مسلسل لعبة الحبار واقعٌ متخيّل .. خيالٌ واقعي

0
3

مَن شاهدَ المسلسل الكوري “لعبة الحبار” في جزأيه لن تفوته الفكرة الأساسية للعمل الذي يتحمور حول قضية من أهم القضايا الإشكالية في العصر الحديث وهي: استغلال البشر بجعل ذواتهم أداةً قابلة للتسويق من أجل صناعة مجتمعات أكثر استهلاكية ثم إغراقهم في الديون التي يستحيل عليهم سدادها مدى الحياة عبر تفعيل حلم التملّك. تكمن المفارقة (بارادوكس) التي يقدمها العمل بين جدلية الأخلاق البشرية النابعة من الضمير القائمة على التراحم، مقابل أخلاق السوق النابعة من تشييء الإنسان والطبيعة القائمة على القيمة النفعية وفكرة التعاقد (يشير المسيري الى مفهوم التعاقد الذي يعني به أن تتحول العلاقات البشرية من تراحمية الى عقود شبيهة بالعقود التجارية).صنعتْ الرأسماليةُ/الإمبرياليةُ باتحادهما النيوليبراليةَ التي هي أساساً نظامٌ سياسـ/اقتصادي نفعي الغايةُ فيه تبرر كل الوسائل من أجل مصالح طبقةٍ أو فئة أو مجموعة تستحوذ على الثروات العامة وتسيطر على الموارد الطبيعية. كل شيء سيتمحور حول المال حتى أغلى شيء لدى الإنسان؛ حياتُه. وهذه الأموال ستكون محصورةً في فئة قليلة من أصحاب الإمتياز بينما الأغلبية الساحقة تتصارع على القليل المتبقي، فتتنافس الفئات المسحوقة على الفُتات فيما بينها. يغيب العدل ويغيب الحد الأدنى من توزيع الثروات بالعدل بين فئات المجتمع وطبقاته، يزداد الفقير فقراً والثري ثراءً والتنافس حِدّةً، تصل الذروة الى جعل الانسان مادة للاستعمال والاستغلال بل وحتى اللعب والتسلية كما هو الأمر في لعبة الحبار…في الموسم الأول من المسلسل كان المشاركون يجهلون خفايا اللعبة وأهدافها الحقيقية وكانوا مبهورين جداً بالجائزة الماليةِ الضخمة التي سيتحصل عليها أحدهم وهو الفائزُ الذي تمكّنَ من تجاوز كل منافسيه بطريقة أو بأُخرى. أما في الموسم الثاني يعود الفائز ليشترك مضطراً، حيث يقرر دخول اللعبة (الجحيم) بتحدٍّ وإصرار لكشف القائمين على هذه اللعبة الشريرة الدموية وكشف الأهداف اللا إنسانية فيها للمشاركين والقضاء على العقل المدبر؛ الشخصية التي تستهتر بالأرواح عبر الاستغلال والمقامرة بحياة البشر.داخل اللعبة كان “سيونغ جي هون” (بطل المسلسل) بمثابة المصلِح الذي يظهر في مجتمع يسير وفق إغراءاتِ لاوعيِهِ الجمعي بين حياة بائسةٍ وديون ضخمة وجبلٍ من الأموال للفائز. هنا تبرز الأنانية الفردية، فالفائز شخص واحد فقط عليه أن يتخلص من جميع منافسيه وإلا صار هو الضحية، وهذه واحدة من الأهداف الأساسية للعبة؛ أن يقضي المتسابقون على بعضهم أو على أكبر عدد منهم في سبيل الجائزة أو المنفعة الشخصية القصوى. يحاول سيونغ يائساً توعيةَ المتسابقين بأهداف اللعبة وحثهم على تركها والمغادرة، لكنَّ الوضع يزداد صعوبة كلما احتدمت المنافسة. يدركُ مصممّوا اللعبة ألّا يمكن للبشر التخلي عن أطماعهم في الثراء الذي تغذية خيالاتهم، الطمع النابع من حب الذات وحب التملك -وهي غريزة بشرية متأصّلة- واستحالة العيش وفق ديون متراكمة في نظام اقتصادي رأسمالي تعاقدي؛ والمحصلة أنهم أمامَ أمرين إما الفوز/الحياة أو الخسارة/الموت، موتهم جميعاً ونجاة واحدٍ منهم فقط، تشبه الى حد كبير لعبة الحياة العصية على الفهم لعبة البقاء!