حين يُطفَأ اللحن في القلب

0
8

موسيقي في زمن المادة

في زاوية غرفة صغيرة، تستند آلة البيانو على الحائط بصمت، كأنها تتألم بصمت صاحبها. رجل في العشرينات من عمره، كان ذات يوم يُحيي الليالي بصوته ونغماته، يُشعل الأرواح بحضوره، ويبعث الدفء في قلوب المستمعين عبر وترٍ واحد. اليوم و بعد بلوغه سن الثلاثين، بالكاد يلمس تلك الأوتار، لا لأنه نسي اللحن، بل لأن الحياة أرغمته على كتمه.هذا الرجل الموسيقي، الحالم، الرقيق، وجد نفسه مضطرًا لأن يُخفي شغفه في أدراج الروح. لقد غلبته متطلبات الحياة اليومية: فواتير، إيجارات، التزامات، ضغوط لا تنتهي. يلوم أحياناً أفراد أسرته على الضغوط التي يعيشها و التي بسببهم لم يعد يمارس شغفه. يندم ويرجع يعتذر على واقع ليس هم السبب فيه وانما الظروف، أوضاع البلد، الاقتصاد العالمي. لم يكن له ترف التفرغ للفن، أو انتظار فرصة قد لا تأتي. فالموسيقى في هذا الزمن، وفي مجتمعات كثيرة، لم تعد تُطعِم خبزًا. تُحب كفكرة، تُشارك على وسائل التواصل، يُصفّق لها، لكن نادرًا ما يُقدَّر أصحابها فعليًا. وكأن الموهبة صارت عبئًا إن لم تكن مربحة، والموسيقي مجرّد هاوٍ إن لم يتحول إلى منتج تجاري.يقول نيتشه: “بدون الموسيقى، تكون الحياة خطأ، لكن هذا الخطأ يتكرر يوميًا في حياة كثيرين، حين يضطر الإنسان إلى قتل صوته الداخلي ليعيش خارجيًا. هذا الموسيقي لم يتخلَّ عن حلمه لأنه فشل، بل لأن المجتمع لم يفتح له نافذة. لا مؤسسات حاضنة، لا دعم مادي، لا اعتراف حقيقي بأن الفن ضرورة، لا ترف. وفي كل مرة سألته الحياة: “ماذا تختار؟ الغذاء أم الغناء؟” اضطر، مكرهًا، أن يختار الأول.في زمنٍ تُقاس فيه القيمة بالربح، والمكانة بالمردود، يصبح الفنان أشبه بغريب في وطنه. يُعاني في صمت، يُجاهد كي لا ينطفئ، يُقنع نفسه أن الموسيقى ستبقى بداخله، حتى إن لم يُمارسها. لكن الحقيقة أن الإبداع مثل النبتة، إن لم تُسقَ، تموت. وإن عاش في القلب، يحتاج إلى مساحة ليُزهر.يقول بيتهوفن: “الموسيقى وحيٌ يدخل القلب فيجعله ينسى العالم”، لكن ماذا يفعل من يعيش في عالم لا ينساه؟ من يُطارده الواقع من كل جهة، ويطلب منه أن يكون “واقعيًا” ويكفّ عن ملاحقة الأوتار؟ كأن الحلم صار تهمة، والمثالية سذاجة.هذا الرجل لا يحتاج شفقة، بل احتواء. لا يريد تصفيقًا مؤقتًا في أمسية، بل بيئة تحتضنه ليبقى صوته مستمرًا. فالفن، والموسيقى خصوصًا، ليست ترفًا كما يُروَّج لها، بل هي لغة الروح، بلسم القلوب، وجسر التفاهم بين البشر. حين تُطفأ الموسيقى، يعلو الضجيج، لا الصوت.كم من موسيقي في هذا العالم تخلى عن الآلة الموسيقية ليحمل دفتر الحسابات؟ كم من عازف بيانو استبدل مفاتيح النغم بأزرار الحاسوب؟ كم من ملحن صار موظفًا بلا لحن؟ ليس لأنهم أرادوا، بل لأنهم أُجبروا. لأن مجتمعاتهم لم تؤمن بأن الفنان هو نبض حضارتها، وأن الأغنية أحيانًا تُصلح ما أفسدته الخطب، وأن اللحن قد يُداوي ما عجزت عنه السياسة.يقول ألدوس هكسلي: “بعد الصمت، ما يقترب من التعبير عن غير القابل للتعبير هو الموسيقى”، فما الذي نخسره حين نصمت أصوات الموسيقيين؟ نخسر جزءًا من إنسانيتنا، من هويتنا، من الجمال الذي يُضفي على الحياة معناها.ربما آن الأوان أن نعيد التفكير في علاقتنا بالموسيقى وأصحابها. أن نخلق لهم مساحات آمنة، فرصًا حقيقية، احترامًا فعليًا. لا نُصفق فقط عندما يصعدون منصات عالمية، بل نمنحهم الدعم في المراحل الأولى، حيث اليأس أقرب، والطريق مجهول.الموسيقي لا يحتاج جمهورًا فحسب، بل من يحتضن حلمه وهو لا يزال في مراحله الأولى. ومن دون هذا الاحتضان، سنفقد الكثير من الأصوات الجميلة، لا لأنهم لم يكونوا جيدين، بل لأنهم لم يجدوا من يُنصت لهم.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا