تخصصات ضيق الأفق

0
90

لم تعد وسائل التواصل اليوم مجرد أدوات للتواصل كما هو عنوانها، بل أصبحت أكثر من ذلك بكثير، فقد صارت منصّات مثل فيسبوك (ميتا) و إنستغرام وتويتر مركزاً لا غنى عنه للمنظمات والأحزاب والإذاعات والدعايات، إضافة لكونها صارت منبراً وصوتاً ونافذةً للتعبير عن الذات والأفكار و الميول والتوجهات، لا بل أصبح الإنستغرام إضافة لكل ما ذُكر سوقاً لمختلف أنواع السلع والمنتوجات.

 من هنا أراد أصحاب التخصصات – وهذا من حقهم – أن يكون لهم موضع قدم ثابت في هذا الفضاء الواسع جداً، وراحوا يروجون لأنفسهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على أنهم وحدهم من يحق له الحديث عن المعرفة، ربما لكثرة ما ينشره الأفراد من الغثّ والسمين هو ما اضطرهم للتدخل أو ربما لحبّ الهيمنة وإثبات علو الكعب أو ربما أيضاً لحبهم المشاركة في هذا الفضاء الواسع بإسلوبهم الخاص والجاف الذي ألفوه طوال مسيرتهم الدراسية.

 مؤخراً طغى أصحاب التخصصات على المشهد فصرنا نشاهد من يروج لنفسه على أنه أخصائي في التنمية وآخر في التربية وآخر في الدين وآخر في الفلسفة وآخر في العلم…وكلهم يحاول حصر المعرفة في نفسه، مع العلم أن كل ما يقدّمونه من معارف نظرية يستطيع أي إنسان عاقل يمتلك أدوات البحث أن يحصل على معظمها في زمنٍ سهُل فيه الحصول على المعلومة، على أن التخصص هو من مفاهيم العلوم التجريبية.

استوقفني وأنا أشاهد مقاطع الفيديو التي تصلني كل يوم على وسائل التواصل، مقطع لأحد رواد التنمية الأسرية المشاهير يتحدث عن مدى التأثير المدمر للموسيقى وكلمات الأغاني على الأطفال والمراهقين والشباب، ويذكر جملة من الأغاني الهابطة ويعلق على كلماتها السوقية الى أن يصل في نهاية المقطع – وهنا الصدمة – لأغنية فيروز “أعطني الناي وغني” وعلى مايبدو أنه جهز المقطع كله من أجل هذه الأغنية بالذات، يقول متبسماً على طريقة الوعاظ في النصح إن هذه الأغنية تحرف الشباب عن الله وتؤدي الى الشرك به، إذ كيف يكون للناي أن يكون سرّ الوجود! وأنه يبقى بعد أن يفنى الوجود! والبقاء لله وحده!

علاوة على ذلك فإن هذا المتخصص العليم يضع أغنية فيروز في مصاف الأغاني الهابطة وهذه معضلة أخرى تدل على هبوط الذوق لديه وضعف القدرة على التمييز بين الحُسن و القبح. نعرف جميعاً أن أغنية “أعطني الناي” من كلمات الأديب الكبير جبران خليل جبران، ولا يخفى على أحد قدرة جبران الأدبية والفنية واللغوية ثم أنها من غناء الصوت الرائع عصفورة الشرق فيروز بصوتها العذب، وموسيقى الرحباني مايضفي على الأغنية مسحة جمالية فريدة.

الله الحق موجد الكل هو الوجود المطلق وكل مانراه تجليات صفاته، كل شيء نراه ونلحظه ونحسه كل لحظةٍ من لحظات وجودنا في هذا العالم سرٌ من أسرار الوجود، الله واسع بلاحدود وبلاقيود وصف نفسه بالرحيم ووضعها في موضع التأكيد والتجلّي (الرحمن الرحيم)، هو أعم وأشمل من أن يشخصن أو يُختزل في حدود المذاهب والفِرق أو على شاكلة البشر المتغطرسين وعلى حدّ أهوائهم وانتماءاتهم هنا يكون كل شيءٍ حصرياً. إذا وضع الله في تصوّرٍ ضيق فإن كل تصورات الفناء وحدود الوجود ستكون ضيقةً جداً لا تتسع للخيال والمجاز والرمز، بل وحت لاتتسع للآخر المختلف.

