مخاضات الحداثة العربية

0
51

كنا في معرض الشارقة للكتاب على موعد ودي وفكري جميل مع كتاب جديد للباحث د. حسن مدن بعنوان “حداثة ظهرها إلى الجدار: قراءات في التحولات الثقافية في مجتمعات الخليج العربي”. وإذا كان انشغال الكاتب بالثقافة وتفاعلها الاجتماعي وتحولاتها في الخليج العربي، انطلاقا من البحرين – كما يشير إلى ذلك- تمتد نحو ثلاثين عاما.. أو تزيد قليلا، فإن فضاء الكتاب الجديد لم يقتصر على هذه المنطقة، إنما نثر دوائر مهمة من إضاءاته الساطعة على الوطن العربي كله، وبخاصة بلاد الشام. وكنت طوال قراءتي وإعادة القراءة، أعيش في مستنقع شرق المتوسط وصراعاته مزودا بهذا المصباح الفكري الوهاج، تحاشيا لجنوح الشاعر نحو المزاج واتقاء للزلل.

يقع مدخل الكتاب في (نحو 40 صفحة) ولقد قرأته ثلاث مرات بمتعة واستئناس، لأقتطف منه بعض الشواهد والإلماحات في محاولتي للكتابة عنه، انطلاقا من إشارة الكاتب في المقدمة إلى أن السنوات العشر التي أقامها في الشارقة “عاملا في دائرتها الثقافية كان لها أكبر الأثر في توسيع نظرته للشأن الثقافي الخليجي. وأنا أشعر بصدق وأرى بجلاء أن الباحث الرصين يتحدث، ولو بصورة غير مباشرة، عن إشكالية الحداثة والتحديث في بلادنا الشامية، مع تحوير بسيط وهو أن نضع (الزمن العقاري) عندنا بدل النفط في منطقة الخليج. ولعل رواية (الزمن العقاري) للصديق الراحل أحمد سويدان تقابل، ولو بلمسات محلية محدودة، ملحمة عبد الرحمن منيف في خماسيته (مدن الملح).

وإذا كانت بداية النهضة العربية تقترن، في أذهان كثير منا، بحملة نابليون على مصر، فالباحث يلفت نظرنا إلى الطبيعة الاستعمارية لتلك الحملة. ولعلها كانت منبها عنيفا أيقظ النائم الخامل وفتح عينيه على مدى تخلفه. ولقد تواصل الاحتكاك مع الغرب في عهد محمد علي باشا، واعتبر د. مدن أن رفاعة الطهطاوي كان رائدا أثار في العقل العربي إشكالية النهضة، لتستمر بعده في كتابات وآراء كوكبة مستنيرة، منها: قاسم أمين ومحمد عبده والأفغاني وعلي عبد الرازق وفرح أنطون وشبلي شميل والكواكبي، وصولا إلى طه حسين الذي يعد منارة متفردة لا نظير لها خارج مصر. والوقائع التاريخية الواردة في الكتاب والتي تفاجئ القارئ، كما فاجأتني، هي أن النهضة بدأت في الإمبراطورية العثمانية مع السلطان أحمد الثالث منذ مطلع القرن الثامن عشر، كما يشير الباحث إلى أن دور الهند التنويري في منطقة الخليج لا يقل أهمية عن دور الغرب الأوروبي في ضفتي المتوسط الشرقية والجنوبية. وهذه وقائع ومعلومات قلما نلحظها أو تخطر لنا في بلاد الشام.

ونطالع في الكتاب تمييزا فكريا مهما بين الحداثة والتحديث. فالحداثة موقف من الحياة بشتى ظواهرها وما في أشيائها من ثبات وتحول، أما التحديث فهو تغيير شكلي فوقاني يتم بإدخال التقنية والمخترعات الحديثة. وهذا التفريق جعلني أتصور أن الحداثة تشبه العرض المسرحي البليغ بنصه وإخراجه وأدائه وتأثيراته المتعددة على جمهور مشاهديه، في حين أن التحديث يشبه (المكياج) الذي يكسو وجوه الممثلين. والباحث يرى أن معضلة التفريق بينهما تتجلى في مجتمعات الخليج بوضوح أشد من المجتمعات العربية الأخرى. لكن تيار الحداثة في العواصم العربية، بعيدا عن الخليج، سرعان ما انتهى إلى انتكاسة موجعة وجرف الملايين عبر موجات النزوح من الريف إلى العشوائيات وضواحي الصفيح حتى أدى إلى ترييف المدن، مصحوبا باتساع المؤسسة العسكرية وترهل الجهاز البيروقراطي وخمول الريف. وربما كانت الانقلابات العسكرية في بلاد الشام أخطر مظاهر تلك الانتكاسة.

