فن أن نقول “لا”

0
154

من المفاهيم الخاطئة الشّائعة أن الأشخاص الناجحين يقولون “نعم” لكل شيء ! فالفرق بين الأشخاص الناجحين والأشخاص الناجحين جداً حسب رجل الأعمال الأمريكي الشهير وارن بافيت  هو أن الناجحين جدا يقولون لا لكل شيء تقريبا. الذي يحدث أن كلمة “نعم” تتحوّل إلى العائق الأكبر لتقدم كل النّاجحين، إذ شيئا فشيئا يفقدون السيطرة على إدارة أمورهم، فينتهي بهم الأمر إلى خذل الجميع وخاصّة أنفسهم.

تقول القاعدة الذّهبية لتعليم “فن قول كلمة لا” أن أفضل إدارة في العالم لا يمكنها تلبية جميع المطالب التي تقدم لنا. وأن الشعور بالرضا عند تقديم خدمة معيّنة لأحدهم قد تتحوّل سريعا لانتكاسة نفسيّة إذا ما تقاطعت مباشرة مع خسائرنا على الصعيد الشخصي بسبب التأجيل، فكلما قلنا “نعم” تراجعت أولوياتنا، وتقدّمت أولويات الغير، وهذا ما يجعل شعورنا بالارهاق والتوتُّر يزيد، حتى يصبح نوعاً من الإحباط الملازم لنا.

مجرّد الانخراط في مشاريع جانبية، ومهام هامشية  تستنزف وقتنا، تزداد احتمالية تشتتنا، وخف مردودنا الانتاجي بشكل أوتوماتيكي لا مفرّمنه.

كيف نقول “لا” إذن؟

وفقا للباحثة في جامعة كورنيل فانيسا بونز الأستاذة في قسم السلوك التنظيمي، فإن فهم صعوبة قول “لا” يجعلنا نتحرّر نوعا ما من سطوة ال “نعم” التي تثقل كاهلنا وتسحب منّا حريتنا الشخصية شيئا فشيئا، كونها مرتبطة أساسا بحاجة اجتماعية لنبقى على اتصال بالآخرين، فنحن لا نريد أن يفكروا فينا بشكل سيء، ونبذل قصارى جهدنا للتحكم في الانطباع الجيِّد الذي نعطيه عن أنفسنا بالتورُّ في قبول طلباتهم.

إنّ نطق كلمة “لا” صعب جداً، كون التفكير فيها مرتبطاً مباشرة بنظرة الآخرين إلينا وبتوقُّعاتهم نحونا، وقد يبدو الأمر لنا مبنيّ على مدى ثقتهم فينا، ما يجعلنا نضعف عاطفيا أمامهم، ومجرّد التفكير في قول كلمة “لا” أمامهم يهجم علينا شعور بالذنب، والاحراج فنوافق.

نظريا نُقْسِم أن لا يتكرّر هذا الأمر، ولكنّه محفور في الأعماق السحيقة لطفولتنا حين كُنّا نُقَايَض بالحب ورضى الوالدين ومغفرة الله مقابل انجاز أمور بسيطة، وهو ما جعل الأمر غاية في التّعقيد، كون المشكلة لا تتوقف عند الانزعاج والتوتُّر بل تتجاوزها إلى فقدان السيطرة تماما على إدارة كل أمور حياتنا.

تعلِّمنا بونز أن تعلُّم كلمة “لا” تبدأ بإدراك محدودية وقتنا، وأن كل لحظة من ساعات عملنا – بعد شطب ساعات النّوم طبعا – لحظات ثمينة جدا لا تقدّر بثمن، وخسرانها أبديّ لأنّها لا تعوّض في الحقيقة مهما حاول الشخص فعل ذلك.

يمكننا إذن أن نرسم مربعا نقسمه إلى ساعات يومنا، وكل ساعة نقسِّمها إلى أربعة مربّعات إشارة إلى أرباع الساعات التي نملكها، ثم نلوّن كل مربع باللون الأسود إذا ما أهدر بسبب كلمة “نعم”، ونترك المربعات البيضاء لكلمة “لا” …بمجرّد انتهاء يومنا نكون قد حصلنا على النتيجة، وسيبدأ العدّ العكسي لتصحيح طريقتنا في التّعامل مع الآخرين واسترداد سلطتنا على أنفسنا.

ما علاقة كل هذا الكلام بالثقافة والأدب والكتابة والقراءة والفنون الابداعية؟

الحكاية وما فيها أن كل هذا التقديم ضروري لنصل إلى حقيقة خطيرة “الوقت هو أيضا مادّة خام للأدب، والمعجزة السريّة للإبداع”.

يصطدم كُتّاب اليوم بعقبة الوقت لتحقيق أحلامهم، فأغلبهم تقيّدهم وظائفهم في المدارس وفي مؤسسات أخرى لتأمين مورد رزقهم، كما يصطدمون بالتعب بعد يوم طويل من العمل، تبقى لديهم عطلة نهاية الأسبوع ولكنّها غير كافية لكتابة عمل متكامل، ومتقن، فللكتابة مفاجآتها السيئة، حين لا يحضر الإلهام.

النصيحة التي يقدّمها كتّابٌ ذوو خبرة هي الجلوس يوميا في ساعة ثابتة أمام أوراقهم أو أجهزتهم ويبدأون بالكتابة، إذ ليس عليهم انتظار الإلهام، إنّها أفضل طريقة لاقتناص الوقت، وإلاّ فإنّه سيذهب بلا رجعة، وتذهب معه فرصٌ قد لن تتكرّر.

