الخروج في النّهار

0
53

في البستان لا يمكنكَ أن تقولَ أكثر ممّا ترى.

 حين بدأتُ التصوير في بساتين شارع النخيل في منتصف التسعينات بكاميرا كانون (AE1) الفيلميّة: «الخرارات»، «العذار»، «الساجنية»، «الفوقيّة»، «البديعة»، «المحموديات»، «المقيسم» «السردحة»، «الهربدية»، «الخراب»، «الأطباع»، «الشاذبيّة والصبيخة» و«يار يار»، وقتها قال لي نخلاويّ “تأخرت كثيراً. أنتَ لم تر البساتين”! 

حملت كاميرتي وعبارته معاً، لم ينفكّا أبداً، بظنّ أكيد أنّ الصورة امتداد الزائل، بها تصبح «تأخّرت كثيرا» لا قلق فيها وأنّ الحدود بين «أنتَ لم تر البساتين» تشبه – إلى حد ما – الحدود الوهمية بين البساتين وأنا أتنقل بينها، ولا أعرف أنّي خرجت من واحد ودخلت في آخر حتى يقول لي نخلاويّ أنت خرجت من بستان «السردحة» أنت الآن في «المقيسم»! 

رأيتُ أنّ تجربة تصوير البساتين تشبه تجربة تصوير الصيادين في سواحل البحر في أن كليهما، البساتين والسواحل في طور الغياب أو الزوال؛ فالكثير من البساتين التي صورتها بشكل ممتدّ، وصورت نشاط الزرّاعين فيها أزيلت والبحر لم أعد أجده. صارت صورهما في أرشيفي خيالية، لا أظنّ أن الأجيال القادمة سوف تصدّقها. حدث كلّ ذلك في فترة وجيزة جداً. هنا – بالتحديد- هذه الصور تحمل معنى يتجاوز الجمالي إلى التوثيقي التاريخي، يصير لها وظيفة أخرى: إيلام الآخرين!! هذا جزء من وظيفة الصورة، بكلّ هذه السخرية.

في العام 2006 حين دخلت «الشاذبية والصبيخة» أوّل مرّة والتقيت فيها بالحاج عبدالله بن خميس وأخوته الثلاثة كانت عبارة النخلاويّ في وجهي! قلت لنفسي: صحيح جداً، أنا لم أرَ البساتين لكنّي رأيت العين التي رأت البساتين: عبدالله، جميل، رسول وحبيب حين بدأت هذا المشروع، بعيونهم، برواياتهم، حكاياتهم، ثقافتهم العميقة إلى أبعد جذر نخلة في هذا البستان الصغير. 

كنت حذراً للغاية في البداية، وربّما تركتُ كاميرتي في حقيبتها؛ ليس لأنّ العلاقة في بدايتها، ليس لخفّة الترحيب في نفوسهم؛ فهذا مقابل طيبتهم، طبيعة كرم الأرض تحت أقدامهم، لكن المكان في البستان كلّه جدّ، كلّه قصد، كلّ شيء في موعده، ولا يليق بمصور ليس جاداً أن يذهب للفلاحين، يرفع الكاميرا في عيون الضحكُ فيها جادّ. رأيتُ الفِلاحة شأنا قديما، لكن الشكل الذي أمامي- وأرغب في تصويره- حديث جداً، فكيف لكاميرا صغيرة العلاقة، جديدة العين أن تعي هذا المعنى؟! وكيف أعي معنى أنّهم يعرفون مواسم الغرس بالرائحة، لا بالمواقيت؟!. كيف يمكن كتابة ذلك فضلاً عن تصويره؟!

أصغيتُ لسيرة أربعة أخوة نَقَّلهم نظامُ «التضمين» القاسي من بستان لآخر، مثل بدو في البساتين. دوّنتُ سير أربعة رجال كلّها تبدأ بـ”ولدتُ هنا في البستان”. وحين سألتُ إحدى نساء العائلة-فاطمة بنت رحمة- عمّا إذا كان هناك سببٌ آخر لتنقلات الفلاحين غير نظام «التضمين» قالت “الفلاحون يهجّون”. وضعتُ مساحات البساتين التي عبروها متجاورةً؛ فرأيتها تنقص إلى النصف تقريبا في كلّ مرّة، حتى أنّه يمكن للفلاح في أوّل البستان -الآن- أن يرى الآخر أينما كان، ويمكن -أيضاً- رؤية البيوت الاسمنتية تحيط به من كلّ جهة مثل مترصد للقتل.  

