العودة للنفط والوقود الأحفوري.. مُظفرة أم مؤقتة؟

0
19

أدت موجة التعافي الاقتصادي التي بدأت تعمّ العالم بعد اتساع نطاق عمليات التلقيح ضد كوفيد-19، إلى ارتفاع الطلب على الطاقة في آسيا وأوروبا، وارتفاع أسعار الغاز إلى مستويات غير مسبوقة، هدد بشبح أزمة امدادات للغاز في شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين، راحت تحوم فوق بلدان أوروبا وآسيا المكشوفة – استيرادا – أمام حاجات استهلاك الغاز المتنامية.

 ولأول مرة تجري المفاضلة بين سلامة وامدادات الطاقة، وتحديدا الطاقة الأحفورية، متمثلة في امدادات الغاز الطبيعي خصوصاً، وحماية الكوكب من كوارث التغيرات المناخية؛ فقد فرضت امدادات الطاقة الأحفورية نفسها كأولوية تتقدم على أجندة المناخ العالمية التي باتت تتصدر اليوم اهتمامات معظم المشتغلين بالشأنين السياسي والاقتصادي العالميين.

حدث ذلك “بفضل” أزمة شحّ امدادات الغاز في أوروبا وأنحاء من آسيا التي ظهرت ملامحها الأولى أواخر شهر سبتمبر الماضي، والتي شعر بها الناس في جميع أنحاء العالم من خلال ارتفاعات في أسعار السلع والخدمات، وبضمنها خدمات الشحن البحري سبّبها ارتفاع كلفة الإنتاج نتيجة لارتفاع سعر الغاز الذي فاق الطلب عليه سواءً للتدفئة أو للاستخدامات الصناعية، كوقود أحفوري بديل للفحم والنفط، أقل انبعاثات منهما – فاق الطاقات الإنتاجية والتخزينية (للغاز). حدث هذا ولم يكد فصل الشتاء يبدأ في نصف الكرة الشمالي.

لقد أدى ارتفاع تكلفة استخدام الفحم، برفع سعر الكربون على مستخدميه، الى زيادة الطلب على الغاز. لكن ارتفاع أسعار الغاز أدى للإقبال من جديد على استخدام الفحم. ولم يكن هذا ليحدث (ارتفاع أسعار الغاز)، لو لم تحدث انفطاعات في امدادات طاقة الرياح (تراجع مستوى هبوب الرياح في شمال أوروبا هذا الصيف)، والطاقة الشمسية؛ ولو كان تخزين البطاريات أكثر تقدما. حتى بريطانيا التي تتمتع بأكثر الظروف الجغرافية ملاءمة لطاقة الرياح من أي مكان آخر في أوروبا، استحوذ الغاز فيها على حوالي 60% من مصادر توليد الطاقة الكهربائية فيها وقت اندلاع أزمة الطاقة أواخر سبتمبر الماضي.

وبمعنى من المعاني، فقد كان للهرولة نحو الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، تأثيراً في زيادة الطلب على الغاز، ربما باعتباره “وقود الجسر” الوسيط بين مصادر الطاقة الهيدروكربونية ومصادر الطاقة المتجددة. يضاف الى ذلك، أن سعي أوروبا لتكون رائدة عالمياً في مجال تغير المناخ، قد غذى هذه النزعة في أسواق عالمية أخرى، ومنها الاقتصادات سريعة النمو في آسيا التي حدت حدوها في الابتعاد عن الفحم، فقط لتجد أوروبا أن دولا مثل الصين والهند تتنافس الآن على نفس إمدادات الغاز الطبيعي المسال التي أصبحت أوروبا تعتمد عليها من دول مثل الولايات المتحدة وقطر.

وبعد أن كان سوق الغاز محصوراً في وسيلة نقله الوحيدة تقريباً، وهي خطوط الأنابيب، أصبح اليوم ينافس سوق النفط العالمي بعد أن نجح منتجوه في توسيع رقعة وسيلة ثانية متمثلة في صناعة تسييل الغاز
(Gas liquefaction)، ونقله بواسطة السفن قبل إعادته الى حالته الغازية السابقة (Regasification)، وتثوير نموها بصورة غير مسبوقة. 

