تأثرت الرؤى التي تهم إمكانات ومكانة المرأة بالثقافة السائدة، بالعادات والتقاليد، التي دعمتها في كثير من الأحيان بعض المواقف الفكرية-الفلسفية، التي كان لها كبير الأثر على الحياة المعرفية للمجتمعات الإنسانية. لذا فإذا كان أفلاطون قد قارب سؤال المرأة، انطلاقا مما كان قائما في مجتمعه. وهي مقاربة شبه إيجابية على العموم. فإن أرسطو اجتهد ليثبت صحة الوضع المتدني للمرأة الذي وضعتها فيه العادات والتقاليد، والخطير أن هذا الطرح سيجد له أرضا خصبة في الثقافتين العربية- الإسلامية، والغربية. لقد حاجج أرسطو ليثبت أن المرأة سريعة الانفعال، سريعة التأثر، تنقاد لعوامل الشعور أكثر مما تسترشد بنور العقل؛ ولهذا فهي أقل استعدادا للرئاسة من جنس الرجل؛ لأن الرئاسة قيادة تستوحي العقل لا الشعور.[1]
عبر هذه الأفكار وبها تنظر كل الثقافات إلى المرأة. ولو أننا نلمح بعض الإشعاعات الحضارية لدى الغرب، كما تجارب بعض الدول العربية-الإسلامية، إلا أن هذا لا ينفي تلك الفروقات التي تقيمها التمثلات كما الأحكام المطلقة التي تفتقد عنصر العلمية. فقد نستغرب إذا ما علمنا أن رائدا من رواد العقلانية في العصر الحديث، لم يختلف موقفه عن موقف الفلاسفة اليونان، إنه”إيمانويل كانط”، الذي أكد أن عقل إمرأة عادية مبرمج من أجل”الحساسية المفرطة”. و”لذلك عليها أن تتخلى عن التفكير والمعارف المجردة النافعة ولكنها جافة، وأن تدع ذلك للرجال لأن البحث الجاد والتأمل الكئيب، يقضيان لديها على الميزات الخاصة بجنسها في حالة ما إذا تمكنت من التفوق فيهما، بحيث أنهما قد يثيران الإعجاب البارد بهما بفعل ندرتهما، ولكنهما سيضعفان من الجاذبية الشديدة التي تمارسها على الجنس الآخر”[2]
ولو أن الأمر أكثر خطورة في مجتمعاتنا التي نظر بعض كبار مفكريها وفلاسفتها وأئمتها إلى عقد الزواج مثلا، على أنه عقد تملك. ولنا في إمام الفلاسفة الغزالي أكبر مثال. ذلك أنه واستلهاما لموقف أرسطو، سيقر في إحياء علوم الدين أن”حق الرجل أن يكون متبوعا لا تابعا…” وعليه “أن لا يتبسط في الدعابة معها حتى لا يفقد هيبته عندها” “…والغالب عليهن سوء الخلق، وركاكة العقل، ولا يعتدل ذلك منهن إلا بنوع لطف ممزوج بالسياسة…”. وعلى المرأة”أن تكون قاعدة في قعر بيتها لازمة لمغزلها لا يكثر صعودها قليلة الكلام لجيرانها…” ليس لها الخروج لسؤال العلماء وإن قصر علم الرجل…”[3]
إذن لا مجال لتعليم المرأة حسب إمام الفلاسفة، بل في ثقافتنا العربية – الإسلامية، حتى وإن تعلمت، وارتقت إلى مصاف العلماء فإنها تبقى تحت وصاية أبيها أو أخيها، إلى أن تلتحق بالوصاية العظمى، وهي وصاية الزوج. وهنا لا نتمنى أن يفهم كلامنا على أنه دعوة للتحرر من القيود الاجتماعية أو الروابط الأسرية والقيم الأخلاقية المتعارف عليها، بل إن انتقاداتنا موجهة للذين يجنون على المرأة ويجردونها من حقوقها الإنسانية باسم القوامة أو الوصاية والتي يبغي منها الشرع الاحتواء والحماية والاحترام، لا الإلغاء والتجاوز والتعنيف. لهذا فعندما نتساءل: لماذا أخفقت كل الجهود في ردع السلوكات العنيفة والعدائية الموجهة نحو المرأة؟ علينا أن نتلمس الجواب في معطياتنا التراثية، التي أسست لاشعورنا، وجعلت من المرأة مصدر شر وأذى. حتى بتنا لا ندري أي نموذج حضاري يمكن أن نقدمه بوصفنا مسلمين، وقد عطلت لدينا كل القيم الأخلاقية التي من شأنها مجابهة ثقافة العنف. والأدهى أننا ونحن نحاجج بدور الإسلام بالرقي بوضع المرأة، لا نتوانى عن الوقوف عند حديث”رفقا بالقوارير”، وهو حديث ضعيف، وفيه تكريس للطبيعة الهشة والمستكينة للمرأة، التي أثبتت التجارب أنها أقوى، وأنها في كثير من الأحيان هي من تحتوي وتتكفل بصاحب”القوامة”. وإنكار قدراتها هاته وجهودها، هو أشد انواع العنف. فالعنف عندما يتمفصل في المقومات الثقافية، لا يمكن تحديده كميا ولا ذهنيا، لأنه ليس عيانيا، لكنه يفصح عن ذاته كحدث، كوقائع، تترك آثارها لدى المعنف.[4]
لقد امتزج مفهوم العنف بالثقافات وتسلل إلى قلب الحضارات، وتداخل مع أشكال القيم الاجتماعية والتربوية والجمالية. ولإن ارتبط مفهوم العنف على الدوام بمفهوم العدو،[5] فإن العنف الموجه نحو المرأة ،الأسرة والمجتمع مضخته الأساسية. فبحجة الحفاظ على الأسرة من التفكك، أو الحفاظ على هويتنا العربية-الإسلامية، تنتهك إنسانية المرأة، ويسلب حقها في العيش الكريم. فكل واحد من المنظرين لنموذج المرأة الصالحة، أو المرأة النموذج، يراهن على ما يحتاجه هو من المرأة لا ما يحتاجه المجتمع، أو تحتاجه هي. فهل لنا أن نستوعب أنها إنسان قبل أن تكون أنثى أو زوجة؟ وأن أي شكل من أشكال العنف، يؤثر بالسلب على المجتمع الذي لا قومة له إلا بالنهوض بوضع المرأة فيه.