فلما توثّقتِ العلاقة مع ثلاثة منهم، قلت لنفسي حينها: هذه وجوههم، ليس هي التي رأيتها من قبل أبداً، وهذه عيونهم التي رأتِ البساتين التي لم أرها؛ لأنّي «تأخّرت..». اجتهدتُ -قدر الإمكان- في تصوير تلك الوجوه في حالاتها، بلا عناية، تجاوزاً للبورتريهات المحضّرة، التي تتّسمُ بها مرحلةُ البرجوازية في التصوير، ومحاولةً لأخذ الناظرين إليها، القارئين للنصوص المرفقة بها، النصوص التي هي في الأصل من كلام الزرّاعين أنفسهم؛ لفهم معنى التعب في حياتهم، المنسيين في بساتينهم تحت نظام «التضمين». سجل فوتوغرافي لنشاط مضنٍ في أساسه، رومانسي، مسلٍ في ظاهره تصوراته عند النّاس. هذه واحدة من مهمات التصوير: إن لم نفهم حياة الزرّاعين في البحرين، سوف نقوم- على الأقل- بجمعها في صور، ما دام الواقع أصبح ذاك الذي لا نراه إلا في مجموعة صور.

طالما كتبتُ أن المعاني مطروحةٌ في الوجوه، ولن ينتهي التعبير فيها يوماً، ولا عنها، مهما كانت طريقة التعبير أو شكله. وأنتَ في كلّ تلك الحالات عليك أن تعرفَ متى ترفع الكاميرا في وجوههم الجادّة، وتستحوذَ على لحظة الفتح في الوجه فتبدأ علاقة مختلفة عن تلك التي أثثت بها لهذا الفعل ومهدّت، علاقة أعمق معرفة من تلك، وأن تحاول بشكل ما تقليل «العدوان» المقترن بفنّ التصوير. وأنّ الصورة هي التجربة، ولا يمكن لمصور أمامها أن يقول «اكتفيت». عندما التقيتُ بالحاج عبدالله بن خميس وأخوته في مجلس عزاء، سأله صديق لي: ماذا يفعل هذا الرجل في البستان؟! فقال: “يصوّر والنهار ما يجزّيه”.

 زرتهم ليلاً في البيت الذي يجمعهم، البيت الذي لا يرونه إلاّ في الليل.  ثيابهم التقليدية البيضاء، الضحكة البيضاء -أيضًا- في بيتها. شربنا الشاي وصار السـؤال على صورة كبيرة لوالدهم الفلاح الحاج عيسى بن خميس، بكر أمينة، معلّقة في وسط المجلس. هذا الرجل رأى أكثر. انفتح الكلام على تلك المقارنة التي لم تتوقف يوماً، تسبقها آهات: البساتين قديماً، البساتين حديثاً، الماء الكثير، النساء يخصفن من خوص سعف النخيل حُصراً، يميّزن جيداً رائحة المشموم الملفوف بالورد المحمديّ، الظلّ الكثيف المتّصل في المسافات الطويلة في البحرين، الطريق العودة (شارع البديع) المظللة كلّها بالشجر، بالنخيل، بالثمر، الهواء النقي، الغبار النادر، رائحة نَفَس الأرض، تداخل البساتين ورضى النفوس. وكان الأكثر حضوراً في تلك المقارنة حياة الآباء، كثرة الحياة فيها، الإعالة الأيسر، الوقت يكفي مهما كانت مساحة البستان، تغيّر المناخ، قلّة الأشجار وانحسار الظلال. وكان ذلك يكفي لتبرير التصوير الآن وليس غداً، جمعا لما يصعب فهمه، إنذاراً للتراخي في التحذير من فقدان طبيعتنا، أرضنا، بساتيننا، هواءنا وماءنا… حفظاً للعين التي رأت، واستنطاقاً لما بقي من البساتين، التي تنتظر حفظها، ترويج جمالها وعطائها، وحتى لا أزعم أنّي فهمتُ حياةً لم أجتهد في تصويرها، ولا أصوّر وجوه ناس لا أعرفهم وحتى – أيضاً- لا أتأخر مرتين.