سُكّر هارموني

0
67

واحد من أهم الأفلام التي رصدت المسائل الأنثوية بشكل ناعم وعميق؛ “سكر بنات”  أول تجربة إخراجية سينمائية طويلة للمخرجة اللبنانية المعروفة نادين لبكي، والفيلم المنتج منذ 2007 من تأليفها أيضاً، ونظرا للتفرد الذي حظى به هذا الفيلم منذ وقت عرضه في دور السينما، كتبت الكثير من الأقلام عنه: نقاداً ومشاهدين ومهتمين أبهرتهم الصورة والحس الإنساني الملتقط من مجموعة إناث، نكاد نعرفهن في حياتنا اليومية، لكن في الفيلم نراهن بعدسة لبكي المكبرة.

محور العمل يرتكز على حكاية إناث يعملن في مركز تجميل، وشخصيات نسائية أخرى خارج محيط مركز التجميل، مثل الشقيقات روز و لِلي ، وأخريات، ممن تشابكت حكايتهن في همّ إنساني/ نسائي متصل، حالات فردية تشتبك معاً كأنها تختصر بعض هَم النساء. فليال مرتبطة برجل متزوج، وتعاشره على أساس الكذبة المتصلة في هذا الشأن: إنه على غير وفاق، وسينفصل في أقرب وقت، لولا الأطفال والوضع الأسري. نسرين المخطوبة، والتي تجهز للزواج قريباً، تفصح لصديقاتها عن قلقها بشأن العذرية المفقودة، وتبريرها لخطيبها، حتى تؤدي بها المشورة إلى رتق المشكلة بطريقة جراحية وبمساندة صديقاتها. جمال القلقة من تقدّم العمر، والذي ترممه بما يجعلها تجاهر بكل الوسائل على حفظ صورة الشابة، وإن بدا هذا مستحيلاً وغير منطقي. وريما الحائرة في نوعها، وتائهة بين التعبير والميل العاطفي غير الطبيعي، الذي يجعلها صامتة معظم الوقت، وتعبر بكلمات خشنة متوافقة مع طبيعتها الداخلية.

خارج مركز التجميل، هناك روز الخيّاطة، التي يبدو أنها كرست حياتها لشقيقتها المتأخرة ذهنياً لِلي، والتي تكابد – بصبر كبير- جموح أختها، ولما قررت التمرد عليه حين سنحت الفرصة لملاقاة رجل مناسب, كان عليها أن تحبس لِلي، لأنه لا طاقة لأحد على العناية بها غير روز، ولكنها تتخلى –بإنكسار- عن هذه الفرصة، وتنتصر لعاطفة الأخوة الدائمة، على العاطفة التي قد تكون مؤقتة، ولا داعي للإشارة بإسهاب إلى أن وجود الرجل كان هامشياً إلى حد بعيد في “سكر بنات”، حتى أن ظهوره المادي بصورته الكاملة لم يكن واضحاً، ما عدا رجل الشرطة الذي كان يحب ليال، ويتمنى أن تميل إليه بأي وسيلة.

والحقيقة أن كل لقطة في “سكر بنات” تستحق الدراسة، الكادر المدروس بعناية، المشاهد التي تقترب من المذهب الطبيعي لعفويتها وطريقة تشخيص تعبر عن الشخصية ولا تعبرها. ولأن كل ما كتب سابقا عن هذا “السكر” كان له علاقة بالحدث والعناصر السينمائية التي يهتم بها كل من يكتب رأياً نقدياً أو وجهة نظر عابرة تتعلق بالمواضيع الأنثوية المتناولة داخل العمل، لم يلتفت كثيرون إلى عنصر موسيقى خالد مزنر الذي واكب الفيلم منذ “تتر” البداية حتى النهاية، عنصراً حياً فاعلاً ومعبراً، يكاد أن يكون ممثلا يؤدي مع بقية الممثلين والعناصر الأخرى.

وأيضا مهما صنفت الموسيقى من قبل المفسرين غير المجتهدين، فلا يمكن إنكار دورها في حياتنا، فمنذ بدء الخليقة والإنسان يتخذ من الطبيعة إيقاعه الأول الذي تناغم معه؛ في أصوات الطيور، وهدير الماء، وحفيف الشجر. ولما جاءت الدراما، أدخلت الموسيقى في المشاهد التمثيلية التي تعبر أو تصف الفعل، وتتفاعل معه، وتوضح أن “حركة الأجسام على الشاشة هي أول العوامل التي تخلق الحاجة الغريزية إلى أن تصحب هذه الحركة أصوات”(1)، وهو ما يعني أن الموسيقى لم تتواجد ككمالية أو إضافة تحلّي المشاهد، بل لدعمها، وتفعيل دورها.

