على عتبات الموت

0
5

عشقت الحياة، و أحسست بطعم الحريّة، مددت يدي إلى السّماء، غزلت القمصان للربيع، شاء القدر لمن لا يستحق أن يعبث بحريّتي، والدتي وأختي الصغيرة دفعتا ضريبة الحسرة، والحرمان، والألم ، وعانيت من سفك دمائي، ومرارة سجني .سمعت قرعًا شديدًا وكأن زلزالاً حلّ بالمنزل. استيقظت فزعًا وهرعت لأعرف مَن الطارق.- مَن؟- رجال الأمن.فتحت الباب وأنا أرتجف من القلق. كانوا ثلاثة رجال بلباس أمنيٍّ أسود. وجوههم مُغطّاة بشكل كامل ماعدا فتحة صغيرة للعينين، ارتعبت من ضخامتهم و أشكالهم.سأل أحد الرجال المُلثّمين بنبرة عالية كزئير الأسد:- هل أنت فؤاد عطيّة ؟-نعم.كنت في حالة روع شديد. دفعوني بقوّة وهم يلجون عبر الباب، فارتطم رأسي بالجدار، وظلّوا يتنقّلون من غرفة إلى أخرى كالثيران الهائجة. شعرت بخليط من مشاعر القلق والرُّعب والخوف، ولكن عندما رأيت وجه أُمّي الشاحب وهي تصرخ دون صوت -وفي حضنها أختي سارة ذات الستة أعوام- ازداد ألمي وأساي. أسمع التّدمير الذي يقومون به من تكسير لكلِّ ما يقع في أيديهم من أوانٍ فخَّارية وكراسٍ وقطع أثريَّة ثمينة، ممَّا حوَّل المنزل في ثوانٍ إلى حالة من فوضى لا تُطاق.مرَّت دقائق التفتيش المُرعبة كأنها دهر، ثُمَّ اقتادوني معهم، جرُّوني ووضعوني في المقعد الخلفيِّ للسَّيارة الجّيب ذات اللون الأسود كسواد الأيام القادمة كما يبدو. أجلسوني بقرب جُثَّتين محفوظتين بداخل أكياس سميكة. كانت الروائح النتنة تفوح في أرجاء السَّيارة. هلعت وكنت أتحاشى نظراتهم التي تفيض بالغضب وكأنهم يتوعّدوني بوجبة دسمة من الضرب المبرح.بينما كانت السيارة في طريقها إلى جهة غير معلومة، سرحت بأفكاري لأُمِّي المسكينة بعد غيابي وهي في سن الخمسين وضعيفة البُنية ونحيفة الجسد وعنيدة في قراراتها، توقَّفَتْ عن الأكل والشرب عندما مرضت أختي الصغيرة سارة، فما بالك وغياب ابنها البكر، أنا خائِف عليها …بعد أن وصلنا إلى مبنى قديم، عصَّبوا عينيَّ بقطعة قماش ووضعوا القيد في يدي من الخلف، ثُمَّ ألصقوا وجهي في الحائط البارد. لا أعرف كم ساعة بقيت على هذا الوضع، فقد توقّفَ الزَّمن عندي ولم أستطع أن أُمَيّز إن كنا ليلاً أم نهارًا.كان يتناهى إلى سمعي أصوات المعتقلين الخاضعين لعمليّة التعذيب الوحشيّ، وكنت أغرق في الرعب والهلع. فقلت في نفسي مخاطبًا ربي:أخلقتنا يا ربّ لأجل أن نتعذب؟! ولماذا التفرقة بين عبيدك؟! ألم تقل بأننا سواء عندك؟! فلماذا التمييز؟! ألم تقل في الكتاب بأنّك عادل؟! فأين العدالة ونحن نتعرّض لهذا العذاب الدنيوي؟!