دبلوماسية الاقتصاد النهبي

0
108

لدى الولايات المتحدة جيش عرمرم من الموظفين في مؤسسات الدولة الأمريكية، لاسيما في وزارة الخزانة الأمريكية (Treasury Department)، ومكتب التحقيقات الفدرالي (FBI)، ووزارة العدل
(Justice Department)، يسهرون ليل نهار على تتبع حركة الأموال حول العالم، بهدف مركزي هو اصطياد ما يشاؤون من أموال بذرائع مختلفة. منها الاحتيال، والتهرب الضريبي، وخرق العقوبات (التي تضعها هي نفسها وما على العالم بأسره سوى الالتزام بها). ووصل الأمر بالسلطة في واشنطن مؤخراً إلى اجبار البنوك المركزية في العالم، لاسيما في الدول المكشوفة سيادياً، على موافاة وزارة الخزانة الأمريكية يوميا بمعلومات وبيانات العمليات النقدية التي تتم في مصارف بلدانها، وهو ما تلتزم به معظم الدول المضغوطة كي تتفادى عقوبات وزارتي الخزانة والعدل الأمريكيتين.  

لتحقيق ذلك تتبع واشنطن ما تسمى بالدبلوماسية القسرية “Coercive diplomacy”، وهي عبارة عن مجموعة من الإجراءات والتدابير التي تنطوي على تهديدات واضحة، وإكراه الآخرين على تنفيذ ما يُطلب منهم. على عكس المقاربة الصينية في ممارسة التأثير واكتساب النفوذ المتمثلة فيما تسمى سياسة الاستثمار المنتِج للمشاريع “Development finance”، أو “Project financing”. 

ولفهم ماهية الدبلوماسية القسرية، ما عليك سوى إلقاء نظرة على ما تفعله الولايات المتحدة مع معظم دول العالم: عقوبات أحادية الجانب (Unilateral sanctions)، وسلطة قضائية متغولة، من أمثلتها فرض عقوبات ومحاصرة سوقية “Market blockade”، على شركة “Huawei” الصينية، وشركة “Toshiba” اليابانية، وشركة “Alstom” الفرنسية؛ واجبار شركة “Samsung” الكورية الجنوبية وشركة “Taiwan Semiconductor Manufacturing Company – TSMS” التايوانية، وغيرهما من الشركات على تزويد الولايات المتحدة ببيانات سلاسل التوريد الخاصة بها.

في البداية أبدت الشركة التايوانية، رفضها الشديد لهذه الاملاءات، لكنها سرعان ما رضخت ووافقت على تسليم واشنطن معلومات حساسة خاصة بها مثل المخزون وسجل طلبات العملاء، وذلك قبل حلول الموعد النهائي الذي حددته واشنطن لتسليم البيانات وهو الثامن من نوفمبر 2022. هذا يعني أنه في المستقبل، ستكون مبيعات TSMC ومخزونها وعائداتها وغيرها من المعلومات معروفة لحكومة الولايات المتحدة، وكذلك الحال بالنسبة للمعلومات الحساسة الخاصة بعملاء الشركة. هذا يعني أيضا أن TSMC ستسير في سوق الرقائق عارية تماما، حتى أن أسعار منتجاتها سوف تخضع لتقديرات الشركات الأمريكية. وقد يتم تسريب هذه المعلومات إلى شركة “Intel” (أكبر شركة أمريكية مصنعة لرقائق أشباه الموصلات) والى الشركات الأمريكية الأخرى. وما تريده الولايات المتحدة الآن هو ما يسمى بالرقائق “المستقلة والقابلة للتحكم” (“Autonomous and controllable” chips). وهذا ما يجعل الولايات المتحدة تتحكم بشكل كامل في الطاقة الإنتاجية العالمية للرقائق على مستوى العالم، ما يمكنها من السيطرة على الروافد العليا للسلسلة الصناعية. وهي في سبيل تحقيق ذلك، تعمل على ثلاثة مسارات:

في المسار الأول، فيما خص شركة “TSMC” التايوانية على سبيل المثال، سوف يُطلب منها كخطوة أولى بناء مصنع في الولايات المتحدة. وعلى مسار ثاني سوف يتم اجبارها على تقديم أسرار تجارية كاملة، توطئة للمسار الثالث الذي سيتم فيه ابتزاز الشركة ودفعها لنقل معارفها التكنولوجية. إنها إذن، أكثر السرقات وحشية في تاريخ العلوم والتكنولوجيا العالمية، والتي يقف العالم بأسره مذهولا ومشدوها من وقع صدمتها.  

