رائعة ليف تولستوي: “الحرب والسلم”
ما الحرب؟ لماذا الحرب؟ هل ثمة سبب منطقي لنشوء الحرب، ما الذي يدعو الى أن يقتل الآلاف في معركة ما، ناهيك عن أعداد لا تحصى من الخسائر البشرية والمادية والمعنوية للمهزوم والمنتصر معاً؟
هل من الأسباب المنطقية أن تنشأ حرب طاحنة بين نابليون و أليكسندر ويروح ضحيتها الملايين بسبب روح الغزو لدى الفرنسيين، وحب الوطن لدى الروس، أو بسبب الإهانة التي تعرض لها دوق أولدنبيرغ؟!
في نظر تولستوي أن أيّ سبب تبريري قد يضعه المؤرخون لنشوء الحروب فهو بالضرورة سبب غير منطقي، فهو يتساءل: “لماذا اقتتلَ ملايين البشر وقتل بعضهم بعضاً بينما يعلم كل واحد منهم منذ أن كان العالم عالماً أن هذا الإقتتال وهذا القتل شر، روحاً وجسماً!.
لا يجد تولستوي جواباً عن كل تلك التساؤلات التي بحثها بحثاً معمقاً و أرّقته وشغلت فكره، ليخلص بعد طول تأمل الى أن تلك الروح الدافعة للاقتتال قد تكون ناتجة عن الحتمية التاريخية، أو النزعات البشرية البدائية القابعة في لا وعي الانسان والتي تحدد الكثير من سلوكياته والتي تظهر على السطح من حين لآخر بأشكال مختلفة منها: غريزة النزوع للسيطرة والغضب وإخضاع الآخر، أو ربما لأن طبيعة البقاء تسير على هذا النحو.
يظهر من تلك الصراعات والتدافع ماهو أقوى وأقدر على التكيّف والتطور وينتج ثقافات جديدة من ذلك الديالكتيك التاريخي. يقول تولستوي في إحدى فقرات الكتاب المؤثرة:”لقد اقتتلوا لأن الإقتتال والقتل أمران لا مفرّ منهما، فكانوا حين يقتتلون ويقتلون إنما يخضعون لذلك القانون الأولي، القانون الذي يخضع له قانون الحيوان، القانون الذي يخضع له النحل حين يقتل بعضه بعضاً في الخريف، ويخضع له ذكور الحيوان حين يفني بعضهم بعضاً. ليس هناك جواب آخر نجيب به عن ذلك السؤال الرهيب”.
قد يتعذر أن نضع تولستوي في خانة نصنفه فيها، فهو فيلسوف لأنه يقدّم من خلال رائعته هذه: “الحرب والسلم” فلسفةً تأملية عن حركة التاريخ وصيرورة الأحداث، وعن العلاقة بين الإرادة والضرورة، وهو أديب -من جهة أخرى- لأنه يقدّم فلسفته التاريخية هذه بأسلوب أدبي روائي. وهو حكيم لأنه خبَرَ تلك الفلسفة وتطبيقاتها على الأرض، وكانت حياته الشخصية مليئة بالتجارب والتبدلات، فمن بداياته التي كان فيها شاباً غِرّاً مستهتراً إلى مشاركته في بعض الحروب كجندي ثم ضابط نبيل، إلى استقالته وتحوّله لإداراة أملاكه الضخمة التي ورثها من عائلته، ثم في أواخر عمره باع كل ممتلكاته وحرر كل عبيده سالكاً طريق التصوف والتنسك والزهد، لتنتهي حياته في محطة قطار بعد أن قطع مسافات سيراً على قدميه في الصقيع، بلباسه الصوفي الخشن وعصاه البالية، نائياً عن كل مباهج الحياة. إن حياة كهذه متغيرة متبدلة باستمرار لا تنتج عن شخص عادي.