للمفارقة، فإن أكثر الدول في العالم انحيازاً تاماً، ومتطرفاً إن شئتم، لمصادر الطاقات المتجددة، وأكثرها عداءً سافراً للوقود الأحفوري، لاسيما الفحم والنفط، وهي الدول الأوروبية، هي أكثر الدول التي تضررت، ولازالت، من أزمة امدادات الطاقة، لاسيما امدادات الغاز، التي فاجأت العالم في سبتمبر الماضي. وهي مستمرة في هذا النهج، رغم اتضاح عدم واقعية المقاربة التي تعتمدها والتي تدعو العالم للأخذ بها، وهي الهرولة المتسرعة في التخلي عن الفحم ومن بعده النفط، في مقابل إحلال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والطاقة الهيدروليكية وغيرها، محلهما. فالحكومات الأوروبية قرأت الارتفاعات الشاهقة والمفاجئة لأسعار الغاز العالمية، على أنها دليل يؤكد صحة نهجها في ضرورة الإسراع نحو احلال الطاقة المتجددة محل الطاقة الأحفورية. لكن الشك والقلق بدأ يساور المستهلكين، وبدأ الغضب ينتابهم جراء الكلفة الباهظة لهذه العملية، والتي أظهرتها أزمة الامدادات الأخيرة، والتي يمكن أن تتكرر في الأمد القريب في ضوء عودة الاقتصادات العالمية تباعا الى دورة الأعمال كالمعتاد “Business as usual” بكامل طاقتها.

على المقلب الآخر، قد يتراءى لأقطاب صناعات الوقود الأحفوري، لاسيما الغاز، أنهم وجدوا أخيرا متنفساً جديداً – بحسبان ضغوطات لوبيات المناخ المتزايدة ضد صناعاتهم – في التحالف الذي أقاموه مؤخرا مع كبار متعاملي ومضاربي عملة بيتكوين، خرقاً مهما للضغوطات التي تحاصرهم؛ وذلك على خلفية استغلال ولاية تكساس النفطية قيام الصين بطرد العاملين المنجميين الرقميين وصنّاع العملات المشفرة قبل بضعة أشهر، لاستقبال هؤلاء والترحيب بهم في الولاية التي نظمت أول اجتماع ضمّ حوالي مائتي شخصية من كبار رواد عملة البيتكوين وأقطاب صناعة النفط والغاز الطبيعي في تكساس وكاليفورنيا وكولورادو ولويزيانا وبنسلفانيا ونيويورك وأستراليا وبريطانيا، تباحثوا خلاله حول إمكانية استخدام الغاز الطبيعي المهدر في الجو، لتشغيل منصات تعدين البيتكوين بدلا من الكهرباء، بما يقلل من انبعاثات الغازات الدفيئة ويحقق الفائدة للطرفين.

لكن تعيّن عليهم الانتظار قليلاً قبل معرفة اتجاه الريح التي كانت ستهب بقوّة – حسبما كان متوقّعا – بعد أيام قليلة، من صوب غلاسكو التي استقبلت كبار قادة العالم في أكبر تظاهرة عالمية بعد الجائحة، في مؤتمر الأطراف السادس والعشرين للمناخ (COP26)، والذي جاءت بعض قراراته على غير ما اشتهته سفن أقطاب صناعة الوقود الأحفوري، لا سيما الفحم الذي ذكر بالاسم لأول مرة في ميثاق غلاسكو للمناخ (Glasgow Climate Pact) الذي صدر في ختام المؤتمر.  

لكن الخلاصة التي يمكن للمرء الخروج بها من نتائج هذا المؤتمر، هي أن الوقود الأحفوري، خصوصا الفحم والنفط، باعتبارهما أكثر مصدرين للطاقة التقليدية (Conventional energy sources) تُوجه لهما أصابع الاتهام في مستوى انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون – مازال لديهما الوقت لتمويل خزائن الدول المنتجة والمصدرة لهما. فموعد استحقاق كتابة شهادة وفاتهما، لازال غير قريب، خصوصا بالنسبة للنفط الذي لم يتطرق اليه المفاوضون، لاسيما من الدول الجزرية والدول المستهلكة للنفط، لاستمرار حاجة الجميع إليه حتى السنوات العشرين القادمة.