قبل فترة، نظمت وزارة التجارة الأمريكية قمة الرقائق، دعت اليها كبرىات شركات تصنيع الرقائق مثل TSMC و Samsung و Intel. وقد اكتشف المشاركون من شركة TSMC، أنهم وقعوا في مصيدة. في الاجتماع، لم تهتم واشنطن في الاستماع إلى كلمات ومحاضرات الشركة. كان لديها غرض واحد فقط. لقد أرادت من الشركة التايوانية تسليم بياناتها السرية في غضون فترة لا تتعدى 45 يوما، بما في ذلك مخزون الرقائق وحجم الطلب وبيانات المبيعات والبيانات الداخلية السرية الأخرى للشركة، وبضمنها مخزون أفضل منتجات الشركة من أشباه الموصلات، الذي يجب أن يشمل أيضا المنتجات النهائية
(Finished products)، والعمل الجاري في السلسلة الانتاجية، والمنتجات الموجودة في المستودعات، ومنتجات الشركة التي تتمتع بأكبر عدد من الطلبات المتراكمة؛ بالإضافة إلى العدد الإجمالي للمنتجات، وسمات المنتَج، ومبيعات الشهر الماضي، وموقع الإنتاج والتجميع والتعبئة؛ وإدراج أكبر 3 عملاء لكل منتَج، ونسبة مبيعات كل منتَج للعميل؛ والاجابة على سؤال: في حال ما إذا كان الطلب على المنتج أكبر من قدرة العرض، فكيف تنظم الشركة توزيع العرض؟

لماذا تطالب أمريكا شركات انتاج الرقائق العالمية مثل TSMC و Samsung تسليم هذه البيانات؟ هي تدعي بأن دافعها هو معرفة سبب النقص في الرقائق العالمية، لكن السبب الحقيقي، كما صار معلوما لدى الأوساط الاقتصادية العالمية، يتمثل في أن الولايات المتحدة تريد الاستحواذ على سوق توريد الرقائق والاستحواذ على الحصة العظمى من هذه المنتجات النفيسة، مع الإمساك بأعناق منتجي أشباه الموصلات في البلدان الأخرى لتعزيز سيطرة الولايات المتحدة على العالم. و TSMC و Samsung هما أفضل قطع الشطرنج.

وترينا نظرة على الحصة السوقية العالمية لمنتجي أشباه الموصلات، بأن تايوان وحدها تضطلع بحصة تبلغ 63%، وكوريا الجنوبية على 18%. لكن،  طالما أن الولايات المتحدة تسيطر على شركة “TSMC” التايوانية، وعلى عمليات التسويق الخاصة بشركة سامسونج الكورية الجنوبية، فإنها تتمتع بالقدرة على التحكم في الطاقات الإنتاجية العالمية من أشباه الموصلات.

ومع أن واشنطن ذكرت عرَضا عبارة “تسليم البيانات بصورة طوعية”، الا أن وزير التجارة الأمريكي سارع للتنبيه الى أن “لدينا أدوات أخرى في صندوق أدواتنا يمكنها إجبار الشركات على توفير البيانات التي نحتاجها، لكنني أتمنى أن لا نضطر لفعل ذلك، لكن إذا تطلب الأمر، فسنقوم بذلك”. أي أن هذه الشركات، إذا لم تنصاع لأوامر واشنطن، فقد تلجأ السلطات الأمريكية بكل بساطة إلى “قانون إنتاج الدفاع الوطني” (قانون كان ساريا أثناء الحرب الباردة) لإجبارها على مشاركة المعلومات. وهو قانون يمنح رئيس الولايات المتحدة ثلاث سلطات رئيسية:

  1. الحق في مطالبة الشركات بتوقيع العقود المتعلقة بالدفاع؛
  2. الحق في إنشاء المؤسسات وتوقيع الأوامر الإدارية لتوفير المنتجات وتحسين الخدمات والمرافق ذات الصلة؛
  3. الحق في استخدام الاقتصاد المدني لتوفير المواد النادرة أو (و) الهامة للدفاع الوطني. ومن لا ينصاع لهذا القانون، من الدول أو الشركات، سيكون عدوا لدودا للولايات المتحدة بأكملها!  

