سأصبح ما أريد باللغة

0
30

لدي تجارب مسرحية فريدة، تختلف كل تجربة فيها عن الأخرى، وتتميز بما تقدمه لي من إثراء للذات. جميع هذه التجارب تشمل تدريس اللغة الفرنسية بطريقة أو بأخرى، الا ان طبيعة الممثلين الذين أتعامل معهم تختلف في كل وقت. أطلق هذا اللقب على طلابي، لأنني أشعر بأنني معلمة و مخرجة في آن، وبأن تلاميذي ممثلون ماهرون.

سبق أن تحدثت في مقال سابق عن تجربتي مع تدريس المهاجرين وعن الكم الهائل من الدروس التي قدموها لي. “لا أحد هنا يعرف من أنا”، كان أهمها. هي جملة كان يرددها  المهاجرون عندما كنت أعمل منسقة لغوية في إحدى بلديات باريس. وقع هذه الجملة كان كبيراً عليّ ، فقرر ضميري المتعاطف مع كل انسان يجد اللغة عائقاً أمام الوصول إلى أهدافه أن أساعده في تعلمها، أن أجد له الجمعية المناسبة ذات الخدمة المجانية، وأن أسجله فيها من أجل أن يبدأ مشواره في تعلم اللغة واتقانها حتى يغتني لسانه بالكلام  ويعرف الجميع من هو وماذا يفعل في فرنسا، وإلى ماذا يطمح. 

عندما انتهت مهمتي في فرنسا ورجعت إلى البحرين، حاولتُ العثور على مهنة في مؤسسة بحرينية ولكن لم يحالفني الحظ،، أو أن القدر لم يريد أن يبعدني عن العمل مع الفرنسيين، فوظفني للمرة الرابعة على التوالي في مؤسسة فرنسية، المدرسة الفرنسية في البحرين. لم أكن أتوقع أن تكون تجربة العمل في هذه المدرسة أحلى تجربة. في كل يوم عمل أجد مغامرة تعليمية جديدة، أعلم الأطفال القراءة والكتابة ومهارات التحدث والحساب في الرياضيات ويعلموني الحب، يعلموني ما لم يستطيع الكبار تعليمي إياه: الاستمتاع بكل نشاط نفعله لأقصى حد، الاهتمام بالآخر، خصوصاً إن مرض أحد زملائهم وتغّيب عن الحضور، حب العمل بشغف، الصدق، الأمانة، ابداء الآخرين على النفس، ودروس كثيرة لن تكفي هذه الصفحة لملئها.

يطلق على صفي مسمى: “صف العبور”، وجاءت فكرة تأسيسه هذه السنة من قبل إدارة المدرسة لرغبتهم في استقطاب أكبر عدد ممكن من الطلاب. يهدف الصف إلى استضافة الطلاب المستجدين وتعليمهم اللغة الفرنسية حتى يتمكنوا من الإلتحاق بالصفوف ودراسة كافة المواد العلمية والأدبية بهذه اللغة.  بحكم وجودنا في مدرسة فرنسية، يحتم على الجميع إتقان هذه اللغة لأنها لغة الدراسة، ومن لا يتقن هذه اللغة قد يتعثر ويواجه الكثير من الصعوبات، ويواجه البعض منهم رفضاً نفسياً لتعلم لغة قد لا تضاهي في الأهمية اللغة الإنجليزية في البحرين.

يرتاد صفي طلاب المرحلة الابتدائية، وافتتحت الصف بستة طلاب من الصف الأول، أو ما يطلق عليه الفرنسيون لقب “الصف التأسيسي”. قد يظن المرء بأنه من السهل تدريس أطفال هذه المرحلة، ولكنه من أصعب التحديّات التي أخوضها، فهي المرحلة التي يتعلم فيها الطفل القراءة والكتابة والحساب، ولكنها أيضاً المرحلة التي يكتسب فيها مهارات الحياة الدراسية وكيفية التعامل مع من حوله من معلمين وزملاء. ظننت بأنني وحيدة في هذه المهمة ولكنني وجدت في الستة طلاب الذين أدرسهم حساً عالياً بالمسؤولية والإهتمام. أتوا الى صفي وهم لا يتحدثون الفرنسية ومضى على تعارفنا ثلاثة شهور، ما زالوا يتعلمون اللغة، ومازلت أتعلم منهم كيف يصبح المرء معلماً وتربوياً في آن، ما يثير اعجابي هو تعلقي السريع بهم، كالأم التي لا تستطيع الابتعاد فترة طويلة عن أبنائها. أنا لست أماً وما زلت في مقتبل العمر، و لكنني أشعر بأنني أهتم بطلابي بقدر لا يستهان به من اهتمام الأم بطفلها. مع جود ودانيلا وإيمان وكريستيان وسليمة.  لا أريد للعمل أن ينتهي وبمجرد أن ينتهي اليوم أتمنى أنه لو لم ينته، أشتاق لهم بسرعة مدهشة وأتوق لرؤيتهم في الغد. هناك شيء من الحب يهديه الطفل لمعلمه، ليجعله أكثر إنتاجية. قد لا أحصل على قسط كافٍ من النوم بسبب طبيعة عملي، وأستيقظ مع رغبة شديدة في النوم ساعات أكثر، و لكنني بمجرد رؤيتي لهم في الصف، أسترجع نشاطي مرة أخرى، لكثر مرحهم وحيوتهم، ورغبتهم الشديدة في التعلم. 

