بقلم: محرر مجلة Monthly Review
ترجمة: غريب عوض
اُجريت هذهِ المقابلة مع John Bellamy Foster في أوائل شهر أكتوبر وظهرت لأول مرة في عدد نوفمبر 2021 من مجلة Irish Marxist Review تحت عنوان “حالة الطوارئ الكوكبية”: ما العمل الآن؟ تم تكييفهِ للنشر هُنا.
John and Owen: هناك عددٌ من المُناقشات داخل الحركة ومن بين البيئيين الإشتراكيين. (1) هل يجب أن نتحدث عن عصر التأثير البشري أم عن عصر حُرية رأس المال؟ (2) هل ينبغي أن يدعو الإشتراكيون البيئيون إلى تخفيض النمو، وإذا كان الأمرُ كذلك، فماذا عن التنمية في جزء العالم الجنوبي؟ (3) هل تعتقد أنهُ من المُجدي الحديث عن “حقوق الطبيعة”؟ (4) هل حان الوقت للقيام بأعمال تخريبية و/أو أعمال العُنف، مثل “تفجير أنابيب النفط”؟ ما رأيك في أي من هذهِ الأسئلة أو جميعها؟
John B. Foster: هذا يتطلب الكثير من الأسئلة والنقاشات دَفعة واحدة. سأحاول الإجابة عليها بإيجاز، على التوالي.
(1) عصر التأثير البشري هو مفهوم علمي دقيق تماماً، وهو جزء من مقياس الوقت الجيولوجي، وهو أحد الإنجازات العظيمة للعِلم الحديث. إنهُ يُشيرُ إلى القوى البشرية (عبر المجتمع) هي الآن العوامل الرئيسية في تغيير نظام الأرض. لاشك في هذا، ولا توجد إمكانية لهذا التغيير بأي حال من الأحوال مع استمرار الحضارة الصناعية. حتى لو كانت الرأسمالية ستزول، وكان على الإشتراكية أن تحل محلها، فإننا سنظل في عصر التأثير البشري. لا يوجد تغيير في هذا دون تعريض الحضارة الإنسانية والوجود البشري للخطر. في الواقع، تدفع الرأسمالية العالم الآن نحو حدث إنقراض البشرية (وربما حدث الإنقراض الرُباعي)، والذي سينتهي فيه التأثير البشري على الأرض بتدمير الحضارة الإنسانية نفسها، جنباً إلى جنب مع أنواع أُخرى لا حصر لها. وبهذا المعنى، المُصطلح “عصر الإجتياح الرأسمالي” هو مُجرد خطأ تصنيفي يتجاهل نتائج العِلم الطبيعي ويُمثل عدم الرغبة في مواجهة حقيقة الحقبة الجيولوجية الجديدة التي نعيش فيها الآن.
عند الإقتراب من هذا بشكل أكثر واقعية، يمكننا القول إنهُ بينما، رسمياً، نعيش حالياً في عصر Holocene (العصر الحديث) في الزمن الجيولوجي، الذي يمتد إلى ما يُقارب 11,700 عام، في الحقيقة نحنُ نعيش الآن في حقبة التأثير البشري غير الرسمي الذي لا يزال يمثل عوامل بشرية المنشأ الآن كونها القوى السائدة في تغيير نظام الأرض. ويرتبط هذا ارتباطاً وثيقاً بتاريخ البشرية عندما يتعلق الأمر بالعصور الجيولوجية، التي تتداخل مع العصور الجيولوجية. من وجهة النظر هذهِ، نحنُ نعيش اليوم رسمياً في حقبة الميغالايان من عصر Holocene (العصر الحديث)، حيث يعود تاريخها إلى حوالي 4200 عام وغالباً ما يرتبط بالإنهيار الحضاري المُبكر بسبب تغيّر المناخ (على الرغم من أن هذا موضع خلاف في المجتمع العلمي). تُعتبر حقبة الميغالايان آخر عصر جيولوجي في عصر ال Holocene. ومن ثم، فقد جادلنا أنا و Clark، بِصِفَتُنا عُلماء إجتماع بيئي مُتخصصين، مؤخراً (في مجلة Monthly Review عدد سبتمبر) إنهُ بحلول حقبة التأثير البشري، دخلنا عصراً جيولوجياً جديداً، العصر الأول من حقبة التأثير البشري، التي بدأت في نهاية الحرب العالمية الثانية مع حقبة التأثير البشري نفسها. نحنُ نقترح تسمية هذا العصر الجيولوجي الجديد ((Capitalinian Aage العصر الرأسمالي لأنهُ يُشيرُ إلى النقطة التي بدأت عندها الراسمالية المُعولمة، التي ظهرت كقوة جيولوجية تُهدد الكوكب نفسه، في تعطيل نظام الأرض بأكمله.
