لم يخطئ جودت هوشيار كاتب مقال “هل الأدب الروسي في أزمة؟” (*) حين قال إنّ أجناسا أدبية كاملة تموت في روسيا مشيرا إلى أن القصص القصيرة ماتت بالفعل. أمّا الشعر فحاله مثل حالنا تماماً في العالم العربي بإمكان الشاعر أن يطبع ديوانه على نفقته الخاصة ليبقى حبيس مخازن دور النشر إن لم يسعَ بكل الوسائل المحرجة له أن يبيعه لأصدقائه لأن توزيعه مهمّة شبه مستحيلة، كون النّاشر قد يعرض نسخة أو نسختين فقط لا غير في كل معرض يشارك فيه.
ما يملأ مكتباتنا اليوم أدب روسي يعود لفترة ممتدة بين بداية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، ولعلّ فترة منتصف القرن التاسع عشر تعدُّ مرحلة فريدة من نوعها بالنسبة لروسيا الأدبية، يختصرها كتاب من 182 صفحة من القطع الوسط صدر مؤخرا عن دار الرافدين، بعنوان “مراسلات دوستويفسكي وتورغينيف” ترجمة محمد خميس.
صحيح أنه يقدّم خمسا وعشرين رسالة تبادلها الكاتبان في فترة وجيزة من حياتيهما، لكنها تختصر الأجواء الأدبية التي سادت في تلك الفترة، ونكاد نعرف أغلب أُدبَائِها كلما توقفنا عند محطّة مهمّة من محطات مسارهما الأدبي.
بين صداقة الرجلين وخلافهما وكراهيتهما لبعضهما بعضاً نرى بوضوح فيالق الأدب الروسي التي توزعت بين طبقة بورجوازية عادية فقيرة، وأخرى نبيلة ثرية مستحوذة على كل شيء، ومتفرّغة للكتابة واللقاءات الأدبية ولا تعرف شيئا عن المعاناة.
يمكن استخلاص نوعية الحياة الروسية آنذاك من خلال الأدب، كون شهرة الكتّاب الروس بلغت أصقاع العالم كله، كما قدّمت الثقافة السّائدة ليس كفكرة بل “كجملة كاملة من الغرائز المكتسبة والعادات، والأذواق الجمالية والأخلاقية والأعراف، وأساليب التفكير، والسلوك والتعامل مع الأشياء والحقائق” (ص40)
يمكن اعتبار الغيرة بين الرّجلين عاملا وارداً لتلك العلاقة المطّاطية التي تجاذبتهما بين الودّ والكراهية، لكنّ عوامل فكرية كثيرة أسّست لذلك الخلاف، ومنحته الاتساع الكافي لتفرقتهما بشكل حاسم ونهائي إلى الأبد.
على سبيل المثال لا الحصر يخبر دوستويفسكي صديقه مايكوف أنه يكره ولع تورغينيف بالألمان وثقافتهم ونمط حياتهم وبغضه الدفين للروس، وإلحاده. بحكم أنّ تورغينيف سخر منه وأهانه بشدة بسبب إيمانه بعقائده. غير ذلك كان من الواضح أن الطبقة النبيلة لم تكن لترى بؤس الطبقة الفقيرة خاصّة عند قيام الحروب، تحضرنا اليوم ونحن نتابع تفاصيل الحرب الروسية على أوكرانيا عبارة تورغينيف القصيرة النظر: “إذا فشلت روسيا فلن تكون ثمّة خسارة، ولا اضطراب في البشرية” كما يحضرنا الوصف القاسي الذي أطلقه دوستويفسكي عليه مغلقا باب أي قراءة مغايرة له “الأدب الإقطاعي”، وفيه من التأويلات الكثير الذي يحيلنا إلى تاريخ الدولة الروسية التي خاضت حروبا كبيرة وحققت توسعات وغنائم لا تعدّ ولا تحصى.
الجانب العسكري الذي يغطيه التاريخ بشكل واسع مركزا على المعارك ووقائعها وأسماء من قادوها ومن انتصر ومن انهزم، يقدّمها الأدب بشكل مغاير تماما، فكل حرب هي حرب على الإنسان أولاً، والجميع مهزوم فيها حتى وإن اعتقد “الرّابحون” ماديًّا منها أن ما تحقق لهم يدعى انتصاراً.
أمّا الحروب الأدبية التي شهدتها السّاحة الروسية نفسها بين أدبائها الكلاسيكيين فالرابح الوحيد منها هو الأدب. وغير ما كُتِب عنها في الصحافة الروسية وبعض الصحف الأوروبية التي امتدت إليها أصداؤها، فقد ظلّت الرسائل الشاهد الأكبر عليها، خاصة أن ما تمّ العثور والمحافظة عليه في أرشيف موسكو المركزي زادت أهميته وقيمته.
نحن لا نتحدّث بالتأكيد عن بصمة كليهما الأدبية، والبعد الإنساني في نصوصيهما، بقدر ما نتحدث عن الوسط الأدبي ككل، والعلاقات السائدة بين الكتاب، وأيضا عن اختلاف الأفكار، فالمؤلفان العظيمان ينتميان للبيئة الجغرافية الواحدة، ومع هذا فأحدهما غربي التوجه ليبيرالي، بينما الآخر أرثوذوكسي محافظ يتحدث عن روسيا وكأنها ملكه ويجب الحفاظ عليها من فكر الليبيراليين الذين يريدون إفسادها.