جود، أحد أطفال صفي الذي كان يعيش في كندا وجاء إلى البحرين هذا العام سألني يوماً: ” لماذا علي أن أتعلم اللغة الفرنسية، والكل يتحدث الانجليزية في البحرين؟ أجبت عليه قائلة: “أنت في المدرسة الفرنسية الآن والكل هنا يتحدث  الفرنسية”، فأجابني قائلاً: “سأتعلم هذه اللغة بسرعة إذاً، وسأصبح أفضل من طلاب صفي”. لا شك لديّ في أن جود سيصبح من الأوائل، فإرادته قوية و ذكائه أكثر من مذهل.

سليمة طفلة تونسية، قدمت إلى المدرسة في وقت كانت قد بدأت فيه الدراسة وفاتها بعض الدروس. كانت مثل الذي يقول “أنا جديدة في هذه المدرسة ولا أحد هنا يعرف من أنا”. كانت في صف مليء بالأطفال الذين يتحدثون الفرنسية وقد مضوا شوطاً في تعليمهم، كانت تحتاج إلى المساعدة كي تتحدث ويصبح الكل يعرف من هي ومدى حبها لمساعدة الغير، فكنت بمثابة جسر العبور بالنسبة لها، المعلم الذي يجيد التحدث بثلاث لغات، وسيساعدها على التنقل بين العربية والفرنسية. اليوم سليمة تجيب على أسئلة مدير المدرسة باللغة الفرنسية بسهولة عندما يسألها عن اللغات التي تتحدثها، فتجاوب: أتحدث اللغة العربية واللغة الفرنسية. “Je parle français et arabe”.

إيمان، طالبتي البحرينية المتميزة تحب الجميع ، وترسم ابتسامة على وجوه جميع زملائها بما فيهم معلمتها. تحب القراءة وتحاول جاهدة اتقانها بالفرنسية. لا تحب أن أساعدها على تهجي الحروف، فهي تفضل المحاولة وحدها وانتظار تصحيحي لاحقاً. عندما يمرض أحد زملائها ويتغيب عن الحضور ترسم قلوباً من الحب وتهديها اياه لدى عودته إلى المدرسة.

دانيلا تحب التعلم في جو مرح وتتفاعل بشكل كبير مع الأغنية الفرنسية. هي ممثلة بارعة وتوظف هذه الموهبة في تعلم اللغة. أحب صراحتها عندما لا يعجبها التمرين المطلوب وأعرف حينها أن عليّ أن أجعل تماريني أكثر متعة لتبقى الرغبة في التعلم لديها مشتعلة. أعتبر دانيلا مقياس لجودة ما أفعل كل يوم مع الأطفال وأستشيرها في كثير من الأمور. عقل هذه الفتاة أكبر من سنها بكثير.

كرسيتيان طالبي الأصغر سناً. ذكائه في الرياضيات يبهرني. يفهم الإجابة على كثير من الأسئلة من دون الحاجة لمساعدة معلم ، ويحب مساعدة زملائه في حل المشاكل الرياضية. أبتسم على غضبه عندما يخطئ في الحل وأطلب منه تصحيح الخطأ. يستاء دقيقة ويأخذ القلم في يده للتصحيح وإكمال التمرين. قلبي يشع بالفرح عندما يخبرني كل صباح بأنني جميلة أو بأن تسريحة شعري أو ثيابي حازت على إعجابه.

عمر، طالبي ذا الطبع الحاد والحنون في آن. سريع الغضب وسريع الحب. يتكلم الفرنسية بشيء قريب من الطلاقة، و لكنه يواجه بعض المشاكل في القراءة و الكتابة. أحرز تقدماً ملحوظاً في الثلاثة الشهور الماضية. يحب أن يطل عليّ كل صباح بعبارة: “أحبك معلمة” ، ويحب في نهاية اليوم أن يساعدني على ترتيب الصف قبل الخروج من المدرسة. أعتمد عليه كثيراً ، ومتأكدة من أنه سيصبح شاباً ذا حس عالٍ بالمسؤولية.

هؤلاء هم طلابي الذين أريد تعريف الجميع عليهم ، هم طلابي الذين سيصبحون يوماً ما يريدون، والذين أتمنى أن أبقى على صلة بهم حتى يكبروا ويكتسبوا علماً أكبر من الذي اكتسبته ونقلته لهم.