هناك حادثة مثيرة للاهتمام ذكرها ذات مرة “فضل النقيب” صديق غسان كنفاني المقرب، جرت وقائعها في دمشق في بداية صيف عام 1959، تتلخص في طلب “الحكم دروزة” (أحد قادة حركة القوميين العرب آنذاك) الاجتماع مع النقيب وكنفاني، حيث أبلغهم “بأن اللجنة الثقافية في الحركة قد قررت تكليفهما بكتابة مجموعة من القصص القصيرة كي يتمّ طبعها في كتاب يتمّ توزيعه بشكل واسع وخصوصا في المخيمات الفلسطينية.” أنهى كنفاني كتابة ستة قصص خلال بضعة أسابيع، بينما استغرق الأمر مع النقيب بضعة شهور لينجز المهمة. نستخلص من هذه الحادثة دلالتين: أولاً وعي الحركة المبكر بأهمية القصة القصيرة كسلاح ثقافي للمقاومة، وثانيا أن الجمهور المعني هو جمهور مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بالدرجة الأولى. بعد بضع سنوات، في إبريل 1965 أنهى كنفاني كتابة سلسلة من القصص القصيرة على صيغة مشاهد ولوحات مستوحية من كفاح الشعب الفلسطيني إبان نكبة 1948، ولاحقاً بعد نكسة 1967، كتب مشاهد إضافية مستوحاة من حياة المخيمات. نشرت تلك المجموعة من القصص القصيرة لاحقاً تحت عنوان “عن الرجال والبنادق” .إدراك هذه الحقائق مسألة مهمة، لأنها تمنح سياقاً مناسباً، بإعتقادي، لفهم لغة وأسلوب تلك القصص القصيرة، البسيطة في حبكتها، ولكن العميقة في دلالاتها الإنسانية. جمهور قرّاء كنفاني الأساسي كان جماهير مخيمات اللاجئين في مختلف أماكن الشتات الفلسطيني، وكانت تلك القصص بمثابة ” سلاحٍ” ذي أثر مهم في رفع الوعي النضالي، وإذكاء شعلة الأمل لديهم، خاصة وأن غالبيتهم كانوا شهود عيان على أهوال نكبة 1948، ويعرفون جيداً أحداث تلك الحقبة بتفاصيلها وشخصياتها، وحين كتب كنفاني قصصه تلك لهم، لم يتساهل في أسلوبها الفني، كما لم يبالغ في وصف وقائعها بحماسٍ مبالغ فيه على غرار أفلام الإثارة الحربية. ما يجذبنا إلى قصصه تلك طبيعة الشخصيات التي تتضمنها. الكاتب والناقد الراحل إحسان عباس أورد ملاحظة ثاقبة في كتاب “غسان كنفاني إنساناً وأديباً ومناضلاً” بقوله: “من يقرأ قصص غسان يدرك دون عناء أن اشخاصه من أبناء الشعب البسطاء، وكثير منهم أطفال أو شبّان يعملون بدافع من صدق الفطرة، دون أن يبلغوا سن “الحكمة” وليس فيهم من يحاول أن يفلسف الدور الذي يؤديه أو الغاية التي يسعى اليها. فمنهم من يضحي بحياته دون أن تمرّ بخاطره “لمَ”؟ ومنهم من يتحمل عبء العائلة الكبيرة التي خلفها له أبوه والتشرد معا دون أن يتذمر، ومع ذلك فإنهم في هذه المواقف ليسوا سلبيين، كما أنهم ليسوا أطهاراً كالملائكة، فهم يتقاتلون على احتياز بندقية، أو يدفعهم الفقر إلى الشجار على تفاحة تعفن معظمها.” تجدر ملاحظة أن كنفاني لم يقارب مسألة السلاح ودوره في الكفاح ضد المحتلين الصهاينة بوصفه ولعاً وهوساً بالعنف لمجرد العنف، بل بما تعكسه العلاقة مع السلاح من خصال ثورية للفدائيين، مثل الإرادة الصلبة، والعزيمة والإيمان بعدالة القضية التي يناضلون من أجلها. لذلك فإنّ ما يشكل بؤرة إهتمام كنفاني في قصصه القصيرة، هو طبيعة الخصال البشرية المرتبطة بمن يحملون السلاح من الفدائيين و المقاومين. وكما لاحظ بحق الكاتب الفلسطيني خالد