تعويذة جلب زهوان

0
82

لا أملك أن أتكلم

وأنا أنصحكم أن تلتزموا مثلي

بالصمت المحكم

الراوي

تتهيأ لركوب قطار في منتصف ليل تظنه ساكتاً، جنباً إلى جنب مع ركاب آخرين، ليس بالضرورة أن تعرفهم، غالباً ستراهم مرة وحيدة في الحياة، وحتى لو شاهدتهم ثانية، فليس من الضروري أن تذكر وجوههم أو أسماءهم لو عرفتها صدفة أثناء حديث عابر.

لكن، حين تقابل عبده عبد الله عبدون أبو عابد، التي خلقها الكاتب صلاح عبد الصبور في نصه المسرحي “مسافر ليل”، لا يليق أن تنسى هذه الشخصية التي قد تشكل ملمحاً منك أو كلك! فكيف لو شاهدتها مجسدة على “خشبة” قطار صنع لهذا النص، فأنتج عرضاً قريباً بالمسافة من المشاهد، حدّ التلامس، وحدّ مشاهدة تعابير الممثلين التي شكلت جزءاً كبيراً من فهم العرض؟(1)

تتشارك مغامرة هذا العرض شخصيتان تسكبان الحدث؛ الراكب وعامل التذاكر. لكن من أجل فهم معمق أكثر، وضع النص شخصية الراوي -الأكثر من عليم- الذي كتب عبد الصبور أن وجهه “ممسوح بالسَّكينة الفاترة، صوته معدني، مبطن باللامبالاة الذكية”!(2) والقادر على إدماج الجمهور الحاضر إلى عمق الحكاية، ومدّه بالتفاصيل التي يبني عليها تطور الحدث عند الشخصيتين.

وعبده هو “نموذج للإنسان بلا أبعاد”؛ شكل يمكن أن تلقاه كثيراً في حياتك اليومية، دون أي توصيف يحيل إلى تصور محدد. لكن من حظ العرض أن يستلم الدور ممثل قادر على لعب الشخصية، مواصفاته الجسمانية بضآلة جسمه، وملامحه المألوفة كملامح عامة دون علامة مميزة، بالإضافة إلى قدرة هائلة على التعبير عن هذا “العبد” -بتجرد عن المعنى الديني- من سلالة عبيد خانعين لأي قوي يصطدمون به، حتى لو كان صدفة. لذلك، عندما يبدأ عبده في تسلية نفسه لتزجية الوقت في الليل الطويل للسفر، يخرج من جيبه محفظة جلد الغزال التي يكتب بداخلها التاريخ في عشرة أسطر وأسماء يرددها: الإسكندر/ هانيبال/ تيمورلنك/ هتلر/ وأسماء أخرى على نفس الوزن، ليست بالضرورة ذات دلالة، وكلها أسماء تسببت في مقتل مئات الآلاف من البشر، وأنهكت وأهلكت أنفساً كثيرة لا نعرف أسماءهم ولا عوائلهم، لأنهم غير مذكورين، وكل الانتصارات تنسب للقادة الذين دفعوا بحياة الآخرين ونجوا بحياتهم، بغض النظر عن كيفية كتابة التاريخ لهذا “المنجز”! ولِمَ يقوم شخص، مثل عبده، بكتابة هذه الأسماء وعلى محفظة جلدية، وليست ورقة مثلاً قابلة للتلف؟! كإشارة للاحتفاظ بها لمدة طويلة، وترديديها في سبيل الحفظ والتسميع لنفسه!

