تخريف: لم يستدل عليه

0
105

كل عرض مسرحي هو مغامرة بالضرورة، مغامرة يقودها المخرج محمَّلاً بمجموعةٍ من العناصر التي عمل على صقلها، بدءاً من قراءة النص، وحتى تقدير الجمهور في نهاية العرض؛ بتصفيق حار، أو تصفيق مجاملة. ولأنه ليست كل المغامرات ناجحة، لكن كلها متعبة ومؤثرة، لابد أن نتحصل دروساً وعلامات، ونحتفظ بكل جانب إيجابي اكتسبناه أثناء المغامرة، والحرص على إعاده تشغيله مرات ومرات حتى يبقى علامة مضيئة لكل من يقدَّر له أن يراها وهو يعبر الحياة.

في مسرحية “تخريف”، من تأليف وإخراج حسين العصفور، وهي عتبة الجسارة الأولى في رفع الكلفة بين مهمتين أساسيتين في العمل الفني، ذلك أن هذه المهمة الواحدة منهما تحتاج إلى تفرغ، وتعميق وإعادة الفكرة مرة بعد أخرى، وهدمها أو بنائها مراراً، بناء على رؤية المخرج، أو مشاهدة المؤلف للبروفات التي قد تستدعي منه إعادة وتعديلاً. وهذه إشكالية كبيرة في عالم المسرح، قليلون جداً من يجيدون الجمع بين المهمتين، ليس لخلل في المنجز السابق كما في حالة العصفور، إذ تشهد معظم أعماله السابقة كمخرج، بأنه من أنبه الموجودين على الساحة المسرحية. فهو فنان حقيقي، يثقف نفسه بالقراءة المعمقة، والاطلاع الهادف، خاصة عند إقدامه على تجربة مسرحية جديدة، وهذا جعله في مكانة مميزة يستحقها من مجمل أعماله؛ مخرجاً وممثلاً أيضاً، ومؤخراً كمؤلف له نص آخر ينافس به من لهم باع في الكتابة المسرحية.

من أجل كل هذا وأكثر، كان سقف التوقعات عالياً بهذا العمل، بعد الانقطاع للأسباب القسرية المتعلقة بفترة الجائحة، وأيضاً لمجمل الأعمال المسرحية البحرينية التي تتناقص وتتقلص تباعاً للأسباب الأخرى، وأيضاً لأن هذا العمل عودة مقدرة للفنان أنور أحمد بعد انقطاع سنوات طويلة عن الخشبة كممثل، وبعيداً عن انشغاله الإداري بالمسرح. ومع أحمد فنان ناضج ومتمكن “دائماً” في كل أدواره، هو حسن العصفور، الذي يحمل سجله المسرحي عناوين جادة، وأداء متفرداً لا يقارن بآخرين سبقوه للمجال. والفكرة في أن هذين الممثلين هما شخص واحد في شبابه وفي الكبر. وحتى يكتمل المربع، تأخذ نورة عيد، وأسماء الذوادي – اللتين تبشران بوجود وتوفر ممثلات مسرحيات جادات في البحرين- دور الزوجة شابة وعجوزاً أيضاً، إذ يأتي النص على معاناة حقيقية للممثل المسرحي في أنه “لا أحد” المثقلة بالتأويلات!

أي أن المتلقي أمام شخصيتين: ممثل مسرحي وزوجته، وانعكاسهما في شبابهما عبر شخصيتين أخريين، وعلى المتلقي فكّ الاشتباك الحاصل في الحوار لمعرفة طبيعة العلاقة بين الممثلين الأربعة متطابقي الشكل في توحيد اللون الأسود المتمثل في الزي. لكنه الالتباس الأول، لأن الحوار في أوله لا يمنح معنى الشخصية وانعكاسها، والسؤال يزداد إلحاحاً مع تقدم العرض: ما علاقة كل هؤلاء ببعضهم؟

فيما يقوم البرلوج أو الاستهلال الذي يحدد السياق الأولي، بإعطاء تعريف للشخصية الرئيسية “لا أحد”، أو هكذا تمت تسميته كما يقول هو عن نفسه. فالمسألة متعلقة بجانب وجوديّ يخصّ هذا الممثل، تتضح في مناجاته: “يا الله.. أعِرني قليلاً من الوقت والجلد. فهذه العربة باتت حملاً ثقيلاً، وأنا حتماً سأصل، وحتماً سأكون..”. يفقد بوصلة التفكير ويتساءل: “ماذا سأكون؟ ماذا سأكون؟ لا أعرف، ولكني سأصل، وسأكون، ما دام لي ساقان تحرثان الأرض بحثاً عن جواب”. هو ذاته لا يعرف اتجاهه، ولا أين سيكون ماضيه، وحاضره، ومستقبله، حتى حين ذهب لخطبة محبوبته من والديها. فإجابته المعتدلة على أسئلتهما “التقليدية” غير مرضية، ولا ذات معنى. هما لا يفهمان أن “المنتصف” انتماء؛ لا هنا ولا هناك، ليس يسارياً ولا ينتمي إلى اليمين. فكيف تعرف وجهته أصلاً، حتى وإن لم يكن من اهتمام الوالدين معرفة اسمه؟!

