خدعة أم حلوى (*)؟
نظلّ نحب بعضنا بعضًا حتى تكشفنا المواقف وتظهر حقيقتنا. حتى هذا التماسك الظاهر والمحبة التي يعبر عنها، قد لا يكون لهما أساس حقيقي. فحين يأتي وحش المحكّ، تأتي معه الاختبارات على سبيل التجربة!
في عرض مسرحي عراقي، يترقب الزوج دخول الدواعش بيته، الذي يقطنه منه وزوجته ووالدته. وحين يتوفر خيار “طاقية الإخفاء” لشخص واحد كي ينجو من الاغتصاب والسبي والقتل، يحدث هذا المأزق الإنساني الكبير في تفضيل كل منهم نفسه في النجاة، حسب منطق الشخصية. وبينما يطلق الناس في العموم أحكاماً مطلقة إذا ما سمعت/ قرأت بحوادث مشابهة، لكن أحداً لا يتصور أن يقع في ورطة كهذه. لذلك فالكلام سهل، وسهل جداً إذا تكلمنا كمُنظِّرين، ثم انصرفنا إلى حياتنا اليومية، دون أن نشغل بالنا بما يؤول إليه حال غيرنا.
ولنتذكر جيدًا أن العرض عراقي خالص، بمعنى أنه يحمل الهم المحلي، حتى وإن لم تلفظ كلمات دالة على المكان أو الزمان أو الأشخاص، بما فيها اسم العرض The home البيت/ الوطن/ الحوش -كما يصفه البطل على لسان أمه-، وهو اسم ينحو بالعرض نحو التغريب، ولن يستطيع، ذلك أن القصديّة التي تحرك بها هذا العرض للتمويه مقصودة ضمن معانٍ أخرى دالة، وما مر به العراق الحبيب من نكبات سياسية متعددة، حال دون الاستقرار على جميع الأصعدة. لا شك أن هذا عبء متضمن في كل الأجيال التي أتت بعد هذه الظروف، ولم يشهدوا ما كان يحظى به هذا البلد من غنى مادي ومعنوي، وحضارة عريقة ومؤثرة. فتغيُّر الأحوال المتواصل، غيَّر المزاج العام في جملة أعلن عنها صوت الراوي الذي حكى عندما “كنا” وماذا “صرنا”، وعبر عن العيش في البيت الواحد والقلوب شتى!
وبعد مفتتح الراوي وأغنية فيروز “وطني يا جبل الغيم الأزرق” التي اختارها المخرج كمدخل للحدث القادم، يدخل المتفرج في متاهة تحيره؛ في دخول جندي بملابس غير محددة الملامح، على ثلاثة أشخاص نائمين، ليستجوبهم باللهجة العراقية، قبل أن يأمرهم بالعودة للنوم “جبراً”: “هسه أحسن لو قبل؟”. ومع اختلاف الإجابات التي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، أو عن مصالحهم، يأمر معاونه في جملة ملغزة “روح قلّه إذا لقيته لا تقلّ له”، وكأنها إشارة البدء لسلسلة من الأحداث العجائبية، التي ترافقها موسيقى ” الكاولية”، وهم غجر العراق(1) الذين جاء أصل تسميتهم من قبائل هندية – رغم تعدد المراجع التي تنسبهم إلى أصول متعددة – كانت بعض نسائهم تمتهن الرقص والجنس كخدمة دينية لرجال الدين، أو بالأجر لآخرين، وبينهن من عمل في معبد الملك كاول، وبالتالي جاءت التسمية لهذه الجماعة من هنا. ورغم أن هذه الفئة ليست مسألة جوهرية في The Home، لكن سيطرة موسيقاهم المعروفة في معظم العرض يدعو للتفكّر، خصوصاً إذا ما تم إقران أن هذه الفئة؛ الغجر والنور –المرتبطة بالشتيمة أحياناً- لا تزال غير مقربة من المجتمعات التي تعيش فيها، بسبب تمسكهم بأطباع من سبقوهم في بعض الخطوط الحمراء التي تضعها المجتمعات، والمحافظة ذريعة لعدم التجانس مع المختلفين عنهم.
في المجتمعات الشرقية، وربما مجتمعات أخرى، سيلقى اللوم على الزوج/ الذكر/ الرجل الذي من صميم مهامه الدفاع عن كل ما يخص الأنثى المحتمية تحت جناحه؛ زوجة، وأماً، وأختاً، وأي أنثى يضعها القدر في طريقه، إذ واجبه الإنساني يحتم عليه أن يفعل ذلك، وهي صورة ذهنية من الصعب التخلي عنها. لكن في وقت حصد الأرواح، لا يمكن التكهن بردة الفعل. وبما أنه عرض تجاوز تصوير الواقع، إلى القفز بفكرة فنتازية عبر الطاقية، فله الحق في تجسيد الأفكار التي تخدم العرض، وتلقي بمسئولية التفسير في حِجر المتلقي. فهذا الزوج الذي يواجه المتلقين ليعرفهم أن القاطنين في هذا البيت أربعة أشخاص، بينما يعيش هو وزوجته ووالدته فقط، لكنه يحسب نفسه مرتين: ابناً، وزوجاً، ولهذا علامة مرتبكة لا يمكن تأويلها إلى شكل واحد.