ولأنه يردد الإسكندر مراراً، بما يشبه تعويذة جلب سحرية، يأتي إليه الإسكندر في هيئة عامل التذاكر من آخر القطار/ الخشبة/ منصة العرض، ومن بين الجمهور الذي يتفاجأ بدخوله المباغت ملبياً بصوت جهوري خشن، وواثق، لنداء الراكب الذي استدعاه وتورط بما فعله. وحتى بعد تيقنه أنه شخصية الإسكندر، هل حاول العبد التعامل بشكل مختلف عن هذه الشخصية في حياتها السابقة؟ أبداً، بل عرض عليه أن يكون سرجاً لجواده، أو فرشة لنعاله(3) وغيرهما من الأمكنة الذليلة، وبلا مبرر واضح، ولا تفاوض حول الاختيارات الأخرى أو السؤال لم قد يفعل هذا به أصلا! بشرط ألا يقتله! وما الحياة التي تتشبث بها ويستهويك عيشها أيها الراكب بلا كرامة؟ ويخالف هذا ما يميل إليه الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، الذي يرى فيه أن الفرد يتحرك بشكل واعٍ، أما الجمهور فيتحرك بشكل لا واعٍ، لأنه محكوم بسياسة القطيع الذي يحرك بيد أي أحد قادر على القيادة. وعبده يتحرك بفكر الجماعة التي تتوخى الحذر، وتتوقع السلامة، وليس بوعي الفرد المجازف الجريء الذي يسأل: وماذا لو قلت لا؟

وهذا الإسكندر يتحول إلى شخصيات أخرى يستبدلها إلى زهوان، وعلوان، وعشري السترة، طوال العرض، متزامناً هذا مع تبدل الشخصية “المستبدة”، وليس شيئاً آخر؛ السلطة تتغير، ويظل الضعيف كما هو مكانه، وكل من يأتي بعده، كل شخصية/ سترة تكشف عن سلطة جديدة/ ديكتاتور معروف أو مستجد؛ في السياسة، الدين، أو في المجتمع، حيث يتسلط الكل على الكل حسب التراتبية المحفوظة، المهم أنه يجد ضالته في راكب مغلوب على أمره بالفطرة، لا يتوانى عن إفراغ كل شهوة السلطة عليه. وهكذا يفعل مفتش التذاكر؛ الذي يبدأ أولاً بالتهام تذكرة الراكب، علامة حق تواجده على القطار، ومن ثم بطاقته الشخصية تباعاً، وهي التعريف بهويته في الحياة، ويصفه بأن “ألذ طعام للإنسان هو الأوراق.. وأشهى ما في الأوراق هو التاريخ؛ نأكله كل مكان وزمان، ثم نعيد كتابته في أوراق أخرى!”(4). وهذا الأكل، سواء كان فعلياً أم اعتبارياً، هو أكل حق وكرامة وكينونة شخص آخر؛ وبالتالي أصبح في عداد العدم.

وتتدرج الأحداث في حوارات ممزوجة بين الرمز والعبث والواقعية، حتى تصل تهمة الراكب إلى قتل الله، وسرقة بطاقته الشخصية، وصار المسوغ للقتل جاهزاً لا يحتمل التأجيل، وصار أيضاً على المفتش، أو الإسكندر، أو زهوان، أو عشري السترة، أو كلهم مجتمعين، محاكمة الراكب على هذا الفعل الشنيع، على سبيل تنفيذ العدالة. فما المتوقع من الراكب المسالم غير الاستسلام المستفز، وعدم المقاومة لهذا الموت العبثي؟ لتعاد الكرة مرة أخرى لراكب آخر قادم، وحقيبة شخصيات مستبدة لديها متسع أن تشمل برعايتها قتلى آخرين يزهو بهم تاريخها السابق.

الأداء كان سيد العناصر المسرحية في هذا العرض من الشخصيات الثلاثة حسب ترتيب الظهور: الراوي/ الراكب/ مفتش التذاكر. كل دور مدروس له ممثل مجتهد أظهره باستفاضة وفهم عاليين كما يجب. علاء قوقة: المفتش الذي منذ دخوله الأول في استجابته للراكب لم يحِد عن الخشونة والتعامل الحاد، حركة جسده وإيماءات وجهه، حتى في لحظات الصمت القليلة، كلها تصب في الأداء الذي يجيده، وهو الفنان القدير، والأستاذ الأكاديمي المتمكن، وهو لا يعري سيكولوجية البشر في الشر والبطش، لأنه ببساطة دخل بهذه الصفات بشكل صريح، وهذا النموذج موجود في الحياة بوفرة -كما نموذج الراكب والراوي-. ورغم الشخصية السلطوية البشعة في جميع أبعادها، وطول إقامة الحدث، إلا أن المتلقي يميل للتفاعل معه على الراكب!