ثم~ة رمزية مهمة في الإقتراع المحايد الذي صنعه منشؤوا اللعبة (كوسيلة أخرى للخداع وللسيطرة على الفوضى) وكأنَّ قرار البقاء والإنساحب تحدده الأكثرية التي تم التأثير عليها نفسياً ومعنوياً وتم إغراؤها بالجائزة المعلقة فوق رؤوسهم. يمثل هذا التصويت شكلاً من أشكال البراغماتية الديموقراطية، فالمعيار الوحيد للحُكم على أي شيء وفق الرؤية البراغماتية هو “النجاح” المتمثل بالفوز بالجائزة الكبرى؛ مراكمة أكبر رقم ممكن من الأموال والممتلكات والشُهرة، والتغاضي عن التراكيب المعقدة التي تشكل الإنسان من ذكريات ووجدان وأحاسيس وإرث، يرى د.ع.المسيري أن الحقيقة المقبولة في مثل هذه الأنظمة هي الحقيقة السائدة أو التي تُسهِّل التعامل مع الواقع كما هو وليس كما ينبغي أن يكون، وهي بذلك مع ديموقراطيتها رؤية محافظة بل رجعية. أما الطرف المقابل الذي يريد الخروج على/مِن اللعبة يمثل الرؤية الثورية التي تطرح تصوراً جديداً للواقع مخالفاً للوضع القائم، ويرى المسيري أن المنطق الثوري تقدمي لأنه يفترض وجود تناقض جدلي بين الوضع الكائن بما فيه من سوء وبين ما ينبغي أن يكون، “فالقديم يحتوي جرثومةَ فَنائهِ التي هي نفسها بِذرةُ الميلاد الجديد، والعقل الإنساني الواعي الخلّاق يحتوي الواقع والأشياء ويتخطاها.” (د.ع.المسيري / رحلتي الفكرية ص427/ دار الشروق).تعدّ دول الشرق الأقصى الآسيوية ربما من أكثر الدول تأثراً بنمط الحياة على طريقة الليبرالية الجديدة، ما يشكل حالةً سلبية شديدة لاختلاف الثقافة الشرقية عن هذا النمط الحياتي الآلي، فترى الشخص الياباني مثلاً يقضي معظم حياته في العمل ويعيش وفق إطارٍ تنافسي حاد في كل مجالات الحياة ومن أبرزها العمل، الكل يريد أن يتفوق على الآخر بأي طريقة كانت واللاوعي يسرّع حركة السوق الى حدودها القصوى وزيادة ماينتجه العامل مما لايسفيد منه أو مما لايستهلكه، كل ذلك يزيد من غُربة العامل عمّا يُنتج من عمل. تجد الكثيرين منهم يخرج من العمل مرهقاً جداً بعد يومِ عملٍ طويل يستمر من الصباح الباكر حتى أوقاتٍ متأخرة من الليل لدرجةِ أنهم ينامون في محطات القطار والشوارع لشدَّة الإعياء ولفرط السُكر، وازدياد حالات الإنتحار بأرقام قياسية بين الشباب والمراهقين أحد الإشارات الخطيرة لحالة الإغتراب والبؤس المنعوي والقلق النفسي الناتج عن شدّة المنافسة وازدياد وتيرة سرعة الحياة اليومية.أعمال مثل “لعبة الحبار” رائعة من ناحية الإنتاج والإخراج و طابع الإثارة والتشويق إضافة الى أن القصة ليست تشويقيّة وحسب، بل تحتوي فوق ذلك على جوانب وإشكاليات غاية في الأهمية تحتاج الى تحليل وقراءة لمابين السطور واستكشاف الثمين المخفي في أحداثها وتلميحاتها ونحن نحاول أن نحلّل مايمكننا فهمه. صراحةً أبهرني هذا العمل جداً لكني لم أرتح للجانب الدموي المبالغ فيه في الكثير من المشاهد. عمل فانتازي درامي بامتياز في فكرته وواقعي في معانيه. بعدَ كلِّ عملٍ من هذا النوع نسأل أنفسنا سؤالاً: من هو الذي يمكنه أن يحمي الإنسان من أخلاقيات السوق القائمة على المنفعة المادية اللامحدودة وغريزة القوة الشرسة التي تزيح الضمير والأخلاق عن طريقها وتسليع القيَم والبشر!من الذي سينقذ الإنسان من نفسه! لعلنا نقتنصُ إجابةً ما في موسم المسلسل الثالث…!

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا