ثمّةَ اعتقاد سائد منذ القِدم أن عمل الخطيئة الفردية يعتبر في حد ذاته شرّاً لأن ضررها سيعم الجميع أكان أحدٌ له علاقة بالخطيئة تلك أم لا وسيكون العقاب بدوره شامل للجميع دون استثناء، نلحظ هذه اللغة بشكل واضح في الديانات القديمة والديانات الإبراهيمية (في اليهودية بشكل أخص) التي تصف علاج الخطيئة بالغضب الذي يفني الجماعة أو القبيلة بأسرها، النساء، الرجال، الأطفال بل وحتى الحيوان – نقف هنا لحظة لنتأمل ونتسائل عن العقاب الذي لايستاوى مع حجم الخطيئة ولا مع القانون العقلي الذي يقول أن من يخطئ هو من ينال العقوبة – مع سير تطور ثقافات الشعوب والتي لم تنل النصيب الكافي من التمدن والحداثة ظل السائد أن العقاب على الخطيئة الفردية سيشمل الجميع المنتمين للمذهب أو الجماعة أو الحزب وإن اتخذ اشكالاً مختلفةً في التعبير ومنه ما يأتي في المثل الشعبي المتعارف: “الخير يخص والشر يعم” أي أن عمل الخير يكون محصوراً في صاحبه وعمل الخطيئة والشر سيشمل الجميع دون استثناء كأنما القاعدة مشوهة أو مقلوبة.
وهناك قول شائع آخر: إن كل ركاب السفينة سيغرقون إذا حاول أحدٌ خرقها؛ قول جميل ولكن لا يمكن تعميمه على كل الظروف وكل المواقف، فغالباً ما يُستخدم هذا التعبير لوصف الشخص المصلح الذي ينتقد السائد ويأتي بأفكار جديدة، فبدل أن نقول بأنه يحاول ترميم السفينة التي اهترأت من قِدمها ومن تطاول الزمان عليها، على العكس نقوم بوصفه بأنه يحاول هدم السفينة وإغراق الجميع وهنا أيضاً يمكن أن نلاحظ كيف أن المفاهيم مشوشه وذلك ربما يعود لتغلغل فكرة العقاب الجماعي في لاوعي الأفراد.
في الرواية الكلاسيكية الشهيرة لجورج أورويل “مزرعة الحيوان” يتحدث أورويل فيها بأسلوب رمزي تهكمي عن كيفية توليد المجتمعات لدكتاتورياتها الجديدة، عن طريق التخلص من كل فكرٍ مخالف للسائد وتنسب لصاحب هذا الفكر كل صفات الرذيلة والتراجع والإنحطاط والهوان الحاصل لدى الجتمع الفاضل، الى أن ينتج عنها هياجان جماعي يتحول لنبذ تلك الشخصية وهذا كله يحدث بتحشيد وتهييج من قوى أخرى منافسة على السيطرة والسُلطة، فتكون الشخصية التي نُبِذت وانتها أمرها بمثابة الحوض الذي تصب فيه اللعنات والشتائم والبذائات المخزونه في المجتمع، بفعلهم هذا إنما يتبرئون من تلك الشخصية خوفاً من أن يتسبب لهم في عقاب جماعي أو لعنةً على المجتمع بأسره، لاحقاً ينفرد المنفاس الذي أجج الحشود بالسلطة المطلقة.
هكذا تعمل سيكولوجيا الجماهير التي وصفها لوبون وصفاً دقيقاً، إذ أن العقل الفردي يغيب تماماً في حضور العقل الجمعي ليتحول الأفراد الى كتلة واحدة وقطيعٍ مندفع نحو هدف واحد ولايمكن أن نخضع هذه الحشود لأي منطق عقلي إنما هو هيجان عاطفي مشحون بالمشاعر المتأججة، الهدف هو النيْل من الضحيّة حتى وإن لم تثبت عليه الإدانة بالدليل القاطع والمسعى هو العقاب الجماعي لا العقاب القانوني، فإن هذه الضحية تكون بمثابة كبش الفداء لتلك الحشود المكبوتة الهائجة والجماهير المحتشدة التي تريد أن تنال قسطاً من المشاركة الفعلية في المعاقبة خصوصاً إذا كان هذا العقاب مشفوعاً بمباركة السُلطة الروحية لتلك الجماهير.
