“الريح ستحملنا”

0
72

أبدع المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي في صياغة قصائد بصرية ولوحات فنية ناصعة لـ “سينما الشعر”. وقد يدهشك بأن فكرة بسيطة تتحوّل عبر أفلامه لفلسفة غائرة في تشكيلك الجوانيْ حد أن تسمع مونولوجاً فريداً خاصاً بك وراء الموسيقى التصويرية.

يسافر بنا كيارستمي عبر فيلمه “الريح ستحملنا” إلى منطقة جبلية كردية نائية، حيث يصل ثلاثة أفراد من طهران للعمل على تقرير يوثق شعائر غريبة ستقام بعد وفاة سيدة عجوز تجاوز عمرها المائة عام. تمضي الأيام والعجوز متشبثة بالحياة على نحوٍ غامض فتنازع البطل مفارقتان، الأولى رغبته في شفاء المرأة العجوز، والثانية وفاتها سريعاً لإكمال مشروعه السينمائي والعودة إلى طهران. وفي انتظار موتها المحتوم لا يكاد يحدث شيئاً عدا الحياة اليومية لساكني القرية ولطاقم التصوير وكأنها غنيمة الرحلة بأسرها.

عناق الفيلم للشعر يبدأ من عنوانه الذي يماثل نص للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد، وهي القصيدة التي ستغدو صدى لصوت الشخصية الرئيسية بالفيلم “بهزاد”، وستتزاوج بطريقة سلسة مع قصائد عمر الخيام لتصوّر لقاء عاشقين في حضرة الموت الخفيف حدّ الهمس، تحت ضوء لقمرٍ أحمر وغيوم السوداء خاضعاً لقلق جاثم يفسد فتنة اللحظة. ففي نهاية القصيدة تستسلم الحبيبة للجسد وتتماهى مع حبيبها على دفء الوجود قبيل أن يحملهما الموت معاً كما تحمل الريح أوراق الشجر.

بتململ وضجر ينتظر بهزاد احتضار السيدة العجوز، بأهداب معلقة بالرحيل مديراً ظهره لرتابة الأيام. لكن السيدة التي يرقص جناح ملاك الموت تحت شباكها تتشبث بالحياة بشكل يدعو للغرابة. فهل جاء بهزاد باحثاً عن الموت ليجد الحياة؟ 

يخال الكثيرون أن القصيدة ثمرة الشعر اليتيمة، وأن الروح الشعرية لا ترتدي سوى القصيدة، لكننا قد نجد زخماً هائلاً من القصائد يفتقر إلى الشعرية، بينما نتحسس طاقة شعرية في أعمال تشكيلية وموسيقية وسينمائية. وتتجلى هذه الطاقة بوضوح لدى الإخراج الذي يبتعد عن السينما السردية بطابعها التقليدي والمكرس ليدنو عميقاً من السينما الخالصة المعتقة بالشعر، وهذا ما يميز المخرج الإيراني الراحل  كيارستمي عن غيره من صانعي الأفلام بالمسطرة وقلم الرصاص. إذ أن الغوص في ثنايا الحبكات الدرامية ومفاصلها، يجعل للمشاهدة نوعاً من إعادة ابتكار رؤية جديدة للعلاقة بالعالم.

في أحد حواراته عن الأفلام اعترف كيارستمي “أتمنى دائماً ألا يسعى كل المتفرجين إلى إكمال الفيلم في أذهانهم بالطريقة نفسها، مثل أحجية الكلمات المتقاطعة التي تبدو كلها متشابهة.. لا يهم من يحلها. حتى لو كانـت محلولة على نحوٍ خاطئ فإن نوعية أفلامي تظل صحيحة أو مخلصة لقيمتها الأصلية. أنا لا أترك الفضاءات فارغة لمجرد أن يكون لدى الآخرين شيئاً ناقصاً يكملونه، بل أتركهـا فارغة من أجل أن يتمكن الآخرون من ملء هذه المساحات وفقاً للكيفية التي يفكرون بها وحسب ما يريدون هم. في رأيي٬ التعبير التجريدي الذي نقبله ونقرّ به في أشكال فنية أخرى كالرسم والنحت والموسيقى والشعر يمكن أيضاً قبوله في السينما”.

أفلام عباس كيارستمي عالم كبير يضج بالكثير من التفاصيل التي تتوق لأكثر من استقراء نقدي، وإعادة مشاهدتها محفز للتحليق في فضاءات متباينة.