استنهاض الجمعيات السياسية والمجتمع المدني

0
22

مؤخرا فقط وأثناء مشاركتي في ندوة تجمع الوحدة الوطنية بمعية الدكتور والمفكر علي محمد فخرو والتي كانت تحت عنوان “المشروع الإصلاحي والجمعيات السياسية” وضمن باكورة  ندوات مشروع ثقافي تعمل عليه الجمعية المذكورة حسب ما تم تقديمه، طرح علي سؤال مباشر حول تقييمي لأداء الجمعيات السياسية في البحرين،وكان على النحو التالي:هل رفض المجتمع البحريني الجمعيات السياسية ام ان هناك أسباب أخرى لتراجع دورها؟

والحقيقة ان الإجابة على هذا السؤال وبقدر ما تبدو سهلة في بادئ الأمر الا انها  ربما تستدعي إجابات متعارضة في نفس الوقت، حيث ان المسألة برمتها تستدعي أيضا المفاضلة بين مرحلتين او عدة مراحل، وطالما ان عنوان الندوة ذاتها يستحضر ويربط بالمشروع الإصلاحي الذي دشنه جلالة الملك منذ العام 2001 وبمصادقة شعبية حقيقية بلغت%98..4.

علينا تمحيص هذه المسألة بكثير من الموضوعية والصراحة حتى  نستطيع فعلا ان نجيب عل هذا السؤال الذي يتسع لأكثر مما سنختصره هنا نظرا لحجم المساحة المتاحة،  فالمشروع الإصلاحي في بداياته اعطى مساحات مهمة من حرية العمل والتنظيم للتيارات السياسية المختلفة بمثل ما اعطى مساحات واسعة وغير مسبوقة من حرية نسبية للصحافة والنشر والنقد ايضا، حتى غدت الأقلام الوطنية وصفحات الرأي في صحفنا  تتخذ لنفسها  هامشا مهما من المتابعة لدى الشارع البحريني المتطلع للأيام الجميلة التي وعد بها المشروع الإصلاحي مع بداية عهد جديد جاء على انقاض مشروع امني حكم قبضته على البلاد والعباد لفترة تجاوزت ربع قرن من الزمن،قيدت  خلالها كافة اشكال التعبير والنقد والصحافة الحرة وتشكيل الأحزاب والتيارات الساسية والنقابات العمالية.

 وطبيعي ان تنطلق بعدها حيوية الشعب البحريني وديناميكيته المكبوتة بعد طول انتظار، فسرعان ما انتظمت  حرية العمل السياسي والتنظيمات الرئيسة في البلاد كل من منطلقاته الفكرية والسياسية في محاولة لرفد المشروع الإصلاحي الذي كان ولا يزال يحتاج للرعاية والاستنهاض لتحقيق تطلعات الجماهير الموعودة بالأيام الجميلة، تلا ذلك عودة الحياة النيابية في  أكتوبر 2002 والتي رافقها كثير من الشد والجذب بين مختلف القوى السياسية الفاعلة بعضها مع بعض وبينها وبين الدولة ككيان يتطلع الجميع من خلاله الى اللحاق بعجلة الزمن لتحديث مختلف أجهزة الدولة ومأسسة العمل السياسي والاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية على أسس جديدة وعبر دستور عصري يأخذ في الاعتبار كافة المستجدات على الساحة المحلية والإقليمية والدولية ايضا، والأهم من كل ذلك تعزيز عوامل الثقة  المتبادلة بين مختلف الأطراف، وقد تمت آنذاك مقارنات ومقاربات بين افضل واقرب الأنظمة الديمقراطية الناشئة لتجربتنا الوليدة.