المهم هو موقعه في الحياة، وعمله المتأمَّل أن ينقل ابنتهما إلى مستوى آخر أعلى، كونه “فناناً” حتى لو على درجة موظف صغير. ومفردة “فنان” قد تبدو مغرية لبعض الأسر والمجتمعات؛ قد يكون فناناً تشكيلياً، أو موسيقياً، أو ممثلاً معروفاً في السينما والتلفزيون. لكن في المسرح الموضوع مختلف، لأن جمهوره محدود، ولأن المسرح يعمل بمعايير ضيقة للجماهير. لذا فإن أغلب ممثلي المسرح المعروفين لدى كل الناس هم ممن يعملون في مسرح معين يفتح شباك تذاكره في مواسم معينة، ويقدم وجبات كوميدية قصيرة المدى ليسلي جمهوره على مدى ساعتين وأكثر، ويودعه على أمل اللقاء به في الموسم القادم.

لا شك في أن نيّة العرض المسرحي “تخريف” كانت أكثر من طيبة، في استعراض جزئية ليست غائبة بالكامل، بحكم وجودها وواقعيتها، لكن يحسب لها التناول، وإن شاب الحوار الكثير من المباشرة التي تؤذي أي عمل فني، وتسطّح من المعنى المقصود، وأيضاً الكثير من الجمل الصالحة للاقتطاع والاقتباس. وحتى في مثل هذه القضايا، لا بد من وجود حيل فنية قادرة على عرض مفهوم ما، دون التوغل في الخطابية، وترديد جمل بأشكال مختلفة تعبر عن المعاناة، والألم، والخسارة، وضياع الوقت والعمر معاً، لأن الأمر يبدو مثل قراءة نعي دون أن يكون لهذه القراءة مردود سوى البكاء وجلب المزيد من الحزن، وربما بعض التطهير الأرسطي غير المكتمل!

وعلى هذا النحو، فإن من يهوى القراءة مثلاً يبذل لشراء الكتب، ويستقطع من أجلها أوقاتاً طويلة في حياته، وهذا حال أي شغوف بهواية/ مهنة، أو حتى ميل لشيء ما. فلِمَ على المسرحيين –رغم معاناتهم التي لا يبالغون فيها حقاًلا- أن يظهروا هذا الجانب فقط من قلة التقدير، وانحسار الأضواء، والمقارنة بينهم وبين العاملين في الفنون الأخرى؛ الذين لهم معاناتهم أيضاً، ولكن لهم الوهج الذي يمنحه الفن لصاحبه! لهم المتعة الكاملة في ثواني التصفيق بعد العرض؛ تقديراً، وامتناناً، وإعجاباً، ولهم جمهور محدود مقارنة بجماهير الدراما الأخرى، لكن لهم مكانة عميقة محفورة، ويكفي أن يشار إلى ممثل بارع يخطف الأبصار بأداء محترف في التلفزيون أو السينما على أنه قادم من “المسرح”!

فلِمَ علينا أن نستحضر الحالة البكائية المستمرة في حال اختيار مسار حياتنا، أو جزء منه في المربع الذي أحببناه وأعطينا فيه بصدق، والذي لا بد أنه أعطانا – ولو على شكل فتات – نعمة إظهار ما لدينا لآخرين ينتظرون ما نقدمه؛ ينال استحسانهم، أو حتى استياءهم. فمسألة أن يكون العمل الفني الذي اخترناه محل رؤى من قبل الآخرين، هذا لب المسألة كلها. الحزن الحقيقي هو أن يكون العمل الفني لا جدوى منه، بمعنى أنه لا يحقق ولا يقترب من جمهور يشاهده، فيتفاعل معه، ويثار، ويثور، ويقرر، ويمضي لأن عملاً قد أشعل فيه أفكاراً مختلفة، لامسته ودفعته للتغيير من نفسه، أو حياته، أو مجتمعه. والحزن أن يمضي العمر في ترهات يقنع القائم بها نفسه بأنها قيّمة، لكن “الآخرين” لا يقدّرون، ومع ذلك يستمر هذا الحزين في عطائه الذي يذهب هباءً مع أول ريح تنثره. أليس الأجدى مراجعة النفس من أجل تجويد العمل وتقديمه في أفضل صورة ممكنة، أو البحث – بجدية – عن أساس المشكلة، وهي عزوف الجمهور عن المسرح بشكل عام، والبحث أيضاً عن سبب استمرارية المسرحيين في مجال يتردد كثيراً أنه بلا جدوى؟!