تساءلت بيني وبين نفسي مليّاً وأنا أعيد مشاهدة ذلك المقطع، كيف لشخص متمرس في حل المشاكل الأسرية والتعامل المباشر مع الناشئة أن يكون بهذا الضيق وأن يتجاهل أسلوب المجاز والخيال الإبداعي اللامحدود ولا يتذوق الفن ولا حساسيته الشعرية وهو يتعامل مع الأطفال والمراهقين المبهورين والمشغولين بسحر الخيال والفنون. لماذا لا يكون الخيال خلّاقاً؟ في حدود التصورات المغلقة والضيقة من الصعب أن يكون الخيال خلّاقاً، بالتالي يصعب على الفرد تذوق الجمالية الفنية للمجاز في الشعر والأدب والفن بشكلٍ عام.

 في الرواية الفلسفية الشهيرة “عالم صوفي” لأستاذ الفلسفة جوستاين غاردر يذكر أن الطفل هو فيلسوف حقيقي بتساؤلاته وتأملاته للعالم المليئة بالدهشة والخيال وكيف أننا نحن الكبار ندجّنه ونحرمه من عالمه الفريد لندخله لعالمنا العادي الذي كل مافيه عادي عادي جداً تمنع فيه الدهشة والتساؤل والخيال.  

يمكن لأي إنسان عاقل أن يفهم ما تريده الأغنية بواسطة تفعيل المخيّلة والتأمل واستشعار الكلمات. تأخذنا الأغنية بجمالية الشعر والموسيقى والصوت العذب الى الطبيعة الأم،  تخيل أنك تجلس وسط الطبيعة الغنّاء وتستمع لحفيف الشجر وتراقص أوراقها على وقع أنغام الهواء العليل، خرير المياه وتغريد الطيور،إنها موسيقى الطبيعة وهي سرٌ من أسرار الوجود، تخيل أنك في وسط هذه الجوقة الغنائية والسمفونية الموسيقية الطبيعية، تشمّ أريج الزهور وترى عناقيد العنب التي تدلّت كثريات الذهب وتسمع عزف الناي في ركنٍ ما من هذه الفيحاء والناي سر من أسرار الوجود. قد نكون في منطقتنا ذات الطابع الصحراوي محرومين من جمال الطبيعة لكن يمكننا أن نستشعرها ونحسها من خلال هذه الأعمال الفنية.

و أنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود، تعبير مجازي يصف صوت الناي الآتي من البعيد من اللامكان وامتداده العابر الذي لا يتوقف ومدى تأثير ذلك الصوت في النفوس، كثيراً ما تغنى العرفاء والحكماء والفلاسفة بصوت الناي وأنينه الذي كأنه يخاطب الأرواح للأبدان حتى تصور بعضهم أنه اقتطع من شجرة الوجود وبقائه متصلٌ ببقاء شجرة الوجود فهو منها وجد. وهذا جلال الدين الرومي يقول في مطلع قصيدة الناي:

“أنصت الى الناي يحكي حكايته

ومن ألم الفراق يبث شكايته

…أنين الناي نارٌ لا هواء

فلا كان من لا تضطرب في قلبه النار،

نار الناي سَوْرةُ الخمر وحُميّا العشق”

تتحدث  أغنية “أعطني الناي” عن تماهي الإنسان وامتزاجه بالطبيعة وكيف له أن يستمع لموسيقاها ويرد عليها بموسيقاه، تلك الأصوات التي يستحيل تحويلها الى لغة منطوقة لأننا نستشعرها بحواسنا وأحاسيسنا وعواطفنا. يقول الحكيم الصيني لاوتسه:” الموسيقى تأتي في المرتبة الثانية بعد الصمت، عندما يتعلق الأمر بما لا  يوصف” هكذا إذن يمكن أن نمتزج مع الطبيعة نستمع لها ونرد عليها، هي موسيقى الطبيعة التي يستطيع العالم كله وبكل كائناته فهمها. إن “الموسيقى تقف بمفردها وبمعزل عن باقي الفنون الأخرى…فهي فن نبيل للغاية في تأثيرها على الطبيعة الباطنية للإنسان. وهي قويّة جداً ومفهومة تماماً وعميقة في وعيها باعتبارها لغة عالميّة والتي تفوق في تميزها حتى تلك الخاصة بالإدراك، الوجود نفسه.”(شوبنهاور)

عندما تتحول المرأة في المنظور الضيّق إلى شيطان والفن والموسيقى إلى شِرك، وأن هذا الأفق المحدود الساذج هو ما يهيمن على الجو العام لمجتمعاتنا، نُدرك لماذا أننا أكثر شعوب العالم كُرهاً للفنون وفلسفة الجمال، إننا أكثر شعوب العالم تصحراً مع غنى اللغة ومجازاتها.