صناعة الوهم من حقيقتين

0
44

باسم النظام، يتم توليد الخوف…وبفعل الخوف، يتم فهم النظام نفسه.

ممدوح عدوان

في مسرحية “ليلة القتلة”*، يصور الكاتب الكوبي خوزيه ترييانا ثلاثة إخوة قرروا الخروج عن السلطة الأبوية التي تضغط عليهم بشكل كبير، ولينتقموا من سيطرة الأب وتقاليد الأم التي تدفعهم للظهور كما يرغبون هم، لا كما يرغب الأبناء. لذا، تتجلى ثورة الأبناء في بعض التغييرات لثوابت صغيرة في البيت، لا تتم المواجهة بها، بل التنفيس بطريقة أخرى. وهذه الثورة لا تتعدى جدران الغرفة التي تحمل كل مرة أحلامهم في إعادة ترتيب مكونات البيت كما يرون؛ ذلك أنهم مقموعون طوال الوقت، حتى في أدنى درجات التعبير عن رغباتهم، أو هكذا يصورون لنا عبر الصورة التي ينقلونها!

ويبدو أن الكاتب مهتم بالعلاقة بين الآباء والأبناء، حيث قدّم – قبل هذا النص – نصين آخرين هما “ميديا في المرآة”، و”موت تاك”، اللذين عرض فيهما وجهة نظر الآباء، بينما ظهر في هذا النص يتكلم بصوت الأبناء – حسب رأي المترجم العشري(1) – مع أنه رأي قد يجانب الصواب، لو نظرنا إليه من زاوية مختلفة، لأن أي متلقٍّ – حسب ما يشاهد – سيتعاطف يقيناً مع الأبناء، لأنه متوقع حسب ترتيب السلطة في أذهاننا جميعاً، وحسب الفكرة، أن القوي يبطش، ويقمع، ويمنع، ويسيطر. لكن، ماذا لو كان هؤلاء مصابين بجنون الارتياب “البارانويا”، وهم أبناء مدّعون، وكذبة، وملفقو تهم؟ ومن غير الوارد أن تخطر هذه الفكرة على بال متلقٍّ يشهد أحداثاً مسرحية، من البداية وحتى النهاية، لأفعال تمثيلية تنفس عن القهر والظلم من “السلطة”، ولعل كل ما سيفعله هو التفكير في خلاص هؤلاء “المساكين”! 

عبر قنوات تنقل العروض المسرحية عبر الأثير، هناك نسخ عديدة من “ليلة القتلة” قدّمت بطريقة أقرب لتنفيذ النص، لكنها هنا بإمضاء المخرج صبحي يوسف، الذي ارتأى أن يصنع شكلاً جديداً، بعد أن تمّ تقديم أول معالجة عربية لهذا النص بترجمة وتقديم وافٍ للدكتور فتحي العشري في عام 1979، والتي قدمت آنذاك على خشبة مسرح الطليعة، وهو نفس المسرح الذي يقدّم عليه العرض اليوم، مع رؤية مغايرة ومتقدمة. فقد قام يوسف بخلق نسخ مضاعفة من الشخصيات؛ إذ هناك ست شخصيات – ممثلان لكل شخصية – تدور في فلك القتلة؛ ذكران وأربع إناث، عمل المخرج على خلقهم بشكل يؤكد تكرار هذه المسألة عبر الأجيال، وتأكيدها، وتثبيتها، والتحقق منها، وبأنها مستمرة لا تتوقف. 

وكما الكاتب المسرحي الفرنسي فعل جان جنيه في “الخادمات”، حين حشد بطلتي نصه في الحلم بالثأر من سيدتهما التي تسيء معاملتهما، فتقومان بالرد عن طريق الحلم برد الإهانة، عبر تبادل الأدوار في كل ليلة: السيدة والخادمة التي تنكِّل بها كلما أمكنها ذلك. ودخول الخادمتين هنا، أو الأبناء الثلاثة في نص خوزيه ترييانا، في مسألة التقليد تدخل في التطهير الأرسطي Catharsis المعني بالتنفيس الوجداني، والإنفعال الذي يحرر من المشاعر السلبية للمتقمصين في النصين، وبالطبع للجمهور الذي يشعر بالخوف والشفقة، فيتحرر مما علق به. لذا تتطور طريقة تنفيس الأبناء بأن يقرروا قتل الوالدين، والقضاء على السلطة التي تضيق الخناق عليهم، وامتد بهم الحلم إلى تمثيل هذا القتل، والقبض عليهم متلبسين بهذا الجرم، ثم محاكمتهم. كل هذا يتم في ظروف نفسية وجسدية صعبة، حتى ينتهوا من هذه المهمة المرهقة، ويستسلمون، ثم في اليوم التالي تبدأ اللعبة مجدداً ومجدداً.