في تلك اللحظة فُتِحَ الباب بقوَّة، وأزالوا قطعة القماش من على عيني. تمعَّنت في وجهه، كان يبدو لي بأنَّه هو المسؤول عن فرقة التعذيب من طريقة لباسه وضخامة جسمه. سألت نفسي: أين رأيت هذا الوجه من قبل؟! لا أعلم.قال لي بدون مُقدِّمات: اعترف وسنعفي عنك.لا أعرف ماذا تقصد.لن يجديك الكتمان. أنت متورّط في قضيّةٍ سياسيّةٍ أهون أحكامها السّجن المؤبَّد أو الإعدام.ليس لي علاقة بما تقولونه، فأنا شابٌّ مُسالم ولا شأن لي بالسياسة.نملك معلومات تظهر مشاركتك المستمرة في الأنشطة الثقافيّة، وقراءاتك للكتب الوجوديّة الفلسفيّة، ولدينا عيّنة من هذه الكتب الماركسيّة التي وجدناها في منزلك.-أنت أمامك خياران ….إمّا أحطّم هذا الهيكل الضعيف وأمزّقه قطعةً قطعةً بقدر تحطيم مستقبلك.وإمّا أن ……….رفضتُ كُلّ الاتّهامات، وظلَّ الصَّمت هو سيِّد المَوقف، لكنَّ المُحقِّق لم يُعجبه ذلك، فصرخ بأعلى صوته: اضربوه حتّى يعترف.وانهالوا عليّ ضربًا وأنا أتقلّب أمامهم كنعجةٍ تُذبح على المِقصلة. كانت العِصيُّ تحفر ظهري وتُوثّق إساءتهم. كان صراخي يعلو، ولكنَّ صوت العِصيِّ أعلى من كُلِّ صوت.قلتُ حينها في نفسي:لو قطّعتموني قطعةً قطعةً، ومزَّقتموني إرَبًا إرَبًا ما نلتم منّي.كنتُ أسمع تهكمهم وضحكاتهم وكأنهم قرأوا أفكاري. واستمرت الحفلة حتّى فقدت وعيي من شدّة الإعياء والألم.فتحتُ عينيَّ المنتفختين على صوت أقدام رجال الأمن، فصرختُ بهلع:لا. ..لا .. لا تضربوني، معتقدًا بأن الجولة الثانية من التعذيب ستبدأ. ثم انتبهت إلى نقش صغير مكتوب على الجدار يقول: (أعطني حُريّتي)، فشعرت ببعض المُواساة وحاولت النّهوض للذهاب إلى الخلاء، ولكني كنتُ عاجزًا عن الحركة، فطلبتُ المساعدة. كان أمرًا مهينًا وفي غاية الإذلال، لكنّ تلك العبارة المحفورة على الجدار حُفِرت في عقلي ووجداني، فنهضتُ بالتدريج.أثناء ذهابي إلى الخلاء، دار بيني وبين الشّرطيّ مجيد حوار بسيط قطعنا به المسافة. مجيد شرطيٌّ خلوق ومرح. سألته:-هل سأمكث هنا طويلا؟- بلغة متكسّرة أجابني: في نفر سجن عشر سنوات، و في نفر سجن مُؤبّد، انت إن شاء الله عقوبة خفيفة. ⁠فشكرته بالرّغم من أنّ جوابه هذا شدّ روّعني وزاد من قلقيوعندما رجعت قدّموا لي وسادة و بطانية لأفترشها على أرض الزنزانة الباردة .كان النّهار طويلاً جدًّا والزّمن أكثر بُطئًا، كنتُ أسلّي نفسي بالأغاني العراقية القديمة التي عشقتها منذ طفولتي ..عدوان عدو الشوكباهدر هموممن عمري سبع سنينوقليبي مهموموأحيانًا أردّد القصائد الشّعرية العراقيّة …سبحانك كلإلا شياء رضيتبها إلا الذلوان يوضع قلبي في قفص في بيت السلطانوقنعت…….وكنتُ أرفع صوتي عندما أغنّي أو أنشد الشّعر لأُسْمِعَ بها آذان المعتقلين في الزّنازين البعيدة.