إن دور النفط كان مهما في التحولات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، سواء في الخليج أو في البلاد العربية الأخرى التي ظهر فيها، وإن بدرجات متباينة. والتحولات التي رصدها وحللها بعمق منيف في خماسيته، لم تغفل عن الجوانب السلبية والمعوقة التي رافقتها. لكن التركيز على هذا العامل الاقتصادي جعل الرميحي يطلق صرخة تمثلت في كتابه “الخليج ليس نفطا”. وفي هذا السياق، تطرق البحث إلى تشكل الدولة المركزية وأهميتها في تنظيم المجتمع وإدارة مؤسساته، وهنا نرى أن التراث الشفوي والثقافة المحكية في بلدان الخليج تبدو أكثر حضورا وأقوى مما عليه في البلدان العربية الأخرى، وهذا التراث مهدد بالضياع رغم الجهود الرسمية والشعبية الساعية لتدوينه وحفظه. وفي هذا الإطار تبدو أهمية النظرة الوطنية لهذا التراث وحرفه اليدوية وفنونه العديدة في الشعر والحكاية والغناء والرقص، بغية إخراجه من حيز المحلية إلى الدائرة الوطنية وصولا إلى الأمة العربية. ويشير الكاتب إلى أن المنطقة ما زالت في مرحلة انتقالية لأن التحولات العمرانية، والمادية بوجه عام، أسهل وأسرع بكثير من التحولات الاجتماعية والثقافية.

ويلفت الكاتب نظرنا إلى أن “التعايش – والتضاد في الآن نفسه- بين الثقافتين التقليدية والجديدة” لا يزال حاضرا بقوة، ونرى أن رموز التحديث تشق طريقها بصعوبة، بينما ما يزال الماضي قادرا على إعادة إنتاج رموزه وإحياء مظاهر الثقافة التقليدية باستخدام الوسائل الحديثة. لكن وتائر التنمية السريعة في المنطقة تترك تأثيراتها الفعالة في “انبثاق أشكال وعي وسلوك جديدة” لصالح التقدم، وإن أدى ذلك إلى الاختلال والاختلاط في المعايير، لكنه جعل القوى التقليدية تتخلى عن كثير من المظاهر التي لم تعد منسجمة مع واقع التحديث. وهنا يصل الباحث إلى إيضاح عنوان الكتاب متسائلا: “لماذا ظهر حداثتنا إلى الجدار؟”

ويستهل الجواب بالإشارة إلى كتاب باقر النجار: “الحداثة الممتنعة في الخليج العربي”، مبينا أنها تستند إلى “الجانب العمراني الذي يتحول إلى صد بوجه تقدم الحداثة، حين يفهم أن العمران القائم هو نفسه الحداثة”. ويرى الكاتب أن الثقافة الحديثة تعاني من العزلة في المجتمع والدولة، كما أن ممثليها يفتقرون إلى الشجاعة، وخاصة أن القديم فقد مشروعيته ولا بد من الشجاعة للانخراط في معترك الحياة، بدل الاحتماء بالجدار. وهذه الظاهرة أيضا نلمح بحدة نثرات منها في بلادنا، بعد الاصطدام بداعش، لأن الإديولوجيا المنتصرة تأخذ بعض تلوينات المهزومة لإرجاء جمهورها.

الفصول الأربعة التالية في الكتاب: 1- أدب الجزيرة العربية وحكاية (عزلتين)؛ 2- التحولات الثقافية في مجتمعات الخليج العربي قبل اكتشاف النفط؛ 3- الهند نافذة الثقافية على العالم؛ 4- المثقفون في معترك التغييرك الحال البحرينية مثالا. وتشتمل هذه الفصول على بانوراما تاريخية مدروسة بعمق واستفاضة، وبشتى ظواهرها ومخاضاتها وتحدياتها، وعلى اختلاف أعلامها، قبل ظهور النفط وبعد طفرته التي سارعت بوتيرة الأحداث وألقت بآثارها الإيجابية والسلبية على الثقافة. إن كل فصل من هذه الفصول جدير بدراسة وافية مستقلة تلم بخلاصة ما فيه. وقد أنهى الباحث د. مدن كتابه بخاتمة أجملها بعبارة “خلاصات وتحديات”، وفيها يشير إلى المجتمع الاستهلاكي ونمط الثقافة الاستهلاكية، والعلاقة الملتبسة مع الحداثة، والقطيعة بين النطاقين الأكاديمي والعمومي، لافتا إلى تفشي ظاهرة “البترودكتوراه”، كما سماها د. محمد الرميحي. وهذه الظاهرة المرضية لم تسلم منها بلاد الشام، لكن الدولار أخذ مكان البترول. ولا ينسى د. مدن أن يكشف أن كثيرا من المبدعين في المنطقة قد ظلموا بتأثير العزلة وتركيز الأضواء على مصر وبلاد الشام. وهو يؤكد أن الطريق إلى الحداثة لا يزال طويلا وشاقا.