الكتابة لا تحب شركاء، إنها ترغم صاحبها على التّضحية بأوقات كثيرة يخصصها الآخرون للتسلية والسهر والتنزه والمتع الشخصية، وأي تراخٍ في هذه النّقطة سنعكس سلبا على الكاتب. كلمة “لا” هي الوحيدة المنقذة لعشّاق الكتابة، و”خلوة” مع ذلك الصّوت المنبعث من الدّاخل محرّضا على تحرير الصور المتزاحمة من معاقل المخيّلة.

يدّعي البعض أن الكُتَّاب يتغذّون من حزنهم وأن ما قد يشعرون به من توتر وضغوط ستفيدهم، وهذا خطأ آخر شائع. إرهاق الكاتب وإتعابه ومصّ طاقته اعتداء صارخ على كل ما يملك من متاع لممارسة هوايته التي يتنفّس من خلالها، لنتذكّر أننا جميعا بحاجة إلى الاعتناء بأنفسنا، وللكاتب هذا الحق، لهذا لا داعي من الغضب منه إن قال لكم “لا” فهي لا تعني أبداً رفض حضوركم الظريف، أوالاستغناء عنكم، إنه فقط يحاول جمع شتات نفسه.

لنتذكّر الآن أن من يريد تحقيق النجاح عليه أن يقول “لا” بصوت عالٍ، دون أي شعور بالذنب، وعليه أن يعيش حياة صارمة، وليس بالضرورة أن يسهر الليالي. يقول ستيفن كينغ أنه يكتب يوميا ست صفحات، في الغالب صباحا،  ولا تنازل عن الرّقم ستة، فهو يخضع نفسه لبرنامج يومي يعرفه كل من يحيطون به، ولا يسمح لأيٍّ كان أن يفسده.

أمّا هاروكي موراكامي فيستيقظ في الرّابعة صباحا، ليكتب لمدة خمس أو ست ساعات، ثم يخرج ليمارس رياضة المشي، إذ يركض عشرة كيلومترات أو يسبح ألفا وخمسمئة متر، ثم يأتي وقت القراءة مساء مع الاستماع للموسيقى، ثم النوم باكرا.

يؤكِّد موراكامي على أهمية الحفاظ على التكرار لفترة طويلة، فكتابة رواية طويلة يشبه التدريب من أجل البقاء، ويحتاج لقوة بدنية وعقلية، وفترة صفاء ذهني قد تدوم سنة بعيداً عن أي ضجيج، حتى وإن كان ضجيج الأحبة.

الشاعر الأمريكي ويستن هيو أودن، الحائز على جائزة بولتزر العام 1948 يعتبر على نطاق واسع أحد أعظم شعراء القرن العشرين، أطلق العنان لعبقريته الإبداعية من روتينه اليومي، وقد كتب في العام 1958 “الروتين في الرّجل الذكي هو علامة على الطموح”، كما وصفت حياته ب “العسكرية” كونه كان مهوسا بالدقة في المواعيد، وضبط الوقت، وقد أخضع نفسه لجدول منظّم للقيام بأعماله اليومية، التي من بينها الكتابة طبعا. ومن بين مقولاته المؤثِّرة: “أضمن طريقة لتنظيم الشّغف هي ضبط الوقت”.

إرنست همنغواي، جون شتاينبيك، مايا أنجلو، سيمون دي بوفوار، هنري ميللر وآخرون من مشاهير الأدب يستيقظون باكرا، ويعملون حتى ينتصف النهار. يلتزمون بأنظمتهم الصارمة، ومن النّادر أن يكسِرُوها لسبب طارئ. سجلت لأغلبهم عادات غريبة تعوّد عليها أقرباؤهم وأصدقاؤهم، بعضهم لا يردُّ على الهاتف خلال فترة الكتابة، بعضهم لا يفتح الباب إذا قٌرِع، والبعض الآخر يفرض برنامجه على من حوله حتى لا يحرم نفسه ويحرمهم من متعة اللقاءات المشتركة. يُذكر عن جين أوستن أنها تقدم العشاء لعائلتها بين الثالثة والرابعة والنصف بعد الظهر، لأن المساء مخصص لللعب الورق وقراءة القصص والروايات بصوت عالٍ.

مارك توين كان ينسى تناول الغداء في وقته، حتى أصبح عادة لديه، وكانت العائلة لا تحسب حسابه على طاولة الغداء، ولا تناديه من خلوته إلاّ لأمر ضروري.

بقي الآن أن نسأل أنفسنا، هل يكفي أن نقول “لا” لنحقق ما نريد؟ هل يمكننا إنجاز أهم مشاريعنا بمجرّد التخلّص من سطوة المغريات التي تأكل وقتنا؟

ستيف جوبز يجيبنا هذه المرة “عليك أن تقول لا لمئات الأفكار الرّائعة التي تأتي في طريقك، لأنّه عليك أن تختار بعناية شديدة، نعم قد تخسر مبتكريها ومن بينهم بعض الأصدقاء بسبب ذلك، لكن الابتكار يقول لا لألف شيء”.

“لا” كلمة قوية جدا، تدفعنا نحو الأمام، وهي أكثر فاعلية في مشاريعنا. بل إنّها في الغالب تضع حياتنا على مسار جديد، يضيف جوبز ويختم قائلا: “بمجرّد أن نبدأ في استخدام هذه الكلمة بانتظام، ترتفع ثقتنا بأنفسنا بشكل كبير”. كان سيّد “اللّاءات” في حياته القصيرة، وكان منجزه بعظمة لا يمكن اختصارها.