وهو يقرر أنه سيهدي مغتصبي زوجته، الذين بلا شك سيستخدمون سريره، نسخة من القرآن “ليتلوا ما تيسر من شرفنا”، وإهداؤه هذا من منطلق أن بيع الكتاب المقدس “حرام”، ينطقها بلهجة معينة لها أتباعها الكثر، لكنه لا يحمِّلها وحدها كل الذنب، فالدلالات المثقلة في المسرحية تدين جهات متعددة أوصلت الأحوال إلى مرحلة كبيرة من السوء. لذلك فالعلامة في تجريد الزوج لزوجته من عباءتها السوداء، التي تحتمي بها خوفاً من دخول “المغتصبين”، مخيفة لضرب مفهوم النخوة لدى عموم العرب، ومحل استنكار كبير، وزاد على ذلك لفه العباءة حوله، والرقص المتواصل بعنف على نفس الموسيقى “الكاولية”. إنه منظر يذكر بمرحلة سيئة من عمر العراق العريق، لما انتشر هذا الشكل وعمم ليتصدر الفن العراقي بالنسبة للجيل الجديد. كما لا يمكن التكهن بيقين؛ هل يحتاج الزوج لهذا الصخب كي يتناسى القادم الموجع؟
أسئلة موجعة أكثر تخوض في علاقة الفرد بمعتقداته، وتختبر إيمانه، وصبره، وإتكاله، وتأويله لأمور حياته حسب موقفه الآني. حين تحضر الأم بمصاحبة إيقاع مألوف عند طائفة من المسلمين، وإضاءة خضراء مألوفة، وتخاطب “باباً من أبواب الله” مراراً ألا يبخل عليها بطاقية إخفاء، بتوسل صادق، ولا يحدث؛ فتحيله للذنوب الكثيرة التي -ربما- ارتكبتها في حياتها! مع الأخذ في الاعتبار أن واحدة من أهم أهداف الأديان “الطمأنينة!” الزوجة الشابة التي تحاول المناجاة بمنهج أم زوجها، لكنها تملّ من الشكل التقليدي، وتتوسله بطريقتها عن أقصى همومها: ألا تكون وعاءا للدنس، أما الزوج، فهو يخاطب “المخلّص” الذي كان يسمع بظهوره منذ كان في بطن أمه، وأن الوقت قد حان، لأن الأرض مُلئت جوراً وظلماً وفساداً، فلِمَ لا يظهر لينقذهم من مأزق الاختيار، فيأتي الجواب من الأم التي ترى أمثال ابنها الذي يقايض على شرف أمه وزوجته من أجل حياته؛ واحداً من أسباب عدم الظهور! إذاً فهناك مبرر ومرجعية جاهزة لعدم الاستجابة، حتى ولو تساءلت الزوجة: “ألم تقل بأنه يستجيب لنا برمشة عين؟”.
جمال هذا العرض في تحريكه أسئلة كبيرة تنطق على لسان الشخصيات، ويترك مهمة تأويلها للمتلقي المسكين. هناك دائماً التباس يُدخل المقدس في الشيطاني بشكل فني؛ يوقع المسئولية على المتلقي في كيفية فهم المعنى، بحيث لو أن أحداً فكر في المحاسبة –جهة رقابية أو حتى فردية- لن يجد ما يمكن الإمساك به حيث تتعدد التأويلات. لكن هذا ليس كل شيء، فقد حمل The Home فكرة فلسفية، وشكلاً فنتازياً. ومن يقرأ للكاتب العراقي المبدع علي الزيدي، سيدرك أنها أفكاره، حتى لو تبرأ منها لاحقاً، واستعاض مخرج العرض غانم حميد بأنها “سيناريو” خاص به، وهومصطلح سينمائي وتلفزيوني لا يجوز استخدامه في المسرح.