بركات فإن كنفاني “نظر إلى السلاح بإعتباره كومة حديد لا قيمة لها، ما لم يلازمها الوعي والإرادة والرؤية وتحديد الهدف الصحيح”. في “الرجال والبنادق” صوّر كنفاني بأسلوب رشيق سلوك ثلاث شخصيات: “منصور” – شاب في السابعة عشر من عمره – وأخيه الكبير الدكتور “قاسم” العائد للتو من دراسة الطب في بيروت والمقيم في حيفا (مخالفاً رغبة والده الذي كان يأمل بأن يفتح إبنه الأكبر عيادة في مجد الكروم في الجليل ليعالج الفلاحين)، وأبو القاسم الأب الصارم ولكن ذي الإحساس العال بالمسؤولية والواجب تجاه أسرته ووطنه. تدور الأحداث حول معركة صفد إبان نكبة 1948، وحماس “منصور” لنجدة المقاتلين الذين حوصروا هناك، مقابل إنغماس الدكتور “قاسم” في حياة فاسدة مع “إيفا” اليهودية في حيفا. لا يوجد في القصص تنظير لضرورة الكفاح المسلح ومبرراته الفكرية والسياسية: منصور يهرع إلى موقع المعركة بحس الفطرة السليمة لنجدة المقاتلين، والأب ينضمّ للقتال في نهاية القصة ويستشهد في ختام إحدى المعارك. في المقابل يوجه كنفاني سهام السخرية والنقد لشخصية الدكتور “قاسم” كنموذج للمثقف الانتهازي الذي لا يهتمّ إلا بمصلحته الخاصة وبملذاته، ويتخلى عن أسرته وقريته ووطنه. وبمعنى من المعاني فإن كنفاني يقول: التعليم لا يصنع أناساً وطنيين بالضرورة، وأن الأخ الكبير لا يكون دائما أفضل حكمة من الأخ الصغير، وهو بذلك يحاجج ضد أحكام سائدة في زمنه وزمننا أيضاً. وبمعنى آخر أيضا يمكننا قراءة “عن الرجال والبنادق” بوصفها لوحات عن المعدن الأخلاقي للرجال الذين قاتلوا بالبنادق. بالطبع لم تقتصر معالجة ثيمة الكفاح المسلح على لوحات “عن الرجال والبنادق”، بل سنجدها في مختلف قصصه القصيرة التي كتبها في الخمسينات والستينات، والتي يمكننا الاشارة إلى خمس قصص منها على سبيل المثال لا الحصر. في قصة “إلى أن نعود” التي كتبها في دمشق 1957، نرى وصفاً لحالة فدائي، يقطع صحراء النقب وسط لهيب الصحراء متجها في عملية فدائية إلى قريته المحتلة، حيث تتداعى إلى ذاكرته وقائع مجزرة إرتكبها الصهاينة عندما اقتحموا مزرعته وقتلوا زوجته. فيملأ الغضب كل كيانه ويمنحه طاقة لاتنضب لمواصلة القتال مما يثير دهشة قائده الذي يسأله: “إلى متى تحسب أنك تستطيع أن تواصل على هذه الصورة؟ قال وهو يسند رأسه على كيس المتفجرات: “إلى أن نعود…”. تطرح القصة مبررات وأفق الكفاح المسلح من منظور الفدائيين وقدرتهم على المثابرة في النضال. أما قصة “شئ لا يذهب” التي كتبها غسان كنفاني في دمشق أيضاً في عام 1958، فهي مستوحاة من ذاكرة الراوي عن الشابة “ليلى” التي قاومت الإحتلال الصهيوني ببسالة، وكانت “تتعذب في سبيل أن تفهمني أن حياتنا ليست شيئا…وأنها تبلغ ذروة قيمتها لو قدمت من أجل سعادة آلاف غيرنا..” وكانت مغرمة بمقطع شعري ينسب لعمر الخيام: “آه أيّها الحب…لو أستطيع أنا وأنت أن نتفق مع القدر…كي ندمّر هذا الطابع الوحيد للعالم…إلى قطع صغيرة…ثم نعيد بناءه من جديد…كما تشتهي قلوبنا…”. وفي قصة “المدفع” كتبها في دمشق 1957، نرى غسان يعالج شخصية الفدائي كما تجسدت في “سعيد الحمضوني”، الذي وصف ملامحه وكأنّها منحوتة فنية نموذجية لوجه