يدهش المرء حقاً كيف نجلس هادئين مطمئنين، ونتداول أحلى الكلام الذى يطرب الأسماع، ونطرح الوعود بلا حساب، ونعلن عن خطط واستراتيجيات تُبشر بالمستقبل الواعد، وتحتنا جميعاً ذلك اللغم الكبير والمؤرق الذى اسمه ” البطالة”. لنقرّ حقيقة أنه لم يعد هناك حاجة لمزيد من الشرح فى شأن هذا الملف الذى أصبح يزخر بالكثير من الكلام المكرر، وحقيقة أخرى هى أننا لا نعرف حتى الآن متى سنغادر نقطة الصفر ونتخطى المراوحة ونتجاوز الكمّ الكبير من التصريحات والعناوين المحاطة بعلامات استفهام محشورة فى زوايا الاستحقاقات المؤجلة ذات الصلة بهذا الملف، وهو الأمر الذى أبقانا نراوح فى دائرة هذه التصريحات والعناوين التى تتكرر على مسامعنا بمناسبة وبدون مناسبة متجاهلين الأسباب الحقيقية والحلول الجذرية، وكأننا عاجزين عن التعامل الأمثل والالتزام الصارم للمعالجات الحاسمة المطلوبة التى تخرجنا من دائرة المراوحة، وتنهى منظومة الشعارات البراقة التى تطرح بجودة وإتقان ومحصلتها النهائية معروفة لدى الجميع. لا نتحدث هنا عن أحوال الاقتصاد والمجتمع والناس فذلك أمر آخر، ولا عن كمّ الخطط والبرامج التى أعلن عنها وبشرتنا بالخير الوفير، بل نقف تحديداً ومجدداً أمام الملف المذكور، ولكن هذه المرة من باب العناوين التى وجدناها منشورة فى صحفنا المحلية فى أكثر من مناسبة على لسان مسؤولين ونواب واقتصاديين واصحاب أعمال، نشير إليها لأننا لم نجد فى التعبير عن مرادنا أبلغ وأوجز منها، فهى ودون الدخول فى التفاصيل كافية لأن نستخلص منها حجم المراوحة فى التعاطى مع الملف، أو على وجه الدقة مشكلة البطالة التى تبعث إلينا إشارات مقلقة ومؤرقة ومعقدة ومتشابكة وكثيرة الأوجه ومثيرة لهواجس لاتتوقف ولا حدود لها والتى تتدفق وتتعاظم حين نجد إلى أي مدى أن الكلام مختلف بل مقلوب عن الفعل، وعن الشعار والتطبيق، عن الالتزام واللا التزام حيال المعالجات الحصيفة اللازمة التى تنهى معاناتنا من هذه المشكلة، وتحرك وجدان الجميع من خلال إرادة ومواقف وقرارات تشعرنا بأن عهد المراوحات قد انتهى، وأن أي جهود طيبة تبذل باتجاه المعالجات الصحيحة لن تذهب أدراج الرياح.تعالوا نتوقف أولاً أمام عينات من عناوين لتصريحات ذات صلة بملف البطالة، وتوظيف البحرينين، والتوازن واستقرار سوق العمل، وما أكثرها بدءاً من الأقدم إلى الأحدث منها، ونبدأ بما نشر على ضوء النقاش الذى دار تحت قبة مجلس النواب فى الجلسة التى ناقشت 22 توصية من مخرجات لجنة التحقيق البرلمانية فى عقود التوظيف التى عقدت فى 25 ديسمبر 2024، مجرد عناوين والتفاصيل يمكن الرجوع إليها فى أي وقت، وفيما يلى عينة من العناوين:- مهارات التوظيف” منصة لجعل البحرينى الخيار الأمثل فى سوق العمل.- الوفد الحكومي يؤكد: جعل المواطن الخيار الأول فى التوظيف رغبة مشتركة. – وزير شؤون الكهرباء: تثبيت عدد من موظفي العقود المؤقتة. – النائب جلال كاظم: ملف الاستقرار الوظيفي مؤرق وتوريد العمالة الأجنبية “خطير. – النائب الرفاعي: ندعو بأن يكون البحريني هو الخيار “الأوحد” وليس الخيار الأول.- بحرينيون يبحثون عن شواغر فى الحراسات وشركات خاصة لا توظف البحرينيين وتتجه للأجانب. – النائب ممدوح الصالح يطالب الخدمة المدنية بتصحيح أوضاع 100 من موظفي الأوقاف الجعفرية، والنائب العشيري: كيف يكون هناك موظف مؤقت لمدة 15 سنة ..؟!