لذلك تقوم الموسيقى التصويرية بفعل مصاحب وموازٍ لفعل الممثل والصورة، إذ تساعد الموسيقى على تأكيد وصول الأفكار للمتلقي عبر اللغة المنطوقة والأداء، وإضفاء روح واحدة على سائر العمل، حتى لو كانت بها أكثر من مقطوعة، وتكون هناك عادة “ثيمة” رئيسية تكون هي المكتسحة بالذات في مفاصل المشاهد المهمة، تُعزف بشكل كامل حتى تترسخ في أذهان الجمهور، ثم يمكن أخذ جزء منها واستخدامه كتنويعة على مشاهد أخرى، وبتوزيع جديد على آلة أخرى غير المستخدمة في الثيمة الرئيسية.

يبدأ الفيلم بوصف العنوان “سكر بنات”، وهي الحلاوة المكونة من ماء وسكر، والتي تستعين بها الإناث لإزالة الشعر الزائد من الجسم، كأشهر طريقة تقليدية؛ وضع السكر والماء وتقليبهما جيداً حتى تستوي بحرارة معينة على الدرجة المطلوبة. تصاحب هذه المشاهد المصورة عن قرب موسيقى تشبه التانغو، التي تعتمد على آلات أساسية؛ مثل الكمان، والبيانو، والكنترباص، والفلوت، إلى جانب الكلارينت، التي تستدعي الجسد أن يرقص بحركات منتظمة على نسق متشابه يوضح مشاعر الحماس والحزن الهادئ أيضا. وصوت موسيقى بيانو صولو مصاحب لأول دقائق التقاء روز، الخياطة المهذبة الخجول، بالرجل الفرنسي الذي جاءها كزبون للمحل, وكان يتأملها بحنان, لولا أن دخلت لِلي بوجه ملطخ بمكياج وصوت صراخ وفوضى، خرّبت فيه الأجواء الذاهبة إلى شكل الحب من أول نظرة في الدراما.

صوت البيانو صولو، تنويعات على أغنية سكر بنات، مع نجاح ليال في الحصول على غرفة في فندق رخيص، قبل استقبالها وعشيقها في يوم “الفالنتاين”، يدخل فيها صوت الكنترباص والكمان مع كتابة الزبون الفرنسي رسالة إلى الخياطة روز في المشهد الذي بعده، ثم يدخل نفس هذا التنويع إلى مشهد ليال وهي تهيئ غرفة الفندق من تنظيف وترتيب وتزيين أيضاً، بما تظن أنه يليق بقضاء وقت سعيد معاً، هذا التمهيد الموسيقى دخل إلى الأغنية الرئيسية التي عبرت أيضاً، وبنعومة شديدة؛ لحناً وكلمات وغناء، عن حالة الانتظار والشوق التي تتكبدها ليال من جهة، وروز من الجهة الأخرى:

عجقة سير وسيارات وصوت سكربينات

وايدين تغني فيهن سكر يا بنات

وهالكحل اللي بعينيهن وهالشفاف السمر

عم بتبوس بإيديهن هالقلام الحمر

تبدأ الموسيقى التي كانت في بداية الفيلم تقترب من مزاج موسيقى التانغو, لكن بشكل أسرع وأكثر حماسة باستخدام أكثر من آلة الكونترباص/ الكمان/ البيانو/ وإيقاع الدف، بدخول زوجة عشيق ليال التي دعتها زميلتها بالمركز في عرض وهمي، إثر ما عبرت عنه ليال وقت غضب ونقمة على النفس في سؤال: من تكون هذه المرأة التي يتمسك بها حتى النهاية؟ “كيف شكلها؟ كيف تأكل؟ كيف تشرب؟ كيف تلبس؟ كيف تمشي؟”، وكان أن عُهد إلى ليال العناية بها في أكثر خدمة حساسة بالمركز، وهي إزالة الشعر الزائد بـ”سكر بنات”، التي تتفنن ليال – كممثلة وكمخرجة – في إظهاره كشيء خصوصي جداً مرتبط بالبنات، وتتوقف الموسيقى بشكل حاد ومفاجئ في وقت أول إزالة غاضبة، والتعامل بقسوة وغل مع جسد غريمتها، كفعل موازٍ للصدمة.

 صوت الشارع ممزوج بصوت لحن بيانو ناعم، يبين مدى تردد ليال وهي ترن جرس بيت عشيقها من أجل أن تقدم خدمة مركز التجميل لزوجته التي طلبتها بالمنزل. لا يبدو أن المركز يقدّم خدمات من هذا النوع، لكن ليال كانت تود استكشاف حياته عن قرب أكثر، ومعرفة تفاصيل بيته ومعيشته, ظهور طفلته التي داعبتها بعفوية، ثم كأنها تذكرت فجأة أنها ليست سوى ابنة عشيق وعدها بالزواج وماطل فيه، بينما هو يعيش حياة مستقرة مع زوجته وابنته، كما يدل حديث السيدة زوجته عنه. صوت البيانو مع الوتريات والناي أيضاً مزج بين هذا المشهد ومشهد العناية بشعر روز، كلاهما تترقب حدثاً جديداً في حياتها، وإن كان مناقضاً.