وفي المساء عندما تطفَأُ الأنوار، كنت أستلقي مُفترِشًا البطّانية، أتلوّى من فرط الألم والبرد، أصارع أفكاري. في تلك اللحظة، تذكّرت أين التقيت بالمُحقّق. قفز وجهه في ذاكرتي، كان معي في الصفِّ السّادس الابتدائيّ. كان تلميذًا مُشاغِبًا، بليدًا، يتميّز بضخامته وعنفه. كان منبوذًا لسوء أخلاقه لدى الجميع ويصرّ دائِمًا على افتعال المشاكل بين الطلبة.كيفَ وصل هذا الغبيّ إلى هذا المنصب الحسّاس؟! كان هذا السؤال يضجّ في رأسي .في تلك الليلة لم أستطع النّوم؛ بسبب هذه الحقيقة؛ وبسبب الروائح الكريهة وأصوات المعتقلين في غرف التعذيب. في الليل يتحوّل المكان إلى غابة وحوش. أسمع أنينهم وكأني أعيش اللحظة معهم.هامت بي الذّاكرة إلى طفولتي البريئة، عندما كُنّا نواجه أطفال الحيّ المُجاور برميّ الحجارة عليهم، وهم يفعلون المِثْل بمرح وشقاوة. في إحدى المرّات رماني أحدهم بحجر فأصابني في جبهتي وكنتُ أنزف. بكيتُ من الألم وما إن وصلت المنزل حتّى استقبلني أخي الأكبر بالضرب المُبرح، ومنذ ذلك اليوم بقي هذا الألم عالِقًا في ذهني وقد أيقظته أنّات المعتقلين.بقيتُ في الزنزانة ثلاثةَ أسابيع وكأنّها ثلاثة أعوام، اقتصرت علاقتي مع أفراد الشّرطة الطيّبين.الوحدة في الزنزانة والاختلاء مع النفس علّمتني كيف أواجه صراعي مع عقلي الباطني، الذي يخاطبني بالتخلّي عن مبادئي، فأنا ضعيف البُنية، لا أتحمّل تعذيبهم، والأفضل لي أن استمتع بعالم مملوء بالورود وسُرعان ما أتراجع عن ذلك وأقول: إذا لم أغزل النسيج، فمن سيخيط القمصان للربيع؟!كانَتْ الليالي الأخيرة من المُعتقل، مليئة بالأحلام المُروِّعة. رأيتُ أمّي تبكي تارة وتُزغرِدُ تارة أخرى، وفجأة ظهر ثلاثة مُلثّمين، وضعوا حبل المشنقة حول رقبتي، ولكنّها انقطعت واستطعتُ الهروب وظلّوا يلاحقونني للنّيل منّي وأنا أحاول أن أجري ولكنّ رجليّ لا تسعفانني وكأنّهما مُثبّتتان بمسمار في الأرض وأنا أصرخ، أطلب من يساعدني، وفجأة تحوّل المُلثّمون إلى أقزام. فزعت من ذلك الحلم، وقلت في نفسي: لعلَّ ذلك خير.وفي منتصف النهار جاءني المُحقّق مُنادِيًا اسمي، فقلتُ في نفسي: استعد للجولة الثانية من التعذيب .لكنّه صدمني بخبر الإفراج، لم أكن أتوقّع ذلك فقلت له:الوداع، وأتمنى ألا أراكم مرّة أخرى.- أتعرف تهمتك؟- لم أعرفها بعد.- أرادوا توريطك في قضيّة سياسيّة، ثُمّ قرّروا بأنّك لست الشخص المناسب .- المُهمّ إنّي الآن حرٌّ طليق.قلتُ في نفسي وأنا أخرج من باب المَبنى: يا لسخرية القدر، تُعطى المناصب لمَن لا يستحقها، ‏حتّى تُقرّر مصيرك.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا