مجتمعنا المدني وقوانا السّياسية مرة أخرى

0
30

نعود مجددا للحديث عن دور مؤسسات المجتمع المدني  والجمعيات السياسية والنخب في رفد المسار الديمقراطي، فالتجارب التي مررنا بها هنا في البحرين وبشكل خاص بعد التصديق الشعبي الحاسم على ميثاق العمل الوطني والنسبة التاريخية التي بتنا نحفظها عن ظهر قلب 98.4% ، وما تمثله تلك النسبة من مغزى واهمية،  وما احدثته من نقلة نوعية في طبيعة الحياة السياسية عموما، علاوة على تطلعات المشتغلين بالعمل السياسي والمدني في البحرين، وفي تسليط الضوء على الدور الإيجابي لتلك المؤسسات والنخب، والتي هيأت وعززت بدورها آنذاك من قناعات الناس في ضرورات التغيير واحداث تلك النقلة التاريخية التي كان بالإمكان وبشيء من الخبرة والتراكم وقبل ذلك الإخلاص للتجربة أن تفتح لنا الكثير من الدروب المغلقة امام العمل السياسي على الرغم من الإعاقات والعقبات التي رافقت التجربة وحجمتها حتى الآن.


تلك مقدمة لابد منها للتدليل على أهمية استعادة الأدوار الإيجابية  لمجتمعنا المدني وجمعياتنا السياسية ونخبنا الوطنية والتذكير بعدم الإكتفاء بأدوار هامشية أو شكلية في أحسن الأحوال كما هو مسموح به الآن، خاصة عندما تتعقد المشاهد الوطنية وتغيب الرؤية أمام الكثير من قضايانا الوطنية، كما حصل ويحصل بإستمرار على الرغم من كل طموحات الناس  والقيادة  السياسية ورغبتهم الأكيدة في ان يعيشوا جميعاً تلك الأيام الجميلة الموعودة والتي بشر بها الميثاق.


  وبطبيعة الحال نحن هنا لسنا في وارد الحديث عن تعدد الإعاقات اللاحقة لمبادرات الإصلاح المعلنة ومسبباتها، فقد اشبعت بحثاً وتداولاً طيلة السنوات الماضية، ولكننا بكل تأكيد في حاجة ماسة للتذكير بضرورة استعادة زخم ودور مجتمعنا المدني ومؤسساته وتياراته السياسية الفاعلة ونقاباته، والذين كان لهم الدور الأبرز في تعزيز ثقة الناس بميثاق العمل الوطني عبر ما قامت به النخب من سياسيين ومثقفين ومهنيين في بعث الروح الوطنية وتعزيز اللحمة الوطنية، ضمن تلاحم استثنائي بين القيادة السياسية للبلاد وجميع شرائح الوطن.

استذكار تلك الفترة الزاهية من تاريخنا السياسي تعني ان لا مكان للخوف او التردد فالشعوب الناهضة تحتاج دائما الى مجتمع مدني ومؤسسات ذات حيوية تؤسس بدورها لإيمان جمعي بالشراكة في صناعة القرار واهميتها في تطوير المسار السيايي الوطني،  والإسهام الفاعل في طرح البدائل والحلول بطرق سلمية وتعزيز لغة الحوار والإهتداء لنوع من الحوار الهاديء الهادف والعقلاني  والموجه لكل الشرائح والأطياف ويتفهم حجم التحديات القائمة،  فذلك اجدى كثيرا من ان تقف تلك المؤسسات منتظرة على قارعة الطريق كما يقال، تتسقط ادوارا تستمد منها سمة البقاء والحضور الموارب، دون ان تقدم فعلا ما يعزز حضورها بشكل اكثر تأثيرا، فتغيير القناعات بشكل ايجابي وانتزاع الأدوار  وبالتالي خلق التوافقات يحتاج الى مكابدة ونضال صبور وعناء، وهو يجب ان لا يستند على لغة شعاراتية لا تملك القدرة على الإقناع والتغيير بقدر ما تقدم خطابا عاطفيا متهافتا سرعان ما يتلاشى ليعود في حلة جديدة بعد حين يجتر خيباته لكنه لم يتعلم منها بكل أسف. 

 فأمام كثرة الملفات المعقدة والمتشابكة لا يمكننا  ان نستسهل فقط تعزيز لغة النقد المبتسر وتسجيل النقاط فيما بيننا تحاه ما هو قائم من سياسات ومؤسسات دون ان نقدم البدائل المرجوة، عبر حوار عقلاني ونهج لا يتسم بالجمود والإجترار والمغالبة الفاقعة بل يقدم خطاباً حضاريا يستطيع ان بكون مقنعا يأخذ في الحسبان مسارات وارتدادات ودهاليز واسقاطات التعاطي السياسي الحاذق مع منظومة متشابكة ومتعارضة في آن من المصالح والإمتيازات والتراكم الممض لعقود من الممارسات التي لم تكن يوما محل اجماع بين المختلفين، او انها اتسمت بالحد الأدنى من التوافق الوطني على الرغم مما هيأته فترة اقرار ميثاق العمل من وجوه متعددة من التقارب الحذر بين مختلف الأطراف الفاعلة على الساحة.

