التضخم صفة ملازمة للاقتصاد الرأسمالي. ومن الاقتصاديين من يعتبر أن نسبة معقولة من التضخم في أي بلد لا بأس بها، بل وصحية للاقتصاد. غير أن مشكلة التضخم ظلت على مدى عقود طويلة من السنوات تقلق المستهلكين والشركات والسياسيين، كلا من زاوية مصالحه. ويبلغ هذا القلق أشده منذ العام الماضي 2021 وحاضرا، وقد يمتد إلى أمد طويل قادم. في الولايات المتحدة الأميركية يبلغ التضخم 7% حالياً، وهو الأسرع منذ 40 عاما. ويُقرُّ مصرف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الآن بأن هذا الاتجاه ليس مؤقتا. وهكذا هو الحال تقريبا في كثير من البلدان المتقدمة والنامية.
النظرية التقليدية هي أن التضخم ناتج عن الكثير من الأموال التي تطارد عددًا قليلاً جدًا من السلع، ما يدفع بالأسعار ارتفاعا. لذا تتعرض المصارف المركزية لضغوط شديدة من أجل “تشديد” أو تقليص المعروض النقدي. وفي الحقيقة أنه أينما تفاقم التضخم تكون سياسات المصرف المركزي النقدية والسياسات المالية هناك هي المتسبب الأساسي، إلى جوانب عوامل أخرى، داخلية وخارجية. في ظروفنا العالمية منذ أزمة جائحة كورونا يعود للعوامل الخارجية دور متزايد مع تباطؤ الإنتاج أو الإغلاقات، وبالتالي تقطع سلاسل الإمداد. وبالنسبة لبلداننا المستهلكة لغالبية حاجاتها يُبدي العامل الخارجي تأثيرا أشد. ومع ذلك تضرب مشكلة التضخم بجذورها الأساسية في السياسات المالية والنقدية، وتعتمد المعالجات المتوسطة والطويلة الأمد على صحة أو خطل هذه السياسات تحديدا.
نعني بتلك السياسات هنا قبل كل شيئ نهج التيسير الكمي، المتمثل في إصدار المصرف المركزي سندات خزينة الدولة نيابة عنها وبيعها على المصارف والشركات والأفراد، محليا وفي الأسواق العالمية، كأداة من أدوات الدين العام وطبع مزيد من العملة لتمويل الشراء. وفي مملكة البحرين تستخدم هذه الأصول لتسديد فوائد الديون المستحقة على الدولة وتمويل الميزانية وتمويل الميزان التجاري الدولي. كما أنها تضمنت في عام 2020 حزمة الدعم المالي والاقتصادي للشركات والأفراد لمواجهة أعباء كورونا. وقد خففت حزمة الدعم لعام 2020 البالغة 4.3 مليار دينار من بعض أعباء الشركات والأفراد، إلا أن حصة الأسد كانت من نصيب المصارف. كما تعهد المصرف المركز بدعم المصارف بالسيولة اللازمة. وفي حين اشترط المصرف المركزي على المصارف تأجيل أقساط سداد القروض للشركات والمواطنين الراغبين، إلا أن الفوائد والرسوم ظلت سارية. وحسب رئيس مجلس إدارة جمعية مصارف البحرين عدنان يوسف “تعد الأرباح المجمعة للبنوك خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري هي الأعلى في تاريخ قطاع المصارف التجارية، نتيجة الفوائد الناتجة عن تأجيل القروض خلال جائحة كورونا” (الوطن، ديسمبر 2021). كما أوضحت بيانات مصرف البحرين المركزي أن ربحية البنوك تحسنت بفضل تأجيل أقساط القروض والتي بلغ مجموعها ملياري دينار من 3 مارس 2020 حتى 31 أكتوبر 2021.
نتيجة تلك الإجراءات مجتمعة، كما في كل سنة، أنْ ارتفع الدين العام في البحرين إلى 14.41 مليار دينار (37 مليار دولار) بنهاية نوفمبر 2021، مقارنة بنحو 13 مليار دينار (34 مليار دولار) لنفس الشهر من عام 2020، أي بنسبة نمو نحو 10%.