لقد جاء في تقرير لمنظمة اليونيسيف UNICEF، ما يلي:{النساء لا يستطعن تقاسم عملهن وأفكارهن إذا ما حملن ثقل العنف الجسماني والنفسي الذي يؤثر سلبا على حياتهن}.ولعل هذا ما جعل المجتمع الدولي يتعبأ لأجل تفعيل الأنظمة الأخلاقية المعطلة، ولينظر للاختلاف بين المرأة والرجل، على أنه اختلاف لأجل التكامل، لا اختلاف نقص. ولقد أثبتت الأحداث الكبرى للبشرية هذا الأمر. من الثورة الصناعية إلى الحروب العالمية، الشيء الذي سيؤدي إلى قيام فلسفات جديدة ستنادي بحرية المرأة، وحرية الجسد، ونقد السلطة الكلية للرجل عليها، في محاولة لرفع الحيف والاضطهاد الذي عانت منه.[6] فمذ بداية القرن العشرين إلى يومنا هذا، ستأخذ قضايا المرأة حيزا أكبر في الفكر الفلسفي، ولدى كل التيارات والمدارس الفلسفية، من التيار الماركسي، إلى التيار الليبرالي إلى الراديكالي…[7]، إيمانا منها بأنه لا مجال للحديث عن مجتمع متحضر، يرتقي لمصاف الأمم المتمدنة- المتحضرة، إلا بإعادة بناء وعي أفراده بقيمة ومكانة المرأة، ومن ثم النظر إليها باعتبارها عنصرا فاعلا داخل المجتمع، يتمتع بقدرات عقلية ونفسية تؤهلها للمشاركة الإيجابية والفعالة في بناء المجتمعات. من هنا ظهر ما يعرف بالفلسفة النسوية Feminism التي ارتبطت بالفلسفة المعاصرة، فلسفة النقد والعقلانية. والغاية كانت تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة، ومنها أيضا وعبرها تشكيل وعي الرجل بها وانتزاع الاعتراف بإنسانيتها.[8]
وفي الأخير، لقد قطعت المنظمات الحقوقية وأيضا المنظمات النسوية، أشواطا مهمة في الرقي بالمرأة، بما فيها الجهود المغربية في هذا السياق، فإن هذا لا ينفي أن غالبية النساء لازلن تحت رحمة التمثلات والرؤى الضيقة التي أبت إلا أن تقذف بالمرأة خارج إنسانيتها وفي المقابل سجنها في حدود أنوثتها. لهذا تقتضي مقاربة سؤال”المرأة والعنف” تجاوز التنظير إلى وضع استراتيجيات عمل وتدخل تأخذ بعين الاعتبار اختلاف البيئات المنتجة لهذا العنف، وكذا مراجعة كل الأطاريح والإنتاجات الفكرية والفقهية التي تساعد على تكريس ثقافة تفوق الرجل على المرأة. ولئن ارتبطت فلسفة حقوق الإنسان بتطور مبادئ وقيم الديمقراطية والعدالة والتسامح، فإنها اكتست طابع العالمية والشمولية لأنها دافعت عن كرامة الإنسان بغض النظر عن جنسه أو لونه أو ديانته أو عرقه أو مكانته الاجتماعية والاقتصادية.
[1] -إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة،ص6.
[2] -فاطمة المرنيسي،شهرزاد ترحل إلى الغرب.ص108.
[3] -إمام عبد الفتاح إمام،أفلاطون والمرأة،ص6.
[4] – جان بودريارد وإدغار موران،عنف العالم،،ترجمة:عزيز توما.ص24.
[5] -المرجع ذاته،ص23-24.
[6] -انظر، الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي،ص6.
[7] -انظر، المرجع ذاته.ص6.
[8] -انظر، الفلسفة النسوية..ص9.