من هنا يمكن أن نتلمّس الخطر الهائل الذي قد يسببه اللعب على تأجيج الحس العاطفي وتهييج المشاعر الجياشة للحشود عن طريق الخطَب الصاخبة والجماهيرية وما تحدثه من عواقب وخيمة على السلم الأهلي والنسيج الإجتماعي، وما إن تسير الأمور في سُلّم تصاعدي يغيب العقل والتعقل وإن استمر الوضع تصاعدياً قد يؤدي لنشوء حروب أهلية بين الطوائف والمذاهب والجماعات المتصارعة، في هذا النوع من االصراعات الكل خاسر لا محال ولنا في التاريخ عِبرة…
يرى رينيه جيرار – صاحب كتاب العنف والمقدّس – بحسب مفهومه الخاص أن ظهور القانون كنوع من النظام الإجتماعي إنما جاء للوقوف بوجه العنف الفردي، ضد أن تأخذ الجماعات حقها بيدها وهو الأمر الشائع في الهيجانات الجماعية لأسباب في غالبها عاطفية ينحاز فيها الفرد للجمع انحياز ضمني أومُعلن، ومع تطور الأدوات و الوسائل للتعبير عن سطوة الجماعة تحول جزء ليس بقليل من هذه النزاعات الى وسائل التواصل الإجتماعي، في الواقع هي واحدة من الأمور التي تعتاش عليها الشركات المحركة لوسائل التواصل التي لايهمها شيء سوى الكم ومقدار الربح.
يعتقد جيرار أن مفهوم “كبش الفداء” يعني أن تضع الجماعات مسؤلية الشر في العالم كله على فردٍ معيّن يكون في نظرها التجسيد الوحيد للشر ولابد من التخلص منه في طقسٍ جماعي تطهُّري. وقد اعتبر جيرار أن التضحية بهذا الشخص مصدر الخطيئة – أو حتى الحيوان – ليس كفّارةً بحد ذاته إنما في العمق وسيلة لاحتواء العنف الثاوي لدى كل مجموعة وتوجيهه نحو كبش الفداء وحماية المجموعة من الغرائز الكامنة فيها. يعرّف جيرار العنف الجماعي بأنه عملية تحويل جماعي يتحقق ما إن تثير الضحية شيئاً من الغرائز البدائية للجماعة ثم تتمظهر بتوترات داخلية وكراهيات ومنافسات وبمختلف أنواع النزاعات العدوانية المتبادلة داخل الجماعة.
يصف كارل غوستاف يونغ هذه الحالات ومثيلاتها بـ”الظل” وهو الجانب الخفي المظلم والسيء في شخصية كل فرد منا. فيما يحاول الأفراد دفن هذا الظل والتغطية عليه وعدم الإعتراف به، تقوم هذه الأفراد ذاتها بنسب المكبوت في الظل ولصقه – في الغالب بطريقة لاواعية – بالشخص الآخر الذي يمتلك توجهات مغايرة والذي ينتمي للطرف الآخر المختلف عنها فكرياً أو عرقياً أو دينياً أو مذهبياً…الخ؛ كلما كان المختلف من ذات الجماعة يكون الرفض له أشدّ من غيره، وقد يتحول هذا المختلف من صديق الى كبش فداء نتيجة لتوجهاته و أفكاره وقد تنسب إليْه جميع الرذائل القابعة في الظل واللاوعي الجمعي مقابل الفرد المنتمي المنافس الذي تنسب إليْه جميع الفضائل، وقد يتحول هذا الفاضل فيما بعد الى متسلطٍ مطلق يمارس سلطته على المنتمين وغير المنتمين للقطيع الجماعي.