كل ذلك واكثر منه حدث  فعليا،. وكان حضور الجمعيات السياسية فاعلا بشكل جلي وواضح  مسنودة بالمجتمع المدني البحريني الذي بدأ تدريجيا يستعيد حيويته المعهودة، حيث الجمعيات النسائية والنقابات التي تشكلت بقوة القانون وللمرة الأولى في تاريخ البحرين الحديث، وكذلك كانت الجمعيات الشبابية والاجتماعة وغيرها من المؤسات التي شكلت في مجملها روافد حقيقية للجمعيات والتيارات السياسية في مجتمع صغير كالمجتمع البحريني بما يحمله من تطلعات.  اذا ما الذي جرى الآن  بعد مرور اكثر من عشرين عاما، ولماذا يصبح طرح السؤال حول ابتعاد الناس عن تلك الجمعيات مشروعا من أي وقت مضى؟! وأين هو المجتمع المدني والنقابات  والجمعيات الشبابية التي ضنناها روافد لا تنضب، وإذ بنا جميعا ننكفئ وكأن ما حركنا من زخم  شعبي ومؤسساتي قد تلاشى دون مقدمات. 

 هناك مقدمات لذلك التلاشي والابتعاد القسري للناس عن الجمعيات السياسية والعمل المدني أيضا، وأول تلك المسببات هو تلاشي مساحة حرية التعبير وتحديدا بعد احداث ما سمي حينها بالربيع العربي وعلي مساحات واسعة من عالمنا العربي وما ترافق معها  من تضييق واضح على الحريات وتقليص لدور الصحافة، لكن الحقيقة التي علينا ان لا نهملها ان المسألة لم تبدأ من هناك بل سبقتها بسنوات واقصد لدينا في البحرين تحديدا، فقد زادت مساحة الشد والجذب بين مختلف التيارات السياسية والمجتمعية والدولة في الاتساع تدريجيا وتقلصت معها مساحة النقد والنشر وتراجعت عوامل تعزيز الثقة بين الطرفين، فيما قاطعت قوى سياسة وشاركت أخرى في العملية الديمقراطية الوليدة منذ تدشينها في العام 2002، ثم ما لبثت القوى المقاطعة من المشاركة والمقاطعة لاحقا وبدوافع سياسة واجتماعية عديدة  باتت معروفة للجميع بعد كل تلك السنوات،وبالتالي انخلقت أجواء غير مواتية او مشجعة لتعزيز مسيرة العمل الوطني والديمقراطي في البحرين، فيما انقضت قوى اجتماعية تجد انها تضررت مواقعها ومصالحها محاولة الاجهاز على ما تبقى من التجربة مستفيدة مما ترافق مع تلك التراجعات من تحولات سياسية محليا وإقليميا.

  وطبيعي مع هكذا أجواء ان تنكفئ مسيرة الجمعيات السياسية والمجتمع المدني والاتحادات العمالية والنقابات وغيرها من قوى الضغط، وعلينا ان لا ننسى ان حالة كهذه قد حفزت بدورها قوى وشرائح مجتمعية على محاولة ملء الفراغ الحاصل ولو بشكل ترقيعي وربما لأسباب عابرة وربما حتى انتهازية أحيانا كثيرة، والتي ليس من بينها بكل تأكيد تقويم  وتنمية العمل السياسي او تعزيز العمل المدني والحقوقي كما اثبتت التجربة بعدها عند بعض القوى الدخيلة والطارئة على العمل السياسي والمدني. وهكذا تراجعت مسيرة العمل السياسي الحقيقي بمثل ما تراجعت عوامل الثقة المتبادلة التي كانت يوما في اوجها ابان فترة ميثاق العمل الوطني، كما تراجع دور التيارات السياسية الفاعلة بالتدريج وانفض الناس من حولها بشكل مبرر نسبيا، فيما تبقت مساحات شحيحة للعمل امام من بقي من تلك التيارات الفاعلة المتمسكة بخيط امل شفيف وسط قيود ومحاذير عديدة لا تنتهي، تمسكا بحقها. المشروع وبدورها ومسولياتها في العمل والدفاع عن المصالح الشعبية، ومن اجل وطن افضل  تسود فيه العدالة وتزدهر فيه الحريات، وانتظارا لما يمكن ان  ينتزع من مكاسب ولو محدودة للمتطلعين لحياة سياسية ومجتمع مدني يبقى حضوره كامنا ومتأهبا في انتظار ما ستسفر عنه التحولات من مراجعات  المختلفة على المستوى المحلي وما ستفرزة التحولات والمتغيرات إقليميا ودوليا.