أما ما بعد المعنى، وحين نأتي إلى تحليل الجانب الفني، سيكون المتفرج في مواجهة قطعة ديكور وحيدة، وهي العربة التي يجرها بطل العرض، بكل الحمولة المعنوية التي تحوي الكتب، والأزياء، والذكريات، وكل الجوانب الحسية التي تتبعه كممثل يحمل ذاكرته وحيواته المتنوعة التي عاشها في أدواره، وهذا الاختيار لصالح المعنى بالطبع، لولا ثقل القطعة المذكورة كحمولة كان على الممثل جرها في الاستهلال وفوقها الشخصيات الأخرى، وهو كان يشعرنا بهذا الثقل حتى تصلنا بفكرة الثقل المعنوي أيضاً، لكن من الواضح أن تصميم العربة نفسها لم يكن بالمواصفات الفنية المطلوبة التي تسمح بحرية الحركة؛ بحيث يتم جرّها بسهولة في مواقع أخرى.

وربما أيضاً بسبب الثقل، بقيت العربة في منطقة upstage center وهي حسب تقسيم مناطق التمثيل على خشبة المسرح منطقة ضعف تستخدم لأغراض محددة، لا أن يتم الاعتماد شبه الكلي عليها. ما حصل في “تخريف” أن حركة الممثلين كانت متوزعة بين المناطق الأخرى حسب الحوار، لكن الاعتماد الأكبر كان حيث موقع العربة، وهو مؤثر في قوة التواجد/ تأكيد المعنى/ حضور الشخصية، ومن ناحية تقنية يؤثر على مستوى صوت الشخصية، وبالتالي النبرة.

ومن باب التقارب لشخصيتي الممثل المتجسدتين على الخشبة أيضاً، قام العصفور بارتداء شَعر مستعار على اعتبار أن يكون هذا قريباً للشخصية التي يمثلها للبطل وهو في سن أصغر. هذه التفصيلة في شكلها لم تكن مناسبة على الإطلاق على وجه الممثل. ومن يعمل في مجال التجميل، في الدراما تحديداً، يجب أن يكون دقيقاً في الاختيار، للشَعر أو لأي إضافة أخرى، لأنها تمثل شخصية محددة، ولا تكون بهدف التجميل، خصوصاً على خشبة المسرح التي تختلف كلياً عن السينما والتلفزيون. ولأن المتلقي في المسرح اعتاد على الشكل المبالغ فيه ضمن الإطار الكوميدي –غالباً-، لذلك تأخذ هذه التفصيلة منحى منفصلاً عن الشخصية التي تعرض معاناتها. وهناك مسافة محسوسة بين شكل الشخصية وما تقوله من حديث يفترض أن يصب في الوجدان. وتقنياً؛ هذا التطابق الشكلي بين الشخصيتين غير ملزم! خصوصاً في حال عدم العثور على ممثليْن قريبيْ الشكل من بعضهما – وهذا وارد- فيمكن الاستعاضة عن الشكل بأدوات أخرى أتصور أنها غير عصيّة على مخرج فنان مثل العصفور.

“تخريف” عمل مسرحي لا يختلف اثنان أنه ذو مكونات جيدة، لكن ثمة خطأ في مقدار هذه المكونات أو في خلطها، أدت إلى أن يظهر في مذاق آخر غير المعتاد، وبلا إضافات سوى منية النفس أن يكون عملاً يستحق المشاهدة وإعادة العرض بعد كل هذا الغياب. ولأن المتلقي اعتاد الجودة من القائمين عليه بمختلف مواقعهم، فمن حقه أن يطالب بنفس ما جاء على لسان الممثل في أن يعرّي، ويصحح، ويكتشف، ويسأل، ثم يعيد السؤال، حتى يعاد الإبداع إلى نصابه، فيكون التصفيق في النهاية حقيقيا تقديراً ومحبة للمكانة المسرحية التي تستحق منا هذا وجوباً.