في النهاية، تواجه البشرية الآن أما أن يحدث نهاية إنقراض التأثير البشري، من الناحية الجيولوجية، يتطور من الرأسمالية (في العصر التاريخي لرأسمالية الكارثة)، أو أننا سنجد طريقة لإنشاء مجتمع مع كوكب الأرض، والذي سوف يتطلب مجتمعاً من الإستدامة البيئية والمُساواة الموضوعية (الإشتراكية البيئية)، والدخول في عصر جيولوجي جديد: ما نسميه أنا و Clark “العصر الشيوعي”. تكمن قيمة هذا الإطار في أنهُ يُخبِرُنا بالضبط ما هي الخسائر. وهكذا نواجه في حقبة التأثير البشري والعصر الرأسمالي مناخاً عظيماً يتطلب إيجاد عالَمٌ يتسم بالتطور المُشترك مع نظام الأرض أو العصر الشيوعي وإلا لن نبقى على قيد الحياة. وبهذهِ الطريقة، بإمكاننا أن نفهم العلاقة ما بين تاريخ الإنسان والتاريخ البيئي كما يُقدم نفسهُ في زماننا هذا.
(2) إذا كان خفض النمو يعني أنهُ يتعيّن علينا تقليل تأثيرنا على نظام كوكب الأرض؛ إن الأقل هو أكثر كما يُجادل Jason Hickel في كِتابهِ؛ إن التراكم الأسي لرأس المال على نطاق عالمي لا يمكن أن يحدث في نظام أرضي محدود؛ إننا يجب أن نتحرك نحو اقتصاد حالة مُستقرة (مع انخفاض الوزن الإقتصادي مُقارنة بالحاضر) الذي يُعزز التنمية البشرية المُستدامة؛ إننا بحاجة إلى اقتصاد إشتراكي مُخطط بشكل ديمقراطي يُركز على حلول الطاقة المُنخفضة ويُقلل من الهدر والدمار؛ إن العالم يجب أن يتحرك نحو مُستويات مُتساوية لنصيب الفرد من استخدام الطاقة، قريباً من مستوى إيطاليا اليوم (ويسمح للدول الفقيرة باللحاق بالركب)؛ إنهُ يتعيّن علينا التأكيد على المجتمع بدلاً من على الإنتاج السلعي، نعم، عندها، أنا اُؤيد فكرة “تراجع النمو”، على الرغم من ذلك مع بعض التحفظات. إنهُ يُمسِكُ بجانباً أساسياً من المشكلة. لم يعُد نمط النمو الرأسمالي مُمكناً.
ومع ذلك، إن مفهوم خفض النمو في حد ذاتهِ يواجه مشاكل فيما يتعلق بالطريقة التي نختار بِها صياغة استراتيجيتنا. فهو ببساطة إنعِكاس لمفهوم “النمو”، وهو أقوى استعارة للنظام الحالي، تم تقديمه بعد الحرب العالمية الثانية لتمثيل الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي. هُنا النمو ببساطة هو دفتر الأُستاذ المُحاسبي المُهيمن، القائم على مسك الدفاتر الرأسمالية المُزدوجة، والذي تم رفعه إلى المُستوى الوطني. إنهُ يعني أي شيء (الإنفاق الحربي، الجريمة، إنتاج الوقود الأحفوري، حُسن التصرف في النفايات النووية، المنتجات التي يمكن التخلص منها على الفور) المُساهمة في “القيمة المُضافة”. ويشمل كل شيء يمرُ من خلال السوق، مهما كانت طبيعة السِلعة المُعيّنة، وبصرف النظر عن تبذيرها، وهدمها، وعدم عقلانيتها، وعدم المُساواة، والأستغلال، والمُصادرة المُتضمنة فيه. إذا قطع المرء أشجار غابة، وهو من الناحية الرأسمالية هي ملايين الأقدام من ألواح الأخشاب الواقفة، فإن ذلك يُعتبر نمواً. ومن المُفارقات أن نمو غابات الأمازون نفسها لن يُشكّل “نمواً”. في الواقع، يتم تدمير الأمازون اليوم بإسم التطور الرأسمالي.