يهيئ المخرج المسرح لأن يحاصر جمهور العرض من جهتين مقفلتين، داخل سياج من الشرائط الصفراء “مجمد الأماكن”، التي توضع عادة في مسرح الجريمة، تحديداً لمكان وقوع الفعل. لذا، في الدخول الحذر للعرض، مع ترديد الممثلين الستة المتكرر جملاً مختلفة، مخصصة لكل منهم على حدة، جملاً متعلقة بأوامر أو تعليمات، كل جملة منها لا تحقق إفادة كاملة: “الصالون ليس صالون، الصالون هو حجرة النوم، الحجرة ليست حجرة، الحجرة هي الحمام، الحمام ليس الحمام، الحمام هو البستان، الزهرية تضع على الأرض وليس على المائدة …”(2). لكن حزمة الجمل متجمعة تكوِّن صورة متعلقة بالسؤال: لم لا يحدث هذا التغيير “الصغير” المبتغى؟

أن تكون المزهرية على الأرض، أو طفاية السجائر على الكراسي، كلها أمور غير معتادة، لكنها ممكنة، والخروج عنها لا يعدّ مخالفة عظمى. لكنها في نظر هؤلاء الأبناء منتهى الثورة التي ولّدتها كثرة التعليمات والإرشادات والمحاذير التي ضيقت الخناق عليهم بما يكفي لأن يمارسوا تمثيلهم كل ليلة من أجل استرداد “كرامتهم” المسحوقة في هذا البيت. هذا الشعور سيمكن المتلقين من القفز بتلقائية على مشاهدة العرض بشكله المجرد، أي في حدود العلاقة العائلية الظاهرية. فموضوع السلطة سيسري على جميع أبعاد السلطة التي يشعر معها الفرد بذات الاختناق: فمن بعد سلطة العائلة، تأتي ربما سلطة مسؤول العمل المسيطر/ المجتمع المكون من أفراد يمارسون، مجتمعين، هذا الاضطهاد لبعضهم/ قمع بعض الحكومات المبالغ فيه، وغيرها من درجات السلطة والتحكم التي تحيل الفرد إلى شخص منتهك، وعديم الشخصية، ولا رأي له إلا ما يملى عليه، وعلى المتلقي أن يقيس بالعرض السلطة التي تخنقه هو شخصياً، وأيضاً أن يعيد النظر في مضمون تهمة الأبناء!

يترجم العرض هذا الصراع حين يصنع من المتفرجين جمهور حلبة مصارعة، ويورطهم في فرجة تشجيع أي فريق: الأبناء قليلي الحيلة – كما يُصورون لنا – أم الآباء المتسلطين الذين يمنّون على أبنائهم بأقل حقوقهم مقابل التحكم بهم وبمصيرهم – كما يصورون لنا أيضا!- ومن لالو الابن الذكر تحديداً الذي يحمل طول الوقت إحساس المهانة والتبعية لوالديه، لذلك لا يدخر فرصة لأن يعبر عن هذا في معرض تبريره لأختيه، عن أسباب عدم رضاه وغضبه طوال الوقت، فيحرِّض أختيه كلما هبط حماسهما للعبة، كوكا وببا، اللتين ترغبان في الإنسحاب عند أول فرصة متاحة، لأن ما تفعلانه متعب، ومؤذٍ نفسياً لهما. أما رأس التمرد، لالو، فيعبر في مضمون كلامه عن الأوامر التي تملى عليه حتى ينفذ من غير نقاش، وألا سيكون الطرد مصيره، في حين يقرّ بأنهم لم يعلموه ما يمكن أن ينفعه حين يغدو وحيداً ومطروداً! وهذا ما يعزز فكرة البارانويا. 

وتعين سينوغرافيا العرض على فهم الحدث من خلال عناصر مرسومة بدقة، مثل الإضاءة التي لعبت دوراً مهماً في مساندة أفعال الشخصيات، وتغيير الأماكن بحرفية من خلال تشكيل الفضاء المسرحي مع بقية العناصر، وأيضاً التكوينات في المشاهد المتغيرة والمتلاحقة التي يبدل الممثلون فيها الاكسسوارات لتقمص شخصيات الوالدين والجيران، حيث يظلم جزء ويُضاء الآخر ليشهد الجمهور الحاضر، ويصوغ دلالات جديدة تؤكد أهمية التعامل مع هذه العناصر بتقنين مقصود من أجل توضيح حالة، وليس استعراضاً لبراعة التعامل مع حركة الممثلين مع ما يرافقهم من ضوء ولون وديكور وغيرها، وأيضاً ضرورة الرؤية الكلية بعين بصيرة للكتلة والفراغ.