يقيناً هي حالة غير سوية، وقد تقترب من متلازمة “ستوكهولم”. لكن عند التمعن في الفعل، سيشهد المتفرج طرفي صراع غير متكافئين: مفتش التذاكر القوي جداً، والراكب المستسلم جداً، الذي يحمل شعاراً دائم الاستعمال: “الأيام غريبة.. والأوفق أن نلتزم الحيطة”(5). لذا فهو يستبق السوء في كل الأحوال، ويتوقعه، وسيرضى به حتماً! تائه، محير، لا يتمسك بشيء، حتى حقيبته التي فقدها في لحظة عدم اتزان خارج القطار، لم يأبه بها كثيراً، وواصل تفكيره في كيفية تزجية الوقت كما يشرح الراوي، وهذا يعني أنها صفات أصيلة فيه، وضعفه لا يعود لوجود شخص أقوى منه، بل هو مدعاة للتسلط، ولو لم يكن المفتش، لكان أي أحد غيره.

ولا يخرج الراوي من دائرة أنه نموذج المنظرين والشارحين الذين يتحدثون طوال الوقت، لكنهم مهما تحدثوا وصدقوا في وصفهم، سيكونون في صف المتفرجين مكممي الأفواه، وهذا ليس اجتهاداً في القراءة بقدر ما هو لمحة تأملية في تصميم البوستر الدعائي للمسرحية؛ الراوي بشريط لاصق على الفم/ عشري السترة بملامح ديكتاتوري صاخب، له أكثر من وجه ينشق من وجهه/ الراكب الذي أشبع تحليلاً في السطور السابقة علامة الاستسلام والخنوع، وما أفصح عنه البوستر من علامات واضحة، كان ينقصه أنه يلصق في مرآة تظهر صورة كل فرد من الجمهور أتي لمشاهدة العرض.. فلِمَ؟

ذلك أنه جانب شديد الحساسية والذكاء في أن العرض قد أوقع جمهوره الحاضر في فخ الشراكة. تصميم الديكور المسرحي في العروض السابقة الكثيرة التي نفذت نص “مسافر ليل”، منذ وقت تأليفه في 1968، وقدمت على العلبة الإيطالية، وأيضاً في فضاءات مغايرة كما هنا، هي الأنسب لها، حيث اختيار المكان على شكل قطار له دلالاته التي لا تفوت نبيهاً: القطار لا يتوقف بناء على رغبة أحد/ يحمل كل الناس بلا تفرقة/ المتحكم الحقيقي فيه غير ظاهر/ والمتحكم الحقيقي هو عشري السترة، ماسك زمام الأمور، مشيع القهر والظلم بالمنطق والحيلة التي لا يخفيها عن المتلقي، كما أشار لها المفكر الكواكبي في “طبائعه الاستبدادية”؛ بأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة! ولكنها تفرض على عبده الراكب -وأمثاله- المبتلى بتحديث الاتهامات والقوانين ضده.

 وترتيب الجمهور على مقاعد المتفرجين/ المسافرين في هذه الحياة التي تمثلها هذه الرحلة، لا تفصل بين اللعبة المسرحية المتوقعة والجمهور مسافة أبداً، لأنهم في قلب الحدث تماماً؛ مندمجون، مستمتعون، ضاحكون مع الكوميديا السوداء. لكن بعد انتهاء العرض، سيدرك الحاضرون أنهم كانوا مشاركين، مستلبين كما الراكب، يتفرجون دون أن يكون لهم حق الاعتراض أو رفع الظلم عنه.. تماماً كما في الواقع! وربما سيكونون هم في دور المسافر -أي مسافر- وفي الليل -أي ليل- بدون التعريف، وتنتهي حياتهم ببساطة مخيفة.. لا يرغب فيها أحد، فيضطرون لتفعيل قانون عبده: الأيام غريبة.. والأوفق أن نلتزم الحيطة.

الهوامش:

  1. عرض “مسافر ليل” قدم في فضاء مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، من تأليف: صلاح عبدالصبور، وإخراج: محمود فؤاد صدقي، وتمثيل: علاء قوقة/ حمدي عباس/ جهاد أبو العينين.
  2. مسرح صلاح عبدالصبور (المجلد الثاني)، دار العودة، بيروت، ص 617.
  3. المرجع السابق، ص 629.
  4. المرجع السابق، ص ص 646.
  5. المرجع السابق، ص 628.