علينا أن نطرح الكثير من الأسئلة حول دوستويفسكي ورؤيته لروسيا النظرية التي تسكن رأسه وأحلامه، ففي النهاية هي نفسها بكل عظمتها من قذفت به إلى سجن سيبيريا، وجعلته يعيش أكثر أيام حياته مرارة، ليس فقط كمعاناة شخصية بل كمعاناة جماعية لامسها من خلال ما رآه في السجن من معاناة الآخرين أمثاله، نعرف كل ذلك من خلال كتابه الشهير “ذكريات من البيت الميت” الذي صدر أول مرة العام 1861، وفيه يروي تفاصيل الشقاء الذي تلا اللحظة الحاسمة التي وقف فيها ليتلقّى رصاص الإعدام فإذا بالعفو ينقذه، لكن بالمقابل سيعيش أربع سنوات من البؤس الأسود ستنقطع فيها مراسلاته بصديقه اللدود تورغينيف وتغيّر إعجابه نحوه من النّقيض إلى النّقيض.
في رسالة من تورغينيف إلى دوستويفسكي حملت تاريخ العاشر من فبراير 1860 يكون الودّ في أوجه، لقد أحضر معه 600 روبل من ناشره أوسنوفسكي الذي اشترى حقوق مؤلفاته الكاملة، وطلب منه أن يعرّج لأخذها، وهو أمر يشبه أيضا ما نعيشه اليوم، فهذا النوع من التّعاون بين الكُتّاب لا يزال مستمرا منذ تلك الأيام في الأوطان كلها.
نقرأ أيضا عن تعاون الأدباء في بداياتهم واهتمامهم بإرسال توصيات لقراءة بعضهم بعضا واكتشاف مواهب جديدة، كما نقرأ عن الوعود بالوظائف، والطرق الملتوية التي تسلكها الصحف ودور النّشر لترويض كتّابها، وهذا يشعرنا أن القطاع منذ الأزل كان شائكا، وعلى من يدخله أن يكون مستعدًّا لخوض مغامرة غير مضمونة، قد تفاجئه بالطرد، أو النّبذ، أو الشهرة الزّائفة التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، كما قد تضع رأسه في حبل المشنقة، أو تزجّ به في السجن، فيجد نفسه وقد انحدر من مرتبة أديب ومفكّر محترم إلى صاحب سوابق يأكل ويشرب وينام مع مجرمين من كل نوع.
عند قراءة هذه الرّسائل، رغم قِصَر بعضها، لا نتيجة أخرى نخرج بها سوى أن الأدباء تتشابه مصائرهم، في الفقر والعوز، والبحث عن منابر للتعبير، وعن توصيات للنّشر قد توفّر لهم مداخيل مؤقتة. فلا غرابة أن نجد تورغينيف النبيل الوسيم الثري يراسل دوستويفسكي مرات عديدة راجيا ومتأملا قبول وساطته لكًتّاب منهم من يبحث عن تزكية لدخول عالم الأدب، ومنهم من يبحث عن مورد مادي لينشر قصصه حين كان على رأس جريدة الزّمان، رغم تعثر انتشارها إلى أن تمّ إيقافها في النهاية.
يتَجاذبُنا تهذيب تورغينيف وأخلاقه العالية بشدّة، خاصة بعد مواصلته مراسلة دوستويفسكي بعد حادثة بادن التي أنهت علاقتهما، وذكرت في مراسلات عديدة بين أدباء روس عاصروهما، بعض هذه المراسلات ألحقت كجزء أخير في الكتاب الذي بين أيدينا.
لقد كان الخلاف إيديولوجياً بين هاذين العظيمين، ولطالما أفسدت السيّاسة ما بناه الأدب من علاقات إنسانية، لقد بالغ دوستويفسكي في تشريح قصص تورغينيف وتأويلها، ليصل لنتيجة ترضيه على أن “الليبرالي الذي يعيش في باريس ينتقد روسيا” وهذا ما كان يُشعِر هذا الأخير بالإهانة والطعن في وَطنيَّتهِ. وربما حنقه الأكبر كان بسبب استهتار دوستويفسكي في التزاماته بعد أن مصّته لعبة القمار.
لكن يجب الإشارة إلى الكمّ الهائل من الدّراسات والأبحاث التي تناولت هذه الرسائل بحثا عن الحقائق الغائبة، ومنها طبعا ذلك اللقاء الأخير الذي دام بينهما ساعة ونصف في بادن العام 1867 وأفضى إلى قطيعة نهائية. ولهذا يبقى الاستناد على الرّسائل التي تبادلاها، وتبادلها كل منهما مع أدباء آخرين، ومراسلات أخرى ذكرا فيها، استنادا غير كافٍ لفهم ما حدث، لكنّه يقدّم لنا لوحة كاملة عن الحياة التي عاشها الأدباء في تلك الحقبة والتي بالصدفة هي مرآة لما نعيشه اليوم.