كما أن تولستوي شخص استثنائي عصيّ على التصنيف، ف “الحرب والسلم” هي أيضاً بدورها عصيّة على التصنيف، هي ليست رواية بالمعنى العام المتعارف ولا هي تأريخ لأحداث مضت على شاكلة كتب التاريخ ولا هي نسقاً أو منهجاً فلسفياً، إنما تجمع كل ما ذُكِر آنفاً. يقول تولستوي في مقدمة “الحرب والسلم” تعريفاً بالعمل وتقريبه من القارىء (الإقتباسات بترجمة سامي الدروبي): “ما كتاب الحرب والسلم؟ ليس برواية، ولا هو بقصيدة ولا سِجلّ لوقائع تاريخية. إن “الحرب والسلم” هو ما أراد المؤلّف وما استطاع أن يعبّر عنه في هذا الشكل الذي عبّر به عنه. إن تصريحاً كهذا التصريح عن عدم الإكتراث بالأشكال المتعارف، او المتفق، عليها في الإنتاج النثري يمكن أن يبدوا غروراً لو كان مقصوداً وإن لم يكن له نظير وأشباه. إن تاريخ الأدب الروسي منذ بوشكين حافل بأمثلة كثيرة على هذه المخالفات للأشكال المأخوذة عن أوروبا، بل إنه خالٍ من مثال واحد على نقيض ذلك. فمن كتاب غوغول “النفوس الميتة” الى كتاب دوستويفسكي “ذكريات من منزل الأموات” لا نقعُ في هذا العهد الحديث من عهد الأدب الروسي على أي أثر فني نثري ذي شأن يتقيد تقيداً تامّاً بشكل الرواية أو القصيدة أو القصة”.
تعمدت أن أنقل هذا الإقتباس الطويل نوعاً ما ليلتفت القارئ الى أن “الحرب والسلم” ليست كمثيلاتها من الروايات خارج الأدب الروسي، إنما هي مزيجٌ مكثّف بين فلسفة التاريخ وسيرورة الحركة التاريخية وملاحم الحروب المحتدمة بين نابليون و أليكسندر منذ حرب 1805 و 1807 وانتهاءاً بالحرب الكبرى بينهما التي اشتعلت في العام 1812، ودخل بعدها نابليون بجيوشه الى موسكو للمرة الأولى وما لبث أن اسحب منها هارباً ليلاحقه الجيش الروسي إلى باريس في حركة ارتدادية، ولم يتوقف ألكسندر إلا بعد أن تفشى الفساد والفقر مادفع الى قيام ثورة شعبية ضده يقودها نخبة من نبلاء الطبقة الأرستقراطية في العام نفسه.
لازمتني هذه الرواية على مدى ثلاثة شهور عشت حياة شخوصها، استقراراها وتقلبها وموت بعضها، كان موت الأمير آندريه بولكونسكي مؤثراً جداً وكذلك حياته الزاخرة بالتأملات الوجودية. عشت معها أجواء السلم والعائلة و أجواء الحرب بكل تفاصيلها التي أبدع تولستوي في وصف أدق جزئياتها وصفاً مسهباً منقطع النظير، لعله أبلغ وأكثر دقة من وصف صحفي على نشرة الأخبار. عشت مع تولستوي أجواء الحرب التي مابرحت تشتعل في مناطقنا وهي ماتزال محتدمة في أماكن متعددة، والمصادفة أنني كنت أقرأ الرواية في فترةٍ تزامنت مع اجتياح روسيا لأوكرانيا، وبدء حرب طاحنة أخرى قد تتصارع على أثرها الأقطاب الكبرى، على أن الفرق بين هذه الحرب والرواية أن روسيا كانت تتعرض للغزو من فرنسا واليوم مايحدث هو العكس روسيا هي من