- مطالبات نيابية بوضع خطة شاملة لتقليل الاعتماد على العقود المؤقتة وتوريد القوى العاملة، وبضرورة تقييم تجربة التعاقد الخارجى وتوريد العمالة.- الوفد الحكومي يؤكد: جعل المواطن الخيار الأول فى التوظيف رغبة مشتركة، ووزير العمل بالوكالة: حرص حكومي بدراسة وتدقيق عقود توريد العمالة بشكل دورى، وتنسيق حكومى تام مع “تمكين” بهدف تأهيل البحرينيين لسوق العمل ..!- 50 جهة حكومية تأخرت فى الردود على استفسارات وتساؤلات لجنة التحقيق البرلمانية.يمكن أن نتوقف أمام دفعة أخرى من العناوين التى وجدناها منشورة مع تفاصيلها فى صحفنا المحلية فى نفس تلك الفترة تقريباً على ضوء اجتماعات مشتركة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لمناقشة المشاريع والمبادرات الهادفة إلى بحث المبادرات الهادفة إلى جعل المواطن أولوية وطنية لخدمة التوجهات المستقبلية، وكيف كان الجانب الحكومي يؤكد على أن العمل متواصل لطرح المزيد من المبادرات النوعية لدعم المواطن، ووجدنا رئيس مجلس النواب فى أحد تلك الاجتماعات يدعو إلى تحفيز القطاع الخاص لزيادة توظيف العنصر البحريني. (الصحف المحلية 15 يناير 2025)تلا ذلك عناوين عبرت عن نفس المضامين التى لا تجعلنا نتخلص من الذهول والدهشة من نوع: “غرفة التجارة تتحفظ على بحرنة الوظائف”، و”ديوان الخدمة المدنية يدعو إلى مراعاة تدريب البحرينيين لشغل الوظائف، وتوظيف الأجانب بناء على طلبات الجهات الحكومية”، إلى جانب عناوين مثل “17402 باحث عن عمل حتى نهاية 2024″، “93% من الباحثين عن عمل لم يسبق لهم العمل أو يقل عملهم السابق عن سنة”، إلى جانب عنوان يقول “2692 مستفيداً من برنامج “فرص” منهم 65% من خريجي بكالوريوس وأعلى”، و”تشريعية النواب تقرّ اقتراحاً لحصر الوظائف التى يشغلها الأجانب فى القطاعين العام والخاص والتى لا تتطلب مؤهلات جامعية لإحلال المواطنين خلال مدة لاتتجاوز خمس سنوات وجهاز الخدمة المدنية يتحفظ” (الصحف المحلية 22 مارس 2025)، كما قرأنا فى الصحف عناوين بارزة تبشرنا بأن مجلس الشورى ناقش أولوية توظيف البحرينيين بالقطاع الخاص التعليمي من خلال مشروع قانون يهدف إلى إعطاء الأولوية لتوظيف البحرينيين الحاصلين على المؤهلات اللازمة لشغل الوظائف التعليمية والتدريبية فى القطاع الخاص، وذلك بسبب أعداد الخريجين الباحثين عن الوظائف التعليمية فى القطاع العام. (الصحف المحلية بتاريخ 4 مايو 2025)نأتى إلى مناسبة يوم العمال العالمي التى جعلتنا مرة أخرى أمام تصريحات أطلقت لم تشعرنا لا من قريب أو بعيد أننا اصبحنا قاب قوسين أو أدنى من جدية غير مسبوقة، أو تحولات مفاجئة، أو سيناريوهات غير متوقعة تنبئنا بأننا باتجاه إنهاء عصر المراوحات التى تواجهنا حتى الآن فى ملف البطالة، وإزالة لغم البطالة، فالمتابع الدقيق لما طرح فى هذه المناسبة سيصل إلى نتيجة هى أننا لازلنا أمام حالة من الإصرار الغريب فى تبديد طاقاتنا فى المراوحات وإثبات البديهيات، تصريحات من نوع “الخطة الوطنية لسوق العمل للأعوام 2023- 2026 تستهدف خلق الفرص النوعية للمواطنين”، و”الإعلان عن مبادرة استراتيجية لتأهيل الشباب”، و”مطالبات بوضع البحرينى فى قلب عملية الانتاج الوطنية”، و”دعوة إلى إطلاق خطة وطنية متكاملة لإحلال العمالة الوطنية”، و”اليد البحرينية أولى”، وتعزيز البيئة الاستثمارية لتوليد الوظائف الجديدة”، أما أحدث العناوين التى استطعنا أن نلاحقها حتى كتابة هذا المقال فهى تلك التى صدرت من أعضاء بمجلس الشورى ومنها: “د.