يجدر هنا أن نبين للقارئ أن هذه ليست هي الفكرة الأصل من وراء سياسة التيسير الكمي، التي اخترع مصطلحها (Quantitave Eas “QE”) البروفيسور البريطاني، الاقتصادي الألماني المولد ريتشارد ويرنر عندما كان يعمل في اليابان في التسعينات. حينها قامت الحكومة اليابانية بحفز الطلب على المساكن، مما أدى إلى ارتفاع حاد للأسعار، حتى انهار السوق كنتيجة حتمية، جارفا معه الاقتصاد. وصفة ويرنر للتيسير الكمي آنذاك لم تعن إنشاء الأموال المتضخمة للأصول التي نراها اليوم. بل أنه أوصى بزيادة الناتج المحلي الإجمالي من خلال دفع الأموال إلى الاقتصاد الحقيقي المنتج، الذي يزيد من عرض السلع ليواكب الطلب عليها وحجم المعروض النقدي المتاح، ويوسع السوق الداخلي أمام رأس المال المحلي المنتج ويفتح أمامه آفاق التصدير، بما في ذلك للحد من الواردات التي تلتهب أسعارها في الفترة الأخيرة. ناهيك عن أن ذلك يُوجِدُ فرص عمل جديدة إضافية، فيساعد كل ذلك على إحداث الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وهذا بالضبط ما يوصي به جميع البلدان لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية بجانبيها (المزمن منذ عامي 2008 – 2009 وتبعات جائحة كورونا). وسنعود لكيفية تطبيق مفهوم البروفيسور ويرنر للتيسير الكمي لاحقا.
الجانب الثاني – سعر الفائدة، وهو من صلب وظيفة المصرف المركزي النقدية. غير أن مصرف البحرين المركزي لا يملك هامشا كافيا من الاستقلالية في رسم سياسة تحديد سعر الفائدة (كما الحال بالنسبة لسعر صرف الدينار البحريني) نظرا لثبات ارتباط الدينار بالدولار الأميركي. وقد جرت الإشارة من قبل رئيس مجلس التنمية الاقتصادية إلى ذلك في أحد قمم المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس قبل سنوات. إذن، فسعر الفائدة لدينا يحدَّد تناظرا وذلك الذي يحدده مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. الأخير، وبداعي السيطرة على التضخم المنفلت لديهم (7% حاليا)، يعلن عن توجهه في مسارين متوازيين : الأول، التوقف عن سياسة التيسير الكمي وثانيا، رفع سعر الفائدة تدريجيا وعلى ثلاث دفعات خلال العام الجاري 2022.
الحجة الظاهرية من وراء رفع سعر الفائدة هو أنه سيكبح الطلب ليقترب من التعادل مع العرض. لكن الذي سيحدثه حقيقة في الظرف الحالي هو الاستجابة لنظرة رأس المال الكبير للشركات الصغيرة والمتوسطة المستهدفة على أنها “غير أساسية” في قدرتها على ممارسة الأعمال التجارية، وأن رأس المال الكبير قادر على أن يحل محل تلك المؤسسات، كما تفعل بعض الشركات العائلية لدينا، خصوصا عندما تنشئ فروعا لها تمارس أعمال حتى ذوي المهن البسيطة. بالنتيجة تفلس أعداد كبيرة من المؤسسات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة. رفع أسعار الفائدة سيُحمِّل الشركات الصغيرة والمتوسطة الباقية على قيد الحياة أعباء مضنية فوق حالتها الصعبة أصلا، وقد يكون بمثابة الضربة الأخيرة. حال الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة عندنا لا يختلف كثيرا عن مثيلاتها الأميركيات وبقية بلدان العالم، حيث تم في أميركا إغلاق 200 ألف مؤسسة أكثر مما في سنوات قبل الجائحة. هذه المؤسسات الأكثر تضررا من الأزمة الاقتصادية المالية المزمنة وآثار الجائحة هي التي تعتبر بمثابة العمود الفقري للاقتصاد غير النفطي، وتشكل حوالي 95% من إجمالي عدد المؤسسات الاقتصادية الخاصة في البحرين.
وهكذا، فإذا كان خرطوم التيسير النقدي موجها لتغذية القطاع المالي والمضاربات العقارية والمالية (بما في ذلك شراء البتكوين وغيرها من العملات الرقمية) والمراهنات ومظاهر البذخ والاستهلاك الطفيلي من جهة، وإذا كان سعر الفائدة سيتجه صعودا من الجهة الأخرى، فستخسر الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة كثيرا في الصراع من أجل البقاء. لكن ذلك في نهاية المطاف سينعكس أزمة خانقة على الاقتصاد برمته إنتاجا واستهلاكا وتوظيفا.