لكن أن نقول، إذن، إن ما نُروج لهُ كبديل هو “خفض النمو”، والذي يعكس فقط هذا المفهوم المُشوه للنمو، ويُخاطر بمُضاعفة الإرتباك، ومُعاملة المشكلة البيئية على أنها مُجرد مسألة مقياس. ثم يتمُ اختزال المسألة إلى جوانبها الكمية، وليس لها علاقة بالضرورة بالقضايا الكمية والعلاقات الإجتماعية وما إلى ذلك. ويبدو الأمر كما لو أنهُ يُمكننا المُضي قُدُماً كما نحنُ، ولكننا بشكل أصغر فقط، وبالتالي نُمسِكٌ بِبُعد واحد فقط من المُشكلة. بينما، في الواقع، فإن القضية الأساسية هي طبيعة نظام التراكم نفسه، والآثار البيئية المُدمِرة التي لا يمكن اختزالها في مجرد مسئلة حجم. (بالطبع، يُدرك هذا أكثر مُنظري خفض النمو فطنةً ويدمجون الإهتمامات النوعية في تحليلاتهم.) كما أننا نواجه المشكلة التي يُجادل فيها بعض مُنظري خفض النمو، مثل الإقتصادي الفرنسي Serge Latouche، بأن خفض النمو مُتوافق مع الرأسمالية، كما لو أن الرأسمالية ليست نظاماً لتراكم رأس المال إلى ما لا نهاية.
لقد تجنب بعض مُنظري خفض النمو أيضاً قضية التنمية المطلوبة في جزء كبير من جنوب الكرة الأرضية، والتي لا يمكن أن يُطلب منها التقليل من النمو. بشكل عام، يُعتبر مفهوم خفض النمو مُفيداً في إنشاء المُؤشِرات الضرورية. ولكن القضية الحقيقية هي النظام الإجتماعي.نفسه. وأمامنا أيضاً مشكلة مواجهة مفهوم موطن للنمو من خلال قلبهِ رأساً على عقب، مما ينتج عنهُ صعوبات حقيقية في بناء مفهوم شائع.
لقد حاول بعض مُنظِري النُظُم البيئية مثل Howard Odum التغلُب على هذا بواسطة معالجة قضية “طريق مُزدهر إلى الأسفل”. غير أن، في اعتقادي، أن الإجابة الحقيقة الوحيدة، هي جعل الإشتراكية البيئية هي المحور الأساسي بدلاً من خفض النمو.
المشكلة الأساسية هي أننا نعيشُ في “مجتمع تراكمي”، كما أسماه الماركسي الفرنسي Henri Lefebvre. ما نحتاجهُ ليس رؤية شاملة لخفض النمو بقدر ما هي رؤية شاملة لنزع التراكم. إن الرأسمالية خَطِرة على البيئة ليس لأنها ببساطة تنمو، إنما بسبب أسلوب نموها (التراكم بأي ثمن)، الشيء الذي يُضاعف المخاطر على البيئة وعلى الإنسان فوق سطح الأرض. تم تسليط الضوء على هذهِ المسألة في مقالتي (المُدرجة في الصدع البيئي) بعنوان “القانون العام المُطْلق للتدهور البيئي في ظل الرأسمالية”.
ومع ذلك، فإن فكرة خفض النمو تحدثُ فجوة في أيديولوجية النمو الراسمالي، وهو أمرٌ أساسي. النمو الهائل، وفوق كلُ شيء، التراكم الرأسمالي، يُدمّر الآن في الواقع أكثر مما يخلقه في العالم الحقيقي، ويُدمر الكوكب بإعتبارهِ موطناً للبشرية. علاوة على ذلك، في السنوات الأخيرة، لعب مُنظِرو خفض النمو دوراً رائداً في تطوير ستراتيجيات الطاقة المنخفضة للتعامل مع تغيّر المناخ. وهكذا، تتم الإشارة إلى عمل Hickel (مع أعمال المؤلف السويدي Andreas Malm وآخرون) في الجزء الثالث المُسرب من التقرير السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ وهو يُشيرُ إلى إمكانية وجود استراتيجيات منخفضة الطاقة، يُنظر إليها على أنها الأمل الرئيس الآن للبقاء دون زيادة 1.5 درجة مئوية في متوسط درجة الحرارة العالمية، وكتقديم الحجج فيما يتعلق بعدم إستدامة الرأسمالية.