لكن العرض حمل بزوائد أثقلته، مثل إقحام أغنية سميرة توفيق “بالليل يا عيني بالليل” -وإقرانها بتاريخ وتوقيت غير مفهومين بالنطق- لم تشكل إضافة للحدث، خاصة أن الوصف متعلق بالعلاقة الحميمية بين الزوجين، والتي بالغ العرض في بيان أهميتها بالنسبة لهما، حتى أن الزوج يَعِد زوجته، إن هي وافقت على منحه الطاقية، بقضاء وقت حميمي يمتد من العصر للفجر! بالإضافة إلى ملامسات مباشرة، لا تحاكَم بشكل أخلاقي بالطبع، لكنها -جمالياً- لا تضيف للفكرة، وكان كافياً لنا جداً -كمتلقين- قراءة هذه العلاقة من إيحاء جميل خلقه المخرج للزوجين وراء الباب، يُفهم منه كل شيء. والطموح ألا تحيد الشخصيات عن القضية الأساسية إلى هوامش تميّعها، أو تسحب المتلقي لمناطق أخرى، تخاطب حس الغريزة فيه، أو التفاهة؛ من خلال الإشارة إلى كبر حجم أنف الممثل بشكل كوميدي لا يتسق أبداً مع حجم الحدث والكارثة المقبلين عليها، والتي وإن كانت في عرض مسرحي، لكنها -للأسف- مرآة لواقع لا نريد حتى أن نذكره، ولا نستطيع أن ننكره.
بالإضافة إلى المشهد الذي قلد فيها الممثلين اللهجة المصرية، حين يتحث ناطقها باللغة العربية، وهي مألوفة، خصوصاً في الأفلام التاريخية التي تأتي على حوارات الأشرار -الصورة النمطية منهم-، دون أن يكون لهذا المشهد أي إضافة تحسب للعمل. وكذلك المشهد الذي يستدعي الأم في هيئة مختلفة عن سابق حضورها الأولي، وبشكل أكبر سناً مما كانت عليه، وموسيقى الغجر العراقية كخلفية، وهي تردد جملة وحدة: “يا قوم يا ويلكم منهم.. أنهم قادمون”! وبينما الجملة تراجيدية والأداء كذلك، تقوم الأم بتغيير نغمة صوتها لصوت فرح، وترقص بالعصا التي كانت تتكأ عليها، وتنسحب للكواليس بنشاط. ويقاس على هذا زوائد كثيرة أثقلت العمل بما لا يضيف له، وأمده إلى ما يقارب الساعة والنصف، بينما كان بإمكانه تكثيف القضية إلى أقل من ذلك بكثير.
من الناحية الأخرى، هناك نقطتان إيجابيتان واضحتان في العرض: قطعة الديكور الوحيدة المرنة “البيت”، وهو هيكل أساسي من الخشب، مع تفريغ السقف والجدران والأرضية، وإضافة باب استخدم مرتين -ربما- إحداهما في الختام لمواجهة الجمهور، كإشارة للشراكة والمسئولية في المشكلة؛ والنقطة الأخرى هي الممثلون الجيدون، المختارون بعناية تنجح أي عمل: الزوج “محمد هاشم” بالإتقان في حيرته، وتنقلات شخصيته، وصدقها، والزوجة “كلوديا حنا” بمقوماتها الجمالية التي أجادت توظيفها، وبالانسجام والتقمص اللذين أبدياه، والحضور البهي للأم القديرة هناء محمد، وثقلها على الخشبة بالصوت القوي ذي مخارج الحروف الصافية، والأداء المتمكن بالطبع، وخادم العرض “مظفر الطيب” الذي شكل وجوده إضافة للعرض في التفريق بين الوهم والواقع؛ في المخاطبة المباشرة للجمهور، ومعاونة الممثلين، وتوضيح بعض ما قد لا يظهر في الحدث على الخشبة.
مسألة The Home لا تناقش مشكلة داخلية تخص جزءاً من طائفة أو وطن، ولا تضع الحلول على الإطلاق، لأنها مغلقة منذ البداية. هذا العمل يوقظ في كل متفرج حي النزعة لأن يحافظ على “بكارته” الرمزية، حتى لا يكان مباحاً وهدفاً سائغاً لمن ينتظرون هذا السقوط ليخوضوا في ما تبقى منه؛ فلا تكون قدسية الأم/ الجنة مغتصبة، ولا يأتي نزاع ظاهره هزلي وباطنه مؤلم في حوار زوجين حين ينتزع الشرف ويبدأ الجدال في إذا “نعال علي فهو نعال عليك”، والعكس في دلالات عنيفة لمن شرفه أهم من الآخر! في الأخير: سيطال هذا “النعال” الجميع.
الهوامش
(*) جملة تقال من قبل الأطفال في عيد “الهالويين”، حين يتجولون من بيت لآخر بأزيائهم التنكرية. وتقال هذه العبارة في حال لم يُعطَ الطفل حلوى، فإنه يهدد أنه سيقوم بإلقاء خدعة أو سحر على صاحب المنزل أو ممتلكاته.
- تكيف الغجر: دراسة أنثربولوجية اجتماعية لجماعات الكاولية في العراق، د.حميد الهاشمي، مكتبة الفكر الجديد، ص22.
- https://www.youtube.com/watch?v=kL7kf5ZxLU8
القراءة مكتوبة بناء على العرض المشاهد في مهرجان الأردن المسرحي الثامن والعشرين المقام في عمّان، نوفمبر 2021