بحثا عن حل للمعضلة نعود ثانية إلى مفهوم البروفيسور ويرنر، لكن من زاوية التطبيق العملي هذه المرة. يستعرض ويرنر التطبيق على مثال بلدين، ألمانيا (التي تطبق نموذجا أقرب إلى اقتصاد السوق الاجتماعي) والصين الإشتراكية. ويكشف سر قدرة الشركات الألمانية الصغيرة على المنافسة، بينما لا تستطيع مثيلاتها الأميركية ذلك. وينسب الفضل إلى 1500 بنك مجتمعي غير هادف للربح في ألمانيا، وهو أكبر رقم في العالم. 26.6% من الودائع الألمانية مع بنوك تعاونية و42.9% مع بنوك إدخار مملوكة ملية عامة تسمى Sparkassen، تقتصر قانونيا على الإقراض في مجتمعاتها المحلية. تقدم هذه الشركات مجتمعة أكثر من 90% من إقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة. بينما تقرض المصارف الكبيرة الشركات الكبيرة والمضاربين الماليين على نطاق واسع. النتيجة : لم تتأثر المصارف المجتمعية الألمانية بالأزمة المالية الاقتصادية العالمية عام 2008 وتمكنت من زيادة إقراضها للشركات الصغيرة والمتوسط بعد عام 2008، بينما أصبحت الشركات الألمانية الصغيرة والمتوسطة هي الرائدة في السوق العالمية في العديد من الصناعات. وفي الفترة ما بين أزمة 2008 العالمية وبداية جائحة كورونا لم تشهد ألمانيا ركودا ولا زيادة في البطالة.
كما يضرب ويرنر مثلا بالصين التي يُعْزِي نجاحها إلى شبكتها الواسعة من المصارف المجتمعية منذ أيام زعيمها ماو تسي تونغ، حيث كان لدى الصين نظام مصرفي وطني مركزي واحد. وبتوجيه من دنغ شياو بينغ تم في عام 1982 إصلاح نظامها النقدي وأدخلت آلاف البنوك التجارية، بما في ذلك مئات البنوك التعاونية. تبع ذلك عقود من النمو المزدوج الرقم. كما تم قمع إنشاء الائتمان المصرفي الضار لمعاملات الأصول والاستهلاك، في حين تم تشجيع الائتمان الإنتاجي.
هذا النموذج، الذي يعني الاستغناء عن الوسطاء وتشغيل المصارف المجتمعية لإنشاء ائتمان للإنتاج المحلي، هو أيضا وراء نجاح عمل بنك داكوتا الشمالية (BND) في الولايات المتحدة الأميركية، الذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمان، وهو البنك الأمريكي الوحيد المملوك للدولة. وأيضا ولاية نورث داكوتا هي الوحيدة التي أفلتت من ركود 2008-2009، ولديها ميزانية حكومية لم تنخفض أبدًا إلى اللون الأحمر.
في الظروف الاقتصادية الحالية يوصي البروفيسور ويرنر بإصلاح النظام النقدي عن طريق: حظر الائتمان المصرفي للمعاملات التي لا تساهم في الناتج المحلي الإجمالي. وإنشاء شبكة من العديد من البنوك المجتمعية الصغيرة التي تقرض لأغراض إنتاجية، وإعادة جميع المكاسب إلى المجتمع ؛ وجعل السلوك المصرفي شفافًا وخاضعًا للمساءلة ومستدامًا. إنه يترأس الآن مجلس إدارة بنك هامبشاير المجتمعي، الذي تم إطلاقه هذا العام فقط، حيث أن هذا النموذج لا يشمل أي مكافآت للموظفين، فقط رواتب متواضعة عادية ؛ الائتمان المقدم بشكل رئيسي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ولإنشاء المساكن (قروض الرهن العقاري التي يتم شراؤها من أجل البناء) ؛ والملكية من قبل مؤسسة خيرية محلية لصالح الناس في المحافظة، ونصف الأصوات في أيدي السلطات المحلية والجامعات التي تستثمر في هذا النموذج.
في عالم المصارف والمال المعهودَين في بلداننا يبدو هذا الطرح غير “عقلاني”، بل وغير صديق بالمرة. لكن من يقول بذلك حتما لا يدرك أنه يبتعد بتفكيره وممارساته يُحلِّق بعيدا حتى عن القيم الأولى التي قام عليها النظام الرأسمالي نفسه، ويساعد في تعجيل استفحال أزمة النظام المالي القائم وصولا إلى انهياره، أو أنه ربما أصبح، دون أن يدري، مسخرا بين يدي النخبة العالمية التي تخطط لنظام ما بعد الرأسمالية، أو الرأسمالية الشمولية وبناء ما يسمى بـنموذج “التصفير الكوني”.