إن المهمات الشاخصة اليوم أمام مؤسساتنا الوطنية والدستورية هي بالفعل متشابكة ومعقدة، لكنها حتما ليست عصيّة على الحل والإختراق، طالما تحلى الجميع وفي مقدمتهم الدولة ككيان ومؤسسات في الإبتعاد عن اي فعل من شأنه أن يوتر الأجواء أو أن يستثمر لاسمح الله، في توتيرها أكثر مما هي متوترة.  أمامنا قضايا لا يمكن إهمالها أو تركها للزمن أو حتى توظيف بعضها أحيانا للتدليل على صوابية ما تحاول  بعض الأطراف أن تجر الساحة  السياسية إليه في ممارسات تغلب عليها سمة المغالبة وإلحاق الأذى بالآخر المختلف دون البحث عن تحقيق النجاحات المرجوة،  وعلى هذه الشاكلة تبقى العديد من القضايا بحكم المؤكد  معلقة الى ما لا نهاية بل وتزداد تعقيداً بفعل عوامل الزمن وتباعد الشقة بين الأطراف المعنية بها.

 فقضايا مثل البطالة المستشرية في أوساط شبابنا، والضرائب المتصاعدة وقوانين التقاعد وما يحمله من إجحاف نحن في غنى عنه لأحلام شرائح واسعة من المتقاعدين وأسرهم، وكذلك هي الأوضاع المعيشية التي يعيشها الناس بشكل يومي وممارسات التمييز وازدياد رقعة الفقر الذي ينهب الفرح من عيون الأطفال وأسرهم بشكل متسارع، وتراجع الطبقة الوسطى في مجتمعنا وقضايا التعدي على المال العام والفساد، هي في مجملها قضايا إن أدمنا اهمالها لمسببات مثل عقم التجربة الديمقراطية أو غياب حالة التوافق المجتمعي، فعلينا ان نتوقع  حزمة من التراجعات التي سيستعصي على جيلنا الحالي والأجيال القادمة الخروح منها بسلام، وهنا علينا أن نتذكر أن من يشتغلون بالسياسة وفي مؤسسات المجتمع المدني ليسوا فقط معنيون بالحاضر بل بالتأسيس لقناعات وحلول جديدة تبني للمستقبل وعلى قاعدة زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون!!


والحال أن هذا الشد والتجاذب المزمنين كثيرا ما يحدث في المجتمعات المبتلية بغياب الديمقراطية الفاعلة، لكن مجرد القبول بهكذا واقع ومحاولة تكريسه مع جرعات متزايدة من الإحباط المتولد عنه في اوساط البسطاء والمعدمين من شأنه ان يحدث تراجعات مخيفة ومدمرة لمجتمعنا لابد من تداركها حتى لا يستفحل شررها، وهي لعمري مسؤولية كبرى تتحملها الدولة بشكل أساسي  وبكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية كما تتحملها النخب ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات، فالجميع بات على المحك تماماً وليس من الحكمة أبداً الإرتهان باستمرار لتقاذف الكرة والمسؤلية بين تلك الأطراف.

لذلك فوجود مجتمع مدني وحياة حزبية تنشد النضوج وبمؤسسات فاعلة تكون قادرة على أن  تطرح البدائل وتقف سداً منيعاً في وجه أي انقسام أو تدخل خارجي أو تعد على السيادة الوطنية أو نهب للثروات، حينها نستطيع أن نقول إن مجتمعنا المدني يسير في الإتجاه الصحيح، وحينها فقط يمكن أن ينظر له على انه خير معين للدولة ومؤسساتها وللمجتمع بأسره، وبمثل ما سيبقى دور مجتمعنا المدني مهماً لتقويم مسار مؤسساتها الدستورية، وهذا يتطلب بكل تأكيد إعطاء مساحات أوسع من حرية العمل المدني والنقابي والسياسي وحرية النقد والصحافة، وتكثيف الرقابة على مؤسسات الدولة وممتلكاتها، والتي عليها والحال هذه ان تسلك نهجا مغايرا وسلوكيات جديدة أكثر تحضراً وتفاعلاً أنجع مما هو قائم في التعاطي السياسي بين مختلف الأطراف، كل ذلك يجب أن يتم بقناعة ووعي بين مختلف الأطراف الراغبة في انجاح عملية بناء الدولة لمصلحة الجميع ضمن نهج وممارسات يحكمها الإحترام المتبادل، حينها فقط نستطيع ان نعول على مجتمعنا المدني  ومؤسساتنا المدنية والنقابية والحزبية ونخبنا الوطنية وحيويتها في المشاركة الفاعلة  في صناعة الحلم والمستقبل.