حين بدأت عملي في الصحافة ،تعرفت على مصطلح “خارج التسجيل – أوف ذا ريكورد” وهو تعبير يعرفه الإعلاميون والصحفيون جيداً، في كل مكان في العالم، وهو البوح الذي يعترف به المصدر للصحفي ويأمره بعدم استعماله لما قد يشكّله من خطورة عليه، أو قد يسأله تاجيله باعتبار أن الوقت أو المنصب الذي يشغله صاحب المنصب أو مصدر الخبر غير ملائم للبوح به حاليا، ولكن قد يأتي يوم ويأخذ طريقه للنشر لأن نشره يصب في خدمة المصلحة العامة، وهذا التعبير كان تعبيراً شائعاً في مرحلة قانون أمن الدولة، وقانون المطبوعات الصارم الخاضع له.
وفي الدول التي تتمتع بصحافة حرة، فإن الأسرار حتى وان كانت ذات أبعاد أمنية وقومية فإنها لا تظل أسراراً إلى الأبد، انما يجري الافصاح عنها لاحقاً على خلفيّة سقوطها بالتقادم، لكن ذلك لا يمنع من حصول الصحافة على مواد إعلامية دسمة وجديرة بالنشر والتحقيق والمتابعة.
وعن نفسي فقد احتفظت ببعض الأسرار الصحفية من مصادر عديدة، وقلتُ سيأتي يوما وتجد طريقها للنشر ربما ضمن كتاب يضمّ تجربتي الصحفية، وكنت ممتلئة باليقين أن الأيام المقبلة ستكون لصالح حرية التعبير في زمن تكنولوجي ومعلوماتي متسارع ولا مكان فيه للأسرار والكتمان، فالبشرية تتقدم إلى الأمام وليس إلى الخلف، واذا كنا بالأمس في أسفل قوائم الشفافية والحريات الصحفية والنزاهة، فإننا ذاهبون حتماً إلى مرحلة الإفصاح وسعة الصدر مع حرية التعبير.
ما حدث هو العكس تماماً، وصرنا نستيقظ كل يوم على واقع شديد الوطأة على الكلمة الحرّة والرأي المختلف والمغاير وتبخرت أحلام الإعلاميين وحملة الأقلام في غد صحفي أفضل، واللافت أن العالم العربي لم يحقق نقلة نوعية تذكر في الصحافة والإعلام حتى بعد التحول الرقمي الذي اجتاح العالم.
والسؤال الجدير بالطرح هو كيف حدث ذلك؟ وكيف انتزعت من الناس سلطة شعبية كانت لهم معيناً وسنداً، وقد ناضلوا وقدّموا التضحيات من أجل نيلها منذ بداية القرن الماضي بغية توظيفها كأداة للاصلاح والتغيير وتعميق الديموقراطية والاصطفاف جنباً إلى جنب مع الدول المتحضرة، وكيف صادقنا على العهود والمواثيق الدولية المعنية بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والثقافية ثم تنصلت أنظمتنا منها أو تجاهلتها تماماً؟
وكي لا نذهب بعيداً في العموميات نشير إلى أدلة وأمثلة حيّة من واقعنا المحلي حيث جرى النكوص على المكتسبات وعدم الاستفادة من التجارب المعاشة المؤلمة والمكلفة على الوطن باكمله، فقد كان يفترض بالتقرير الأممي المهم والذي أنجزته البحرين على اثر اضطرابات 2011 أن ينقلنا من حال إلى حال أفضل، يُصلح ما تهدم، ويعيد البحرين لسكّة الديموقراطية والعدالة والمساواة والحوكمة الرشيدة بالاصلاح الحقيقي المستدام ويمنع تكرار ما حدث، اين هي توصياته الأساسية والجوهرية فيما خصّ الإعلام التعددي والمتنوع وتعديل التشريعات الصحفيّة وصولاً إلى الحوار السياسي التشاركي الفاعل والمنتج لتعميق ديموقراطيتنا الوليدة؟ ها نحن نطوي السنة العاشرة على صدوره، وكل توصياته إما جامدة أو حرى التراجع عنها بصورة كبيرة أو أصبحت مفرغة من مضمونها، بل لا تجرؤ الصحافة على مجرد التطرق إليها.
التقرير الآخر هو تقرير الرقابة المالية والإدارية الذي هو نتاج المشروع الاصلاحي لجلالة الملك والهادف إلى بسط الرقابة على أداء الوزارات والهيئات الرسمية وتبيان أوجه الخلل والفساد ومحاسبة المقصرين وابعادهم عن سدّة القرار، فبعد 18 تقريرا يفترض أن يكون لدينا نتائج رائعة وخبرة تراكمية ورشد إداري وموظفون بعيدون عن الشبهات يحذرون في كل مسلكايتهم المهنية والوظيفية من سيف ديوان الرقابة، والأهم من كل ذلك سلطة رادعة لحماية المال العام وتحليل منطقي رصين يشير إلى الجدوى والفائدة منه والمبالغ المالية المتحصلة من تطبيقه، ويقارن بين ما كنّا عليه قبل وما أصبحنا فيه بعد كل هذه التقارير ؟. أليست مفارقة أن الدين العام بدأ ثم تصاعد مع مجيئ البرلمان وتقارير الرقابة؟
واللافت أن التقرير الأخير جاء في 450 صفحة، لم يسمح للصحافة بالتطرق إلا إلى 13 صفحة فقط، مشروطة بنشر ردود الوزرات لقطع الطريق على أي امكانية لطرحه للمناقشة أو التساؤل، ولقد كان التقرير ولا يزال مادة دسمة ومهمّة للصحافة، وقد تمّ تضييعه من يدها وأغلب مواده وقصصه السنوية صارت “أوف ذا ريكورد” .
على أن أكبر تحدٍ تواجهه البحرين حاليا هو تصاعد الدين العام عاما اثر آخر، ولماذا حدث ذلك، والى اين ذهبت فوائض النفط الضخمة المتراكمة وكيف انفقت؟ اسئلة مهمة لا تجد جواباُ، وعودة إلى سؤالي السالف أعلاه، كيف حدث ذلك ؟
حدث ذلك بعد ثورة المعلومات وانتشار الإعلام الرقمي البديل وتوفر منصّات غير خاضعة للسلطات الرسمية، اذ قبلها كانت المعلومات صعبة وغير متاحة، وحين انفجرت المعلومات المسكوت عنها وتعددت مصادرها وخرجت عن نطاق الضبط والسيطرة والرقابة، تمترست الجهات الرسميّة والاهلية المعنيّة بهذه المعلومة أو تلك خلف جدار الصمت والتجاهل و”التطنيش”، ولا يوجد قانون بحريني يلزم المسؤول بالاجابة؟، وجرى تكتيف الصحافة وشلّ يدها، وساد مناخ من اللامبالاة وعدم الاكتراث بما يطرح من تساؤلات ومعلومات تتعلق بالقضايا الجوهرية التي تهم المواطن البحريني، من تقرير بسيوني المعني بأزمتنا السياسية السابقة واللاحقة، إلى تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية، إلى قضية الدين العام، الى الضرائب القادمة.
كل تلك التحديات لم تجد لها أو حولها جواباً شافياً، أو تخضع للحوار التشاركي الجاد والحقيقي والشفاف والمقنع، بل صارت أغلب قضايانا المهمة “أوف ذا ريكورد” .