الفلاح الصلب: “وجهه المربع يعترضه حاجبان يتصلان ببعضهما بأخدود يعين طرف أنفه العلوي وأنفه المفلطح تدور بأسفله دائرتان واسعتان فوق شارب رمادي كثيف، يتدلى فيخفي شفته العليا…أما ذقنه فقد كانت عريضة حادة. كأنها قطعت لتوها من صدره: ومن ثم، بردت رقبته الثخينة برداً”. الحمضوني رجل فلاح من القرية على الأرجح في الخمسين من عمره. هذا الوصف الجسدي يكمله غسان بوصف مقتضب للشخصية: “نادرا ما يتكلم عن ماضيه. إنه دائما يتحدث عما سيأتي. وما ينفك يعتقد أن غداً سيكون أحسن من اليوم.” إنه فدائي دائم التفاؤل، يمتلك رؤية نحو المستقبل، ناكر للذات . بذل دمه مرتين، مرة حين تبرع بدمه في إحدى المستشفيات ليوفر نقوداً تمكنه من شراء السلاح، والمرة الثانية حين شنّ الصهاينة هجوماً مفاجئاً ضد قريته، وهرع للمدفع بعد أن سمع من أحد الرجال أن العطب قد أصاب السلاح. وفي محاولة يائسة يقوم بعمل شبه إنتحاري، وسيطلب من رفيقه “إسمع سأشدّ الماسورة إلى بطن المدفع بكفي، وحاول أن تطلق!” ليستشهد بعدها. عند سعيد الحمضوني لا توجد حدود للتضحية من أجل الوطن. هناك أيضا نموذج الفدائي الفيلسوف كما سبق وأن تطرقنا لها في حلقة سابقة لدى إستعراضنا لقصة “قرار موجز”. وأخيراً هناك تلك القصة الجميلة التي كتبها كنفاني في بيروت عام 1961، ونشرها تحت عنوان “لا شئ”. يلعب غسان كنفاني هنا على وتر السخرية اللاذعة من موضوع حساس آنذاك – والآن -: حرس الحدود في البلدان العربية المتاخمة للكيان الصهيوني. وهي: الأردن، لبنان، سوريا، مصر. تحكي القصة عن جندي حدود في أحد تلك البلدان يطلق النار على الأرض المحتلة فيقتل اثنين من الصهاينة. يُلقى القبض عليه من قبل سلطات بلاده، ويقتاد إلى مستشفى الأمراض العصبية تحت حجة أنه مريض بانهيار عصبي رغبة من السلطات في إيجاد عذر مقبول لتصرفه ذاك، تفادياً لأي نزاع مسلح مع العدو الصهيوني. في الطريق إلى المستشفى يدور حوار بين المتهم والممرض حول مرض الانهيار العصبي. ببراعة فنية مذهلة يصيغ غسان كنفاني الحوار بين الاثنين بطريقة تسخر من تهمة الانهيار العصبي، وكأنّ غسان عبر ذلك الحوار يريد أن يقول لنا إن ما فعله ذلك الجندي هو السليم عقليا (فعل المقاومة) وما سواه هو الذي يتنافى مع متطلبات العقل السليم. تعبير “لا شئ” يرد في ختام القصة، كردة فعل من قبل المتهم عندما فهم منطق السلطة: “أنا مصاب بهذا الشئ المتعلق بالأعصاب لأني تعمدت أن أطلق الرصاص…أليس كذلك؟ .. أجل .. وهم ليسوا مصابين بذلك الشئ الخطير المتعلق بالأعصاب لأنهم بتعمدون أن لا يطلقوا الرصاص…أليس كذلك؟…أجل، ماذا تريد أن تقول؟..ماذا أريد أن أقول؟ أوف ! لا شئ ….لاشئ…” لخّص كنفاني في هذه القصة حجته القائلة بأنه من الجنون أن لا تقاتل الجيوش العربية (وحارس الحدود رمز بليغ لقربها من دولة الاحتلال)، وأن امتناعها عن فعل المقاومة هو ما يسبب الإنهيار العصبي لجندي الحدود في القصة. غسان يصيغ فكرته بقالبٍ فني ماهر، وهي فكرة مشروعية الكفاح المسلح ضد المحتل، وتوافقه مع منطق العقل السليم. أما منطق السلطات الرسمية فهو منطق “لا شئ”. لا مقاومة يعني بالضرورة لا وجود لعقل سليم، يعني لا شئ !