أما بالنسبة للأزياء التي تأخذ على عاتقها إيصال جزء من علامات العرض للمتلقي، مثل الظرف والزمن والحالة وما حواليها، فلم تكن إلا مزيداً من الدخول في التكرار والتوحد مع الشخصيات المستنسخة من بعضها، التي تدعو لتسليم الأجيال بعضها نفس المبادئ التي استقوْها من المصدر سابقاً! زي موحد يشبه ملابس النوم المكونة من سروال وقميص مخططين يعبران عن الاعتياد والنمطية في الخطوط المستقيمة المتجاورة، ولكنها غير متصلة ببعضها، وهكذا نظل في دوائر هذه اللعبة دون أجل انتهاء، ليس بسبب تراجع في الفهم، بقدر ما هو استسلام، واستسهال الحلول الجاهزة المعدّة للاستهلاك.

ثم ماذا عن صورة العرض المعدّة للإعلان عنه؟ يتوسط لالو الصغير اللقطة بتعبير شقي مستفز، كأنه يريد أن يستحوذ على المشهد كله، كما في صميم شخصيته المتمردة. أما لالو الكبير، فيبدو أنه يأخذ شخصية الأب بتعبيره الجاد عن الجملة النمطية التي وردت في النص “عمري كله ضاع في تربيتكم وأنتم ولا أنتم هنا؛ تلاتين سنة على مكتب حقير تحت رجلين رؤسائي اللي هما مجرد شوية موظفين. مش عارف اشتري لنفسي بنطلون زي الناس، ولا حتة جزمة عدلة..”، وهي تقال بنفس المعنى في أشكال مختلفة لتذكير الأبناء بسيل النعم غير المقدرة التي يعيشون فيها! وتحاول ببا وكوكا -الصغيرتان والكبيرتان- أخذ وضعيات مختلفة تعبر عن حالة الدخول والخروج من شخصيات الآباء والأبناء بتناقضاتها، مما يؤدي إلى توليد الثورة والفوضى والجريمة، حتى لو حلموا بذلك ولم ينفذوه في وقتها، ستظل الجمرة متوقدة تحت الرماد حتى يحين ذلك الوقت.

ولولا ما وقع فيه المخرج من لفظة “إعداد” على منشورات العرض، لعمله المسرحي المتقن بعناصره، لما كانت هناك ملاحظات تذكر على “ليلة القتلة” سوى بعض الهنات التي تدخل ضمن وجهة نظر المخرج ورؤيته الإخراجية. ويبقى أن خيار الحقيقتين المؤكدتين التي انطلق منهما، وهما: فكرة المظلومية الأولى، والثورة، ثم الانتقام والقتل في “ليالي” الأبناء القتلة، وصوت الآباء الذي سمعناه من خلال أبنائهم، دون التيقن إن كانت هذه حقيقة أم محض خيال جامح عبّروا عنه تنكيلاً بما يتعرضون له من سلطة “محتملة” داخل البيت، خاصة أن السلطة، المتمثلة في الأم والأب، من الممكن أن تختلف على من يمسك بزمام الأمور في نهاية الأمر، وقد يسبب هذا الاختلاف شتاتاً لا قرب بعده. إذاً، فليلة القتلة مراجعة الذات لطرفي الصراع، وليس لأحدهما، وعلى سبيل ما يرميه العرض لمتلقيه، هو: على الآباء التخلي عن الطرق التقليدية القاتلة، وأن يفهم الأبناء أن كل ما يحصل هو لأنهم أهل استلموا نفس الإرث ممن سبقوهم، وكل ما فعلوه هو التعامل بما عوملوا به وحسب.

  1. ليلة القتلة، خوزيه ترييانا، ترجمة وتقديم: فتحي العشري، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 
  2.  نفس المرجع السابق، ص25.

*مسرحية ليلة القتلة: تمثيل: إيميل شوقي، ياسر مجاهد، نشوى إسماعيل، مروج، لمياء جعفر، شيماء يسري. موسيقى وألحان: محمد حمدي رؤوف، أشعار: عوض بدوي، ديكور وأزياء: سماح نبيل، إضاءة: إبراهيم الفرن، مخرج منفذ: وليد الزرقاني.