يُعدّ مشروع العرب والحداثة لعبد الإله بلقزيز من المشاريع الكبرى في نقد أهم القراءات للتراث العربي الإسلامي من قبل المفكرين الحداثيين العرب. وهذا المشروع يتضمن أربعة كتب تحمل العناوين التالية: من الإصلاح إلى النهضة، ومن النهضة إلى الحداثة، ونقد التراث، ونقد الثقافة الغربية.
ما يعنينا في هذه المقالة هو الكتاب الثالث، نقد التراث الذي ينقسم إلى خمسة أقسام: مقدمات نظرية ومنهجية في التراث، التاريخ الثقافي، نقد التراث الطلب الإيديولوجي، نقد التراث البنية والتاريخ، من نقد التراث إلى نقد العقل.
في القسم الأول يركز فيه بلقزيز على موضوعة سؤال التراث باعتباره سؤال الصلة التي تربط حاضر الثقافة والمجتمع بماضيهما. والمجتمعات المأزومة هي أكثر المجتمعات عنايةً بماضيها، لعلها تجد أجوبةٍ ناجزة عن مشكلات حاضرها. وهذا ما ينطبق على العرب في التاريخ الحديث والمعاصر، وعلى العكس من الثقافة الغربية المتحررة إلى حد كبير من سؤال التراث. وقد طالب فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة المعاصرين في أوروبا بضرورة أن يُعاد التفكير في التراث الديني المسيحي، بعيداً عن يقينيات النزعة الوضعية والعلمانية المتطرفة. بالمقابل تأرجح التراث العربي الإسلامي بين النزعتين التبجيلية-التقديسية، والنزعة الإنكارية-الاحتقارية على حد وصف عبد الإله بلقيز.
يتفق بلقزيز مع العروي في أن سؤال التراث ما كان ليطفو على سطح الوعي العربي لو لم يكن ثمة من أيقظه، أو وفر لانبعاثه الأسباب. ولقد أيقظه الآخر الأوروبي، بمدنيته وثقافته وأسئلته التي اندفع الفكر العربي يجيب عليها. أي أن الآخر هو من أنتج سؤال الأنا. غير أن هذا السؤال الذي ولد في النصف الأول من القرن التاسع عشر بدأ سياسياً، وسرعان ما سيصبح فكرياً في بدايات القرن العشرين. بينما الاندفاعه الكبرى في ميدان الدراسات التراثية-في صورته العلمية الحداثية-حصلت في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين.
يرى بلقزيز أن تاريخ الدراسات التراثية للتاريخ العربي الإسلامي مر بثلاث حقب أو لحظات تاريخية: لحظة التاريخ الثقافي، لحظة نقد التراث، لحظة نقد العقل. الأولى تبدأ مع بطرس البستاني في مؤلفه دائرة المعارف والذي يعد من المؤسسين في مجال التاريخ الثقافي للتراث العربي. لكن البداية الفعلية لممارسة التاريخ الثقافي كانت مع فرح أنطون في مقالاته العميقة عن ابن رشد. غير أن النقلة الأوسع كانت مع جرجي زيدان في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي، وفي اطروحات طه حسين أحد الرواد الكبار في هذا المضمار.
اللحظة التاريخية الثانية تبدأ بعد نكسة 1967 حيث أصبح الصراع بين الأصاليين والحداثيين شديداً حول توظيف التراث العربي الإسلامي ايديولوجياً. وإذا كان الليبراليين العرب الأوائل دشنوا استخدام المنهج العلمي بمستوى محدود وأولي في النظر إلى التراث، فإن اليساريين ذهبوا في دراسة التراث نحو آفاق إيديولوجية ثورية ومعرفية وفق المادية التاريخية. لذلك المعركة بالنسبة لمثقفي الحداثة من اليساريين والماركسيين هو في توظيف التراث خدمةً لأغراض التقدم، ولكن المحكوم بإطار الايديولوجيا الضيق.
أما اللحظة التاريخية الثالثة فتتميز بنقدها لبنية التراث، ورائدها أدونيس في مؤلفه “الثابت والمتحول” حيث اختار قراءة بنية الثقافة العربية برمتها، وليس فقط الشعر والأدب. ويرى أدونيس بأن أفق الحداثة يفتحه نقد التراث. أما الهدف من نقد الموروث، فهو تحرير العربي من كل سلفية، ونزع القدسية عن التراث. أي النظر إليه بما هو منتوج تاريخي، تسري عليه أحكام المكان والزمان، والنسبية البشرية.
النقلة الواسعة في الدراسات التاريخية للتراث العربي الإسلامي هي في الانتقال من مرحلة نقد التراث إلى نقد العقل. وفي هذا المسار يدعو محمد عابد الجابري إلى إيجاد حداثة من الداخل، أي حداثة من داخل التربة الفكرية العربية وإلا كانت حداثة مستعارة، مفروضة من فوق، مما لا تُكتب لها حياة معها. ولذلك جاهر الجابري صراحةً إلى الانحياز الثقافي لخيار النهضة والحداثة والتقدم.
بينما تؤرخ أعمال محمد أركون، في مجال الدراسات الإسلامية، لميلاد لحظة الانعطاف المنهجي في ميدان دراسات التراث. وهي لحظة الانتباه الكبير إلى الثورة المعرفية الجديدة، التي دشنتها العلوم الإنسانية والاجتماعية في الغرب. وإنتاجات أركون الكبيرة تقوم على خمس استراتيجيات معرفية حاكمة لمشروعه، يلخصها بلقيز في التالي: نقد الدراسات الإسلامية الكلاسكية، ونقد العقل الإسلامي، وإعادة قراءة النص القرآني في ضوءٍ منهجي جديد، والحفر في جذور النزعة الإنسانية في التراث العربي الإسلامي الكلاسيكي، وأخيراً نقد الصلات والروابط التي قامت بين الدين والدولة في الإسلام.
ويختم بلقزيز كتابه بالحديث عن مقاربة عبد الله العروي لمسألة العقل في الإسلام وفي الثقافة العربية الإسلامية، حيث يقف دافعان وراء هذه المقاربة، هما: الاطمئنان المزمن، في الوعي الإسلامي، إلى التلازم بين الدين والعقل، وملاحظة ظواهر الفجوة الكبيرة بين خطاب يبجل العقل والعقلانية، وواقع ينطق بالشواهد الدالة على التجافي بين السلوك الفردي والجماعي وبين العقل.
بحق يُعد كتاب نقد التراث لعبد الإله بلقزيز مصدراً هاماً وأساسياً للباحثين والدارسين للتراث العربي الإسلامي، لأنه اهتم بقراءة عشرات المصادر من الكتب والدراسات التي أُلّفت خلال ما يزيد على قرن في موضوع التراث والدراسات الإسلامية في نطاق الثقافة العربية، فضلاً عن التحلي بالعمق والموضوعية في طرحهِ وانتقادهِ لكبار المفكرين العرب الحداثيين الذين أغنوا المكتبات العربية بمؤلفاتهم.