صوت وتريات جيتار وكونترباص في تنويعة على الأغنية الرئيسية، تعبر عن  حالة التحوّل بين ثلاث شخصيات: ليال وهي تحس بالهزيمة لكشفها حجم الوهم الذي عاشته وقتاً طويلاً، نسرين تحت إضاءة غرفة العمليات لإجراء ترقيع العذرية، وروز وهي تضع المساحيق على بشرتها المتجعدة، مع ظهور التغيير الكبير في لون وتسريحة شعرها استعداداً لمقابلة زبونها الفرنسي في أول موعد عاطفي كما يبدو.

 بيانو صولو أولاً، يبين حالة انتظار الرجل الفرنسي لروز، ثم دخول الكمان والمزج بين الآلتين لتوضيح ما تقوله روز الصامتة الحائرة بين ترك شقيقتها لِلي وحيدة بالمنزل والذهاب لملاقاة من جدد الأمل بها.. تنتصر لأيهما؟ يأتي لاحقاً لحن ممزوج بالبيانو والكمان والكنترباص والقانون، بالتزامن مع الصورة التي تعلن فيها روز – صامتة أيضاً – قرارها بالبقاء إلى الأبد بجانب شقيقتها الكبيرة لِلي، وانسحاب الفرنسي من المقهى بعد طول انتظار.

بيانو صولو لمشهد جمال التي تجاهد طوال مشاهد الفيلم، باستبعاد أي مظهر من مظاهر تقدم العمر الطبيعية لكل إنسان، والمخاوف التي تكون من جراء الدخول في مرحلة مرتبكة تخشى فيها من ظهور تجاعيد على الوجه، بحكم العمر، أو انقطاع الدورة الشهرية، الذي يضطرها لحمل سائل أحمر دائماً في حقيبة يدها لتبقع عمداً ملابسها فاتحة اللون، أو تطلب فوط صحية نسائية في أي مجتمع نسائي – حتى لو كانت تلتقيه لأول وآخر مرة – كدلالة على الخصوبة، وبالتالي نيل القبول من الآخر، وإقناع النفس أن الوقت لازال مبكراً على مرحلة الشيخوخة، وهذا يتضح في مشهدها في دخول الحمام أثناء حفل الزواج، من أجل أن تبلل الفوطة بنقاط دم حمراء لا تجتهد في إخفائها، لكنه جزء نفسي تعاني منه كثيراً من الداخل. وبالإضافة الى البيانو، هناك الكمان والكنترباص.

  وعندما تبدأ الأغنية الرئيسية التي نُوّع على لحنها طول الفيلم بتوزيعات مختلفة، ولكن بنفس الثيمة الرئيسية لهذه الكلمات التي تبحث عن المعنى في العمق، أنثى تخاطب مرآتها وتسري لها بهموم صغيرة وشكلية كما تظهر للعامة، لكنها تصبّ في صميم أحاسسيها وتلامس كل قصة أنثى في الفيلم:

مرايتي يامرايتي

رح احكي لك حكايتي

قولي لي أنا مين؟

استخدمت في بداية أغنية “مرايتي” صولو تشيلو وصولو كمان، بيانو جيتار وقانون، صوت التشيلو في البداية يعطي إحساساً بالفخامة والحزن النبيل، يدخل الجيتار ثم بقيّة الوتريات بشكل متوالٍ، وتبدأ رشا رزق بالغناء مع صوت البيانو، ثم يدخل القانون ويتواصل التداخل بين الآلات. توجد آلة درامز بصوت منخفض، تعطي إحساس الخطوات. في النهاية، تقوم بالارتجال بروح شرقية ممزوجة بنمط الجاز، عندما يعزف البيانو عزفاً متقطعاً. والأغنية تصاحب أحداثاً وتغييراً بدخول الزبونة ذات الشعر الأسود الطويل، وقصّ شعرها عند ريما دليل التوافق على شيء ما بينهما، دون توضيح مباشر. ومشهد ذو كادر واسع يوضح روز وهي تساير لِلي في جمع الأوراق من الشارع، وتحت السيارات، وكأنها قررت أن تكرس حياتها لعملها ولشقيقتها, وامتزج هذان المشهدان مع “تتر” النهاية للفيلم.

وعلى الرغم من أن الموسيقى التي استخدمت في فيلم “سكر بنات” كانت تميل بتنويع الآلات المستخدمة إلى اللون الغربي بشكل عام، مع إدخال آلات شرقية بخفة، إلا أن المخرجة نجحت في وضع بصمة متعلقة بالفيلم، سواء كانت عبر التكرار في المشاهد والتنقل بينها، أو عبر أغنيتي الفيلم اللتين عبّرتا عن الحالة الأنثوية العارمة فيه، والخصوصية التي تجعل من موسيقى الفيلم حاضرة في الذهن، ومرتبطة بمشاهده المتلاحقة حتى وقت طويل.

المراجع:

  • فن الموسيقى السينمائية، د.إيهاب صبري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017م، ص 13.