الدهشةُ والمعاني في “مون لايت جاليري”

0
86

كان ذلك يوماً مميزاً حين دخلنا “مون لايت جاليري” العائد للفنان المبدع المتنوع حسن جناحي، الذي أبهرنا بما لديه من أفكار وقدرات فنية وابتكارات تصب كلها في صالح  هدف المحبة بين البشر والرغبة في حياة بلا حروب، تعرّش العدالة على أغصانها ويعمّ السلام كل بقعة على أرضنا المتألمة الموجوعة بكثرة الجروح والظلم والجوع والضياع.


في جاليري الفنان حسن جناحي أخذتني الدهشة أولا  ثم   غرقت بالأمل، وعرفت أن العالم مازال بخير،  وبأن الفكر الانساني النبيل سيلملم جروح الكرة الأرضية ويضمدها بالمحبة.


في زوايا الجاليري الذي ينقلنا به الفنان من أعمالٍ فنية مذهلة الى أروع منها، وجدنا كل شئ خاص وله روح خالدة، كل شئ يسحرك ويسمّرك عنده لتفغر فاكَ دهشة من جمال الصنع وسمو الهدف. تذكرتُ نفسي حينما كنت في عمر السادسة عشر حين كنت أحلم بعالم يحتفل به جميع أبناء الأرض بإنهاء آخر رصاصة عليها ولتختفي الحروب الى الأبد..هنا وجدت عالمي الذي به حلمت..


في هذا المكان الذي صنعه وأثثه الفنان حسن جناحي بنفسه، دهشتُ وأنا التقي تلك الشجرة التي أحببت أن أدعوها شجرة الحياة. كانت هي دهشتي الأولى في هذا المكان حيث تنتصب عند المدخل، شجرة هائلة، شامخة، مليئة بالفِكَر فتحتار كيف تحتويها وهي لايمكن احتوائها لابصورة تلتقطها، ولا بالنظر من جهة واحدة، الشجرة المذهلة هذه تجعلك تدور حولها، تدور لتكتشف اسرار الحياة، والحضارة، والعلم ،والفن، والكمال، والحب، والأمل، تأخذك وقد أضعت نفسك بعالمها الكثير، الباذخ، البهي، العسير والسهل الممتنع في آن، تفتح نهمك للمعرفة أكثر فتدور حولها عدة دورات وتبقى تدور بدهشتك، لكنك تكتشف في كل مرة فكرة، أو عملاً منحوتاً، أو حياة جديدة فيها، تعلم عندها بأنك لم تستطع إحصاء ما بها من معرفة وفنون فتستسلم قائلاً بكل يقين:
إنها الشجرة التي لاتحصى.


تراها حميمية وسهلة، قريبة إلى الروح فهي جذع لشجرة حقيقية فاتحة ذراعيها تحييك حاملة كلما تحلم به في هذه الدنيا، فمن أعلاها  تنتصب الفروع غضَباً، وتمرداً، أو مصباح نور يهدي البشر الى الطريق القويم، بها تجد عالماً من العمران، والوزارات، وتخطيط البلدان، والجامعات، والمدارس، والتأريخ، والقانون والحاضر فتعجب !كيف اجتمع كل هذا بتلك الشجرة!


وبذات الوقت تطلعُ لكَ من جذورها المنغرسة بالأرض، الى سطحها رؤوساً منحنيةً، وأذرعاً كثيرة  تمتد حاملةً ألف معنى ومعنى لتمنحك الرضا بأنك مهما كان مستوى أفكارك لابد وأن تجد ضالتك فيها ،رؤوسا تسجدُ مستسلمة، أو هي في وضع السلام والعشق، وقد تكون غارقة بالمعاناة والانسحاق، كما تمتد الأيدي متضرعة أو طالبة العون أو المغفرة أو هي قاصدة ما لاندري..


كلما يخطر ببالك تجدهُ في هذه الشجرة العظيمة الشأن لتسير الحياة على الأرض، بها تجد كل حاجاتك وكل معرفة، تعرض لنا المستقبل والزمن بكل كبواته أو نجاحاته فتشعر بالثراء الروحي لهذه المتعة المعرفية الغامرة. . شجرة شامخة نحتها الفنان بإزميل باذخ الدقة والتمكّن ليمنحنا تلك الدهشة، ويكشف لنا أسرار  تعمير الأرض وتكوين المدن والعيش بأمن وسلام بعيدا عن الضغينة والتعصب والصراعات.


ننتقلُ الى زاوية اخرى فتطل علينا عيون الأطفال الجياع من شعوبٍ ودولٍ تعاني، ونقرأ كلمات نداء الجياع باللغتين العربية والانكليزية الذي كتبه المبدع حسن جناحي تضامنا مع حقهم بالحياة وأقتطف منه:
(هنا نحن أيها القادمون من شتى بقاع الأرض…هذا المكان الذي احتضننا وخصص ركناً من أركانه مأوى لنا لنحكي لكم عن الجرائم والعذابات التي ترتكب بحقنا من قبل حفنة حقيرة من صنّاع وتجّار  الحروب …. الخ).


ويعلو تلك الصور والأحداث واللوحات شعار اليونسيف، لتعلم بأنك أمام عالم الإنسانية المعذب وهنا في هذا الجاليري يرتفع صراخها من أجل جميع الضحايا، محذرا الجميع من ممارسة العنف والاستهتار بالحياة.
على بعد خطوات من خفقات الأرواح هذه، تواجهنا صورة الراحلة العراقية المهندسة “زها حديد” بابتسامتها الخجولة وشموخ أعمالها المعمارية العالمية وخلودها، فيرتسم على وجوهنا تعبير الاعتداد بهذه المرأة الفذّة مخلوطا بحزن فقدها. لقد كان وجودها في هذا الجاليري تعبيراً واضحاً عن الإيمان بقدرات المرأة، وتأكيداً على دورها الهام، فوحدها التي تهز المهد بيمينها وتهز العالم باليسرى..