(3) لا أعتقد أنهُ من المنطقي التحدث عن “حقوق الطبيعة”، فقط لأن الطبيعة من المحتمل أن تخسر في أي منظور من هذا القبيل، كما تفعل البشرية اليوم. ترتبط الحقوق السياسية (الطريقة الرئيسية التي نُشيرُ بِها إلى الحقوق في المجتمع الرأسمالي) بكونها جزءاً من النظام السياسي، بناءً على فكرة نوع من العقد الإجتماعي الأولي (مفهوم قدمهُ الفيلسوف اليوناني Epicurus أبيقور لأول مرة في العصور القديمة)، أو من كونها جزءاً من نظام دستوري تم إنشاؤه بوعي. في نمط الإنتاج الرأسمالي، يتم اختزال الحق، بهذا المعنى، بشكل أساسي في حق المُلكية القائم على مفهوم السِلعة، الذي يُشكّل أساس النظام القانوني باكمله. هناك أيضاً مفهوم أخلاقي للحق الطبيعي يتم تصوره بطُرُق مُختلفة ومنفصلة عن الحقوق المشتقة سياسياً. هذا المفهوم أكثر إرباكاً لأنهُ محذوف من مفهوم العقد الإجتماعي. هُنا، إذا كُنا نتحدث عن العدالة، كما جادل أبيقور، ووافق ماركس على ذلك، المفهوم الأساسي للعدالة هو المُعاملة بالمثل، بالإضافة إلى الأعتراف بأن فكرتنا عن العدالة يجب أن تتغيّر جنباً إلى جنب التغييرات في علاقاتنا واحتياجاتنا. هُنا بإمكاننا التحدث عن الحاجة، في علاقة المعاملة بالمثل، للحفاظ على الأرض وإعادة إنتاجها، وكيف تتطوّر هذهِ الحاجة مع التاريخ. ينبغي علينا أن نُدرك علاقتنا الحسية والجمالية بالطبيعة، حقيقة أن البشر أنفسهم جزء من الطبيعة، والتي نتعامل معها بطريقة حسية ومادية، وهو أمرٌ أصر عليهِ ماركس مِراراً وتِكراراً. أكد العالِم والفيلسوف الأمريكي Aldo Leopold، من منظور مُختلف، ولكنهُ تحدى تسليع الطبيعة (جعلها سِلعة)، على الحاجة إلى توسعة إحساسنا بالمجتمع ليشمل الطبيعة. يجب أن يكون لدينا إحساس بالقيمة الجوهرية للطبيعة، كقيمة الحياة نفسها، والعلاقة الجمالية بالطبيعة، المُستمدة من هذا الإحساس الأكبر بالإنتماء إلى الأرض.
كما قال ماركس، نحنُ مُرتبطون بالطبيعة ليس من خلال الإنتاج فقط، ولكن من خلال مفاهيم الجمال لدينا. وبالطبع، ينبغي أن يكون لدينا نوع من الإحساس الوِقائي “لحقوق الحيوان”، لمنع الإساةء إليها في مجتمع سِلعي رأسمالي. وبصرف النظر عن عبودية البشر، ليس هناك شيء أسوء من اختزال الحيوانات غير البشرية إلى مُجرد آلات بلا أرواح، كما فعل الفيلسوف الفرنسي Rene Descartes رينيه ديكارت. في الحقيقة، انتقد ماركس مُباشرةً فلسفة ديكارت الميكانيكية على خفضها مرتبة الحيوانات غير البشرية من مُساعدين للبشر، كما في العصور الوسطى، إلى مُجرد أشياء ميكانيكية للمجتمع البرجوازي. كما جادل أبيقور (وكرر ماركس)، علينا أن نعيش بطريقة تجعل العالم، أي الطبيعة، “صديقنا”. إن مُحاولة مُعالجة كل هذا من منظور مفهوم بُرجوازي للحقوق تخلط الأمور، لأن القضية الحقيقية هي مدى وطبيعة مجتمعنا مع الأرض، مع الحيوانات غير البشرية، ومع بعضنا البعض.