو الحمائية التجارية مجرد أدوات للطبقة الرأسمالية لتحقيق أقصى قدر من الأرباح.كان ماركس وإنجلز واضحين تمامًا بشأن هذا الأمر منذ عام 1845. ففي “رسالة إلى الناشر” وضَّح إنجلز موقفه وماركس: “”لا ننوي الدفاع عن التعريفات الجمركية الحمائية أكثر من التجارة الحرة، بل ننوي انتقاد كلا النظامين من وجهة نظرنا … ” .ومع ذلك أحدثت سياسات ترامب تشوشا لدى بعض اليسار والحركة العمالية العالمية. تم تبني الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب علناً من قِبَل شون فين وشون أوبراين، رئيسي اتحاد عمال السيارات الدولي والأخُوَّة الدولية لسائقي الشاحنات.وبالمقابل يُعارض فرانسوا لابورت، رئيس نقابة سائقي الشاحنات في كندا ونائب رئيس رابطة سائقي الشاحنات الدولية رسوم ترامب الجمركية، نظرًا لتأثيرها السلبي على الطبقة العاملة الكندية. لكنه يُعرِّف “قوة التضامن” بأنها اتحاد النقابات والشركات بهدف “حماية” الاقتصاد الكندي والدفاع عن عمالنا وهويتنا كأمة، دون أدنى إشارة إلى أممية الطبقة العاملة.مشكلة كلا الاتجاهين هي الاعتقاد بوجود الحل في السياسات القومية وظهور الرأسمالية القومية، وليس المقاومة النضالية والتضامن العمالي الدولي. لا وجود لمثل هذا الحل المختصر. هذه النقابية التجارية دفعت زعماء النقابات مثل فين وأوبراين إلى التنقل ذهاباً وإياباً بين وول ستريت والإدارة الحالية في البيت الأبيض. بينما يُخفِّض ترامب الضرائب على الأغنياء والشركات، يأمل في تعويض الإيرادات المفقودة بفرض رسوم على الواردات. سيُلحق هذا ضررًا غير متناسب بغالبية السكان، بينما سيستفيد منه حفنة صغيرة من النخب الثرية. عدا أن هذه الفكرة جاهلة رياضيا، لأن التعريفات الجمركية لا تستطيع توليد ما يكفي من الإيرادات لتعويض انخفاض ضرائب الدخل ــ لكن هذا لم يوقف ترامب منذ رئاسته الأولى.ما قتل الصناعة في الأصل هو الخوف من صعود الطبقة العاملة. لنعد إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي نحتفل هذه الأيام بالذكرى 80 لانتهائها ودحر الفاشية البغيضة وقيام المنظومة الاشتراكية العالمية. إن تحقيق مكاسب كبرى للطبقة العاملة في هذه البلدان ألهم الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية لتصعيد نضالاتها وتحقيق مكاسب كبيرة في تحسين الأجور وظروف العمل والحقوق السياسية والاجتماعية الأخرى. وخوفا من تنامي حركة الطبقة العاملة إلى فعل سياسي تغييري في الأنظمة الرأسمالية لجأت هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة إلى تصدير صناعاتها إلى البلدان الأطراف، حيث ضعف الحركات النقابية ورخص العمالة والأراضي وتوفر أو قرب مصادر الخامات والوقود. في مقابل تقهقر قطاعات الصناعة والإنتاج عموما، اتجهت رؤوس الأموال الكبيرة من الاسثمارات المباشرة إلى الاستثمارات غير المباشرة (قطاع المال ومشتقاته الأسرع دورة والأكثر ربحية من الإنتاج المادي). وشكل ثالوث الريغانية والتاتشرية والكولية (نسبة إلى هلموت كول في ألمانيا الغربية) مستنِدا إلى نظريات ميلتون فريدمان داعما لتغوُّل قطاع المال. وأصبح