تلعب دور المهاجم الأوحد وربما تتقدم روسيا نحو مناطق أوروبية أخرى مايهدد بنشوب حرب كونية جديدة بأدوات أكثر تطوراً وفتكاً، لتعود التساؤلات الكبرى التي لم تغب إلا لتعود، وهو مايعبر عنه تولستوي في نص بليغ من نصوص الرواية: “كان لابد لملايين الرجال الذين فقدوا رشدهم وأضاعوا صوابهم وطرحوا كل العواطف الإنسانية أن يسيروا من الغرب إلى الشرق وأن يقتلوا أمثالهم من البشر كما سارت قبل بضعة قرون جماعات من الرجال، من الشرق الى الغرب ليقتلوا أيضاً أمثالهم هناك”
تحتوي “الحرب والسلم” على العديد من الشخصيات التي تصل، كما يقول النقّاد، إلى أكثر من 550 شخصية، وأنا واقعاً لم أعدّها، إنما كان تركيزي على الشخصيات المحورية المهمة والملهمة التي صاغها تولستوي من تجاربه الطويلة بالبشر ومن حكمته العالية، فمثلاً الأمير آندريه وناتاشا الشخصيتان الأكثر صفاءاً وشاعرية وعنفوان، والأميرة ماريا رمز العفة والصبر والإنعتاق، والكونت بطرس بيزوخوف بتجاربه العديدة وتقلباته بين الشكّ واليقين، وسعيه الحثيث نحو المعنى بعد أن أهدر جزءاً من حياتهم على الملذات والترف وهو يذكر ذلك في اعترافاته في أكثر من موضع. إن القارئ لهذه الشخصية وسيرة تولستوي يجد تقارباً كبيراً بينهما، وكأن تولستوي وضع نفسه في هذه الشخصية حتى تحسّ في بعض المواضع أنه يتحدث عن نفسه من خلال بطرس بل حتى شكل الشخصية في الوصف يشبه تولستوي إلى حد بعيد، من جسم بطرس الضخم إلى وجهه العريض وشعر رأسه القصير ولحيته الكثّة…
يتعمق تولستوي في تأملاته وتصوراته محاولاً فهم حركة التاريخ وسيرورة الزمن وصيرورة الأشياء والأحداث الكبرى التي تغيّر مابعدها عن ماقبلها تغييراً قد يكون جذرياً. ما الذي يحرك الحدث التاريخي؟ يتساءل، هل الرجال تصنع التاريخ، أم التاريخ يصنع الرجال؟ من الذي يُحرّك التاريخ الأحداث أم صانعيها؟ وصل تولستوي بعد بحثه المكثف في الكتب التاريخية ومتابعته لسير الأحداث الكبرى إلى نتيجة مفادها أننا إذا أرنا أن نفهم سير الأحداث وحركة التاريخ لابد أن نفهم وندرس أولاً وقبل كل شيء ماهيّة التاريخ. “ما التاريخ”؟، وهذا التساؤل المعمّق الى جانب تساؤل لماذا الحرب يسيران معاً في مسار “الحرب والسلم”، بأجزائها الأربعة، ويتداخلان مع أحداثها وشخصوها بصورة غير مباشرة في أغلب الأحيان وقد تتخذ بعض الفصول طابعاً تحليلياً لهما.
مايثير الدهشة حقيقةً أن الأحداث التاريخية الكبرى التي تحدث من تدافع البشر، تكرر نفسها باستمرار وبنفس الأخطاء السابقة، وكأن الإنسان وهو الكائن الوحيد العاقل االذي لايتعلم من أخطائه فيما يتعلق بالجانب التاريخي ولعل هذا يذكرنا بمقولة هيغل التهكمية:”التاريخ يعلمنا أن الإنسان لا يتعلم شيئاً من التاريخ”.