السلمان: أولوية البحرنة واجب وطنى”، و”العرادي: كي لا تكون البحرنة مجرد أمنية “، و”الزايد: أين الجزاءات لغير الملتزمين بأولوية البحرينى؟”، وعنوان آخر نصه “اقتراح شوري بفرض عقوبة على المدارس الخاصة التى لا تمنح أولوية التوظيف للبحريني”، ولعل النائب الأول لمجلس الشورى جمال فخرو اختزل المطلب الملح لما يحتاجه ملف البحرنة ليس فى مجال التعليم الخاص فقط بل فى كل المجالات حين قال “إن مشروع القانون بخصوص أولوية التوظيف للبحرينيين لن يغير شيئاً إذا لم تكن هناك إرادة من الجهات المعنية”، وما تلك العناوين إلا غيض من فيض لعناوين مماثلة أو مشابهة نشرت طيلة سنوات مضت وحتى الآن، وكلّها تقريباً تحمل نفس المعاني والوعود التى تصبّ فى دائرة المراوحة المعتادة. إن مشكلة البطالة تتفاقم وتأخذ أبعاداً لم تؤخذ بعين الجدية المطلوبة واللازمة، وهذا يستوجب من جهات عديدة المراجعة والتشخيص المسؤول، المقترن بإرادة الانتقال بهذا الملف من حال المراوحة إلى حال الأمل والانفراج المرتكزيّن على المواجهة الشجاعة، وعلى كل الأطراف المسؤولة تحمّل كامل مسؤولياتها فى الانتقال إلى منعطف جديد فى التعامل مع الملف والتوصل إلى معالجات حصيفة ومسؤولة تدخل الارتياح والثقة والتفاؤل إلى النفوس، بروح ينفخها نافخ في موقع القرار تبرهن على أن هناك إرادة وعزم تنقل هذا الملف برمته وأساسه إلى منعطف جديد غير تقليدى، لا أن تجعلنا وكأننا وصلنا إلى تيه لا يظهر أفق للخروج منه، أو تبقينا نشعر بأننا أمام ملف “الطاسة فيه ضائعة”، والسبب سياسات أو مصالح أو مهادنات أو ارادة غائبة، وهنا تكمن المشكلة الجوهرية التى تواجه مجتمعنا، والتي تجعلنا مع هدف البحرنة ونقيضه فى نفس الوقت، نتفق على المبدأ ونختلف حول التفاصل، فهل يخفى هذا الامر على ذوى الفطنة؟نحن إزاء ملف وطني عام لا بد من سرعة حسمه، وإلا فإن سيف الاتهام سيكون مشهراً على كل الرقاب، وستظل المسؤولية تلاحق الجميع بدون استثناء، من المعنيين بواقع هذا الحال المحبط والمقلق والخطير، ومعهم كل من بمقدوره أن تكون له مساهمة إيجابية بشكل أو بآخر تجعلنا نقتنع، أن هناك من يدفع ضمناً وعلناً فى تحريك هذا الملف المعطل الذى ندرك أنه مكبل لاعتبارات وحسابات ومصالح تبقيه فى دائرة الجمود الراهن، خاصة فى ظل تفاقم أعداد العاطلين من المواطنين، ومنهم خريجين وأصحاب تخصصات تتوافق مع متطلبات سوق العمل، ويضاف إلى تلك المخاوف ما يتصل بالمتغيرات التى بدأ المجتمع البحرينى يعانى منها والتى لم تخضع لدراسة معمقة تكشف كل المخفي خلف الستار.كونوا جادين، فى منتهى الجدية والحزم والمسؤولية تجاه هذا الملف، ولا تستهينوا بخطورته، ولا تلجأوا للمسكنات الوقتية أو الترقيعية التى لا تعالج المشكلات من جذورها، ولا تفتشوا عن المبررات التى توفر باباً خلفياً للفرار من المسؤولية مثل ذريعة أن اقتصادنا حرّ لا يفرض قيوداً على المستثمرين وخياراتهم، إلى آخر التبريرات البعيدة عن الفعل الصائب والقرار الحكيم، باختصار لا تجعلوا الكلام هو الفعل، توقفوا عن فعل كل ذلك، وإلا تخلّوا عن مسؤولياتكم.