هذا القطاع يوَلِّد قرابة 85% من مجمل الأرباح العالمية. وعن طريق طباعة الدولار غير المغطى بأصول مادية وبيع سندات الخزانة الأميركية (شراء الدين العام الأميركي) وإحداث عجوزات مستمرة في ميزانها التجاري وميزان المدفوعات غطت الولايات المتحدة استهلاكها لما تستورده من بقية العالم، ممتصة فائض القيمة العالمية. وبهذا أيضا تَسيَّد الدولار على قمة الهرم المالي العالمي وأصبح الوحدة الأساسية للحسابات والتداول والإدخار .. لا يدعمه في الحقيقة سوى انتشار 800 قاعدة عسكرية وحاملات الطائرات الأميركية حول العالم. لكن اقتصاد الوهم هذا أصبح الآن، بعد عقود طويلة من الرفاهية التي وفرها للغرب الرأسمالي، ينذر بخطر انهيار الهرم المالي الأميركي، وبالتالي العالمي.يريد ترامب إنقاذ الاقتصاد الأميركي من وهمه وإعادته إلى الاقتصاد الحقيقي، القائم على الإنتاج المادي. وهذا طموح مشروع في حد ذاته. لكن لا الاتجاه الذي يمثله ترامب، ولا أي قوة من النخب الرأسمالية تستطيع فعل ذلك. والأسباب جوهرية. أهمها، أنها ستحاول فعل ذلك بمقاربة طبقية بالمعنى المزدوج: 1- لصالح مزيد من إثراء الأغنياء على حساب مزيد من إفقار الفقراء، وبذلك تضع نفسها في مواجهة المجتمع ككل. 2- لصالح تمكين رأس المال الاحتكاري، التكنولوجي خصوصا، على حساب انحسار نفوذ النخب الرأسمالية الأخرى، وبذلك تُفاقِمُ من تعمق التناقضات بين الفئات الرأسمالية. مرة أخرى. ترامب لم ينه العولمة. الأزمة العقارية في 2003، الأزمة المالية العالمية التي ارتقت إلى اقتصادية فسياسية فأخلاقية في 2007 – 2009 وتتالي ضربات موجاتها، ثم آثار أزمة كوفيد- 19 الكارثية، وما تبع كل ذلك من سياسات تجارية إنعزالية. هذا ما شكَّل بداية نهاية العولمة الثانية. والظاهرة الترامبية ليست سوى الوجه الآخر للأزمة المستفحلة.نعود إلى ما جئنا عليه في البدء: هل جاء ترامب ليبقى؟ نلاحظ الآن تراجع ترامب نفسه، وكذلك أنصاره، عن ترديد رغبته في الولاية الثالثة. طيب، نعيد صياغة السؤال، هل جاءت الترامبية، كنهج، لتبقى؟ تشير التطورات إلى أنه إنْ لم ترسِل انتخابات التجديد النصفي 2026 القادمة أُولى إشارات الإجابة بالنفي، كما يأمل الديمقراطيون، فهناك احتمال كبير أن تفعل ذلك التناقضات الآخذة في الاشتداد بين شخوص طاقم الترامبية الفاعلين: بيسنت – ماسك (في الاقتصاد)، وفانس – روبيو (فيما يتعلق بالعلاقات بالدولة العميقة داخليا وطريقة حل الأزمة في أوكرانيا أوروبيا وفي غزة شرق أوسطيا، وطبيعة العلاقات الدولية عالميا). ويبدو أن العنوان الأساسي لهذه التناقضات سيكون الصراع حول خلافة ترامب، إنْ بقي للترامبية حظ البقاء. وسيكون هذا الصراع وجوديا حتى لو بقيت الترامبية مع فوز اتجاه وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو، الأكثر ميلاً للتفاهم مع الدولة العميقة. عندئذ سيكون انتقام الدولة العميقة بلا رحمة ضد نفوذ فانس في الداخل والخارج. بكل ما لذلك من انعكاسات على الأوضاع الأميركية والعالمية. وسيكون ذلك، من جديد، تعبيراً عن استمرار تفاقم أزمة الرأسمالية العالمية وأثرها على عالمنا.