ويشدد ماركس على أنه لابد لنا من أن نستفيد من التاريخ حتى لا نقع فريسة التكرار والإستغلال: “الذي لا يعرف التاريخ محكوم عليه بتكراره”، بينما يحاول تولستوي تحليل التاريخ وحركته بإحالته إلى قوتين تحرك سير البشر والتاريخ معاً هما الضرورة والإرادة، وأنهما لابد أن يوجدا معاً وبنسب متفاوتة، وبالتالي تضمن وجود الإنسان وسيره في الزمكان. لو تصورنا حريّة مطلقة لأصبح الإنسان خارج الزمان إذن فهو منعدم الوجود، ولو تصورنا ضرورة مطلقة لخسر الإنسان كل ملكاته العقلية والجسمية وأصبح قلباً جامداً إذن فهو منعدم الوجود: “وهكذا فالفكرة التي تكونها عن الحرية والضرورة تنقص أو تزيد تدريجياً بحسب ما تصغر أو تكبر تبعياتها للأسباب التي نبحث بينها عن هذه المظاهر، إذن فــ”العقل يعبّر عن قوانين الضرورة، والشعور يعبّر عن جوهر الحرية…الحرية هي مانفحصه، والضرورة هي ما يُفحص، الحرية هي المحتوى والضرورة هي الشكل. وعندما نفصل بين هذين المصدرين للمعرفة ونسبة أحدهما الى الآخر كنسبة المحتوى الى المحتوى نتوصل الى مفاهيم ينفي بعضها بعضاً ثم أنها غير مفهومة، إنما نتوصل الى تصوّر لحياة الإنسان عندما نجمع بين هذين المصدرين”، على هذا النحو ممكن أن نفهم سير الأحداث التاريخية، فالجوانب التي نعرف أسبابها هي قوانين الضرورة أما التي نجهل مسبباتها ولا نعرفها هي مانسميه الحرية، لأن “الحرية بالنسبة الى التاريخ ما هي إلا التعبير عن البقية المجهولة مما نعرفه عن قوانين الحياة الإنسانية”
واجهتني بعض الصعوبة في الدخول في أجواء الرواية من الفصل الأول من الكتاب الأول الذي أعتقد أنه أصعب فصول الرواية، أسماء ومواصفات لشخصيات عديدة جداً، إذ تبدأ الرواية بحفلة عشاء أرستقراطية فخمة وتبدأ الشخيات بالحضور، جماعات وأفراداً، فيسهب تولستوي في وصف ورسم كل شيء من المكان واللبس والهيئات والإنطباعات وصفاً دقيقاً ثم تبدأ مناقشات العائلات حول قضية الحرب الوشيكة، لكن وما إن ندخل الفصل الثاني يتغير الوضع تماماً وتأخذ الرواية طابعها الملحمي.
أضع مراجعتي وقراءتي المتواضعة هذه ل”الحرب والسلمط، وأعرف أنه قد سبقني عددٌ لايحصى، قرأوا الحرب والسلم منذ صدورها مجزءةً في إحدى الصحف الروسية بداية من عام 1869، وبعد أن أجرى عليها تولستوي الكثير من التعديلات والإضافات الى أن وصلتنا بهذا الشكل وهي في نسختها العربية الموزعة على أربعة أجزاء تناوب على ترجمتها سامي الدروبي (التنوير ج1/ج2) وصياح الجهيم (المدى ج3/ج4)، والترجمتان جيدتان- وكل قارئ قد قرأها وسيقرأها سيقدمها بحسب تصوراته الخاصة والزاوية التي يتناول منها العمل.
كثيرون قدّموا لهذا العمل الخالد مراجعات ومقالات بحسب تأملاتهم الخاصة المتعددة ودراستهم لها، وسيأتي آخرون يضيفون تحليلات جديدة يستخرجون من النص أشياءً ربما لم يلتفت لها السابقون بسبب تغير الأزمان والأمكنة وتعدد القراءات، مايضيف إلى الأعمال الأدبية من هذا النوع زخماً وخلقاً وانبعاثاً متجدداً باستمرار. يقول ألبيرتو مانغويل:”كل قارئ يوجد كي يضمن لكاتب معين قدراً متواضعاً من الخلود، القراءة بهذا المفهوم هي طقس انبعاث” الكاتب يبذل جهده في تأليف عمله والقارئ يبعث فيه الحياة ويمنحه صفة العظمة و الخلود.