نتقدم أكثر فنصل قلب القاعة، تفاجئنا خرائط فلسطين الحبيبة بكل هيبتها، فالقلب فلسطين، وها هنا يحضر المناضلون والشهداء ببطولاتهم  وتحدياتهم وعنفوان شعبهم الذي لايكلّ ولايملّ عن العطاء والشجاعة اللامحدودة، نتحسر لأنها وجعنا جميعا، نحدق بتلك الخرائط التي ترينا كيف تمّ تمزيق وسرقة فلسطيننا شبراً شبراً، حتى صغرت وآلمتنا وبقيت كما الجرح المفتوح بأرواحنا، ولن ينسى المبدع شخصية حنظلة التي ابتكرها الفنان الفلسطيني “ناجي العلي” عام 1969.


حنظلة كان هناك في البحرين، وتحديدا في “مون لايت جاليري”، يقف شاهداً على جرائم الصهاينة بثيابه الممزقة وجسمه الناحل، مؤكداً للعالم ظلم وازدواجية المعايير العالمية وصلابة شعبه وشجاعته الفريدة..
ثم نلتفت وإذا بزاوية الفن، تتربع عندها طاولة كبيرة وقد تكونت من أربعة أعواد موسيقية، راكعة للفن احتراماً وإكبارا له، تشكّل الأعواد تلك مساحة الطاولة الأنيقة، الأخّاذة الجمال، تحيطها كراسي مصنوعة ايضا بيد المبدع وبطريقة لم تخطر على بال أحد لنجلس عليها منبهرين بتلك الجلسة الفنية المريحة جداً، نرفع أعيننا فتطل علينا عيون كبار الفنانين ناظرة الينا من الحائط فنلتقيهم جميعا.


بيتهوفن ينظر الى موزارت، وبجانبهم شوبان، وهذا تشايكوفيسكي وبجعاته المبحرة بعمق الجمال والرشاقة، وغيرهم من الفنانين العالميين، نحييهم  ثم نستدير بنظرنا، وإذا بنسر كبير  يفرد جناحيه بهيبة، نسر  كما الطائرة  في الصنع، برأس جميل وعينين لامعتين متحديتين، بمنقار حلو، يحتضن قلبه أصابع بيانو ضخم مهيب.. أجزم بأن أي شخص يراه  لايملك سوى أن يردد منبهراً كلمة: الله الله..

 
نلتفت  إلى جهة أخرى فتواجهنا ابتسامة “المهاتما غاندي” العميقة، غاندي الذي واجه الاستعمار البريطاني بجوعه، وصمته، وحكمته، ومحبته، ووطنيته، وفقره وزهده فانتصر. انتصر غاندي لشعبه بالقيم النبيلة التي كانت أدواته البسيطة العظيمة.


أرفع عيني قليلاً لأواجه  الخالد “مانديلا”  الذي غلب أعداءه بسجنه وصبره ونضاله، حاملاً أكبر القضايا ليحرر وطنه السليب وشعبه المستعبد.


أرى أيضا “مارتن لوثر كنغ” ذلك العظيم الذي أسس للعدالة بين البشر ودحض العنصرية ضد أبناء جلدته من المعذبين والمضطهدين ليتم أغتياله برصاص غدرٍ عنصري فيطير إلى الأعالي باقيا في القلوب أبداً. 
هؤلاء العظماء لم يحملوا سلاحاً ضد عدوهم القوي،  ولم يفجروا القنابل في طريقه، إنما بفكرهم ونضالهم ونبل مواقفهم غيّروا مجرى التأريخ وانتصروا على الشرور فحفروا على جبين الكون، وفي قلوب البشر صورهم وابتساماتهم ليخلدوا، وهذه أحد مبادئ الفنان حسن جناحي كما يستشفها كل من يرى أعماله الفنية. بالفن، والوعي، والثقافة، والمحبة، تُبنى الحضارات وتدوم..


هذا غيض من فيض مما رأيته في جاليري  مبدعنا حسن جناحي، وإني لأعتذر عن عجز لغتي على احتواء جمال وثراء إبداعه الخلّاب، الباذخ بالروح والنور . وأعتذر عن قصور ذاكرتي في إحصاء ما لا يحصى…ليبقى بيتك الفني النبيل أيها المبدع حسن جناحي نابضاً بالنور، يذرذر أضواء الإنسانية على كل زوّاره. متمنية لهذا الجاليري الذي ينزع الأحقاد من الأرواح ويقوّمها- إن كان بها عوج- أن يكون صفحةً مفتوحةً على العالم الأوسع، ومدمكاً للفن الأصيل والفكر الانساني الشامل، وأن تدوم  شعلته الذكية محفّزةً الناس ليبتكروا ويبدعوا بعد أن شاهدوا كل أنواع الفنون والمهارات التي قُدمت لهم بأروع صورها وبجهودك الشخصية المميزة.


تحية للمبدع الكبير المبهر حسن جناحي، أنحني إجلالاً لعطائه هذا وأرجوه أن يغفر لنا وللناس جهلنا بهذا الجاليري الفخر للبحرين الحبيبة وللبشر من كل العالم .