على هذا الأساس، تم تقطيع أوصال العملاق الفرنسي ألستوم قبل 10 سنوات، ويتم خنق  شركة “Huawei” الصينية منذ عام 2018. لكن خلف هواوي تقف دولة عظمى مستقلة وقوية اسمها الصين، لذلك صمدت هواوي في هذه الحرب. لكن الأمر مختلف بطبيعة الحال بالنسبة لشركة “TSMC” التايوانية التي تنتمي لشبه دولة تتسول الاعتراف الدولي بها. 

القصة التي يرويها كتاب “المصيدة الأمريكية: معركتي لفضح حرب أمريكا الاقتصادية السرية ضد بقية العالم” (The American Trap: My battle to expose America’s secret economic war against the rest of the world)، تلخص ما يمكن أن نطلق عليه “الروشتة الأمريكية للاقتصاد النهبي” (Plundering economy). يقول ملخص القصة، كما رواها فريديريك بيروتشي (Frédéric Pierucci)، الرئيس التنفيذي السابق لإحدى الشركات التابعة لشركة ألستوم الفرنسية للطاقة (Alstom)، في الكتاب الذي ألفه بمساعدة الصحافي الفرنسي ماتيو آرون (Matthieu Aron)، ونشره في 17 مارس 2020، بأن شركة ألستوم الفرنسية تعرضت للخنق على أيدي السلطات الأمريكية، وتم تقطيعها، واجبار ادارتها على بيع خطوط انتاجها الأساسية لشركة جنرال موتورز الأمريكية بسعر منخفض للغاية. فكان أن فقدت فرنسا في عام 2014، جزءاً من السيطرة على محطات الطاقة النووية التابعة لها لصالح الولايات المتحدة. ووجد فريديريك بيروتشي نفسه في قلب هذه الفضيحة الكبرى. ففي أبريل 2013، ألقي القبض على فريديريك بيروتشي في نيويورك من قبل مكتب التحقيقات الفدرالي ووجهت له السلطات الأمريكية تهمة الرشوة، وسجنته لأكثر من عامين، قضى معظمها (أربعة عشر شهراً) في سجن سيئ السمعة شديد الحراسة. وبذلك، أجبر الأمريكيون شركة ألستوم على دفع أكبر عقوبة مالية فرضتها الولايات المتحدة على الإطلاق. في النهاية، تخلت ألستوم أيضا عن مواقع أعمالها في الولايات المتحدة لشركة جنرال إلكتريك، أكبر منافس لها في الولايات المتحدة. 

تكشف قصة فريديريك كيف تستخدم الولايات المتحدة قانون الشركات كسلاح اقتصادي ضد بقية العالم، بما في ذلك حلفائها. فتقوم بزعزعة استقرار بعض أكبر الشركات في العالم، عبر مختلف أعمال التخريب الاقتصادي كمقدمة لما ينتظرها لاحقا. ولحسن الحظ، إنه بعد إسكاته لفترة طويلة، قرر فريديريك بيروتشي الكشف عن حقيقة ما حدث لشركة ألستوم، وعن أدوات وأساليب الحرب الاقتصادية السرية التي تشنها الولايات المتحدة في أوروبا. 

لذلك، تضاعف الصين ميزانيتها العسكرية، وتدشن قبل أيام ثالث حاملة طائراتها. فهذه القوة الضاربة هي التي تحمي هواوي وقمم التكنولوجيا الصينية من التعديات الأمريكية. وهذا أيضا ما يفسر احتدام المواجهة مؤخرا بين الصين وأمريكا على تايوان. فاستعادة الصين لتايوان في الوقت الراهن، تعني سيطرة الصين الكاملة على سوق أشباه الموصلات العالمي، وتسيد ميدان التقدم التكنولوجي للنصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. ويفسر أيضا استماتة روسيا ومعها الصين من أجل انهاء نظام الأحادية القطبية (Unipolar system) الأمريكي واستبداله بنظام التعددية القطبية العالمي (Multipolar system)، والتي تقابلها استماتة شرسة من قبل أمريكا وتابعاتها الأوروبيات للاحتفاظ بالنظام القديم الذي وفر لرأسمالياتها الاستعمارية الكلاسيكية، امتيازات لا حدود قانونية